تبرز منظمات المجتمع المدني والحقوقي في طليعة الاهتمامات طوال المرحلة الماضية التي يعيش فيها اليمن ظروفًا استثنائية فرضتها الحرب وتبعات الصراع الدائر في البلاد منذ العام 2015، إذ كانت العيون الكاشفة للانتهاكات وممارسات أطراف الصراع، محل الجدل والإثارة أكثر من الأطراف المنتهِكة التي كانت "السجون" أهم إنجازاتها، حيث صادرت الحقوق والحريات واستخدمت كل الوسائل المتاحة لصناعة وإنتاج الرعب بكل الصور والطرق المتاحة.
مع حلول العام الحالي 2024، توقع الكثيرون أن يكون هناك انفراج أو حالة من الهدوء في أوساط المجتمع المدني بعد نحو تسع سنواتٍ كانت غالبيتها سنوات عاصفة في البلاد بشكل عام، وعمَل المجتمع المدني بشكل خاص، لكن الصورة كانت مغايرة تمامًا، فلم يكن هذا العام سوى فصل جديد للعمل الإنساني والحقوقي والتنموي الذي يمر بمرحلة صعبة وخطيرة، ولم يكن على المحك طيلة عشر سنوات من النزاع مثلما هو عليه الآن، جميعُ العاملين في هذا الفضاء يتنفسون اليوم بصعوبة.
وسط كل ذلك، تستحوذ منظمة "مواطنة" لحقوق الإنسان، على الجزء الأكبر من الاهتمام، وأيضًا من الجدل والإثارة. كانت المنظمة الأهم في العمل الحقوقي اليمني عُرضةً لسهام التشكيك والاتهامات، وحتى التحريض إذا جاز التعبير، سواء من ناحية استمرارها بالعمل من صنعاء، حيث يحكمها أنصار الله (الحوثيين) بقبضة حديدية، وأفرغوها من كل ما يتصل بصِلة للمجتمع المدني، أو من ناحية اسم رئيسة المنظمة، الذي جعلها دائمًا محل تشكيك في علاقة ذلك باستمرارها بالعمل من العاصمة اليمنية صنعاء.
تشعر رئيسة المنظمة، رضية المتوكل، بالفخر بما تم تحقيقه وسط ظروف صعبة وشاقة، وأن التشكيك بمبدأ الحياد والشفافية التي يتم انتهاجها، هو بسبب نجاح المنظمة وقوة التأثير والحضور محليًّا ودوليًّا، وليس بسبب "اللقب": "لا يساعدني أن أكون في صنعاء، ولا يمنعني من التواجد في مناطق غير صنعاء".
التوازن القائم على الحياد والمهنية
في الوقت الذي تستمر فيه أطراف الصراع بممارستها الانتهاكات ضد المدنيين والفضاء المدني، بعكس ما يبدو عليه الوضع من توقف للحرب، حيث إن هناك ارتفاعًا في الانتهاكات المتعلقة بالفضاء المدني؛ بين احتجاز تعسفي وتهديدات وتقييد للحريات وإيقاف عمل المنظمات ومؤسسات المجتمع المدني. في الوقت نفسه، تستمر "مواطنة" بكل ثقة في عملها بأفق متجدد ومنهجية تستشرف فيها متطلبات كل مرحلة من مراحل الوضع الطارئ الذي تمر به اليمن، وسط تساؤلات عديدة عن بقاء المنظمة، بعيدةً عن كل هذا الصخب والقيود، الذي تفرضه أطراف الصراع، ودورها بصفتها منظمة حقوقية، في مواجهة ذلك.
كانت الدول الأوروبية وأمريكا، خلال الحرب في اليمن، تبيع أسلحة للسعودية والإمارات، حيث ارتكبت هذه الدول -كما تم توثيقه وإثباته من منظمة مواطنة لحقوق الإنسان- جرائمَ حرب وانتهاكات وبقايا أسلحة تم على إثرها رفع العديد من القضايا في فرنسا وإيطاليا، والمشاركة بقضية في بريطانيا، بالرغم من ذلك يظل البحث جاريًا عن إيجاد آلية المساءلة التي من خلالها يتم محاسبة جميع أطراف الحرب.
تتطرق المتوكل إلى نقطة قوة قد تتميز بها المنظمة، التي يضع البعض تساؤلات تتركز حول الازدواجية في عملها أو الميل تجاه بعض الأطراف؛ تكمن تلك النقطة في نهجها وتقاريرها التي تتسم بالشمول في العمل ضمن نطاق جميع الأطراف، وأن هذا الشمول المتوازن القائم على الحياد والمهنية ساهم إلى حد كبير في تيسير الكثير من التعقيدات بشأن عمليات الإفراج عن المحتجزين تعسفيًّا .
تضيف بالقول: "صحيح لم نستطع إيقاف حالات الانتهاكات والتعذيب والاحتجازات التعسفية، إلا أننا نذكّر كل الأطراف أننا في بلد لا يزال فيه قانون ودستور، وأنهم ملزمون أن يتخاطبوا معنا بالقانون والدستور، وعليه نتخاطب في الخلل القانوني".
لكن من خلال ردود مختلف الأطراف، والحديث للمتوكل: "نجدهم يسوقون مبررات وتهمًا لهؤلاء المحتجزين أو الذين وقع عليهم الانتهاكات، بأنهم عملاء لهذا الطرف أو ذاك، لكننا نوضح لهم أن القانون اليمني يمنع الاحتجاز التعسفي والاختفاء القسري والتعذيب في كل الأحوال، ومن خلال هذه اللغة استطعنا أن نجبر مختلف الأطراف على التعامل معنا، والتعامل مع مذكراتنا، والتعاون في الإفراج عن عدد من المحتجزين".
وتشير المتوكل إلى أطراف النزاع، وفقًا للوقائع التي غطتها مواطنة طوال سنوات الحرب، منذ العام 2014، وهي: جماعة أنصار الله (الحوثيين)، والتحالف بقيادة السعودية والإمارات، والحكومة المعترف بها دوليًّا، والمجلس الانتقالي الجنوبي، والقوات المشتركة؛ وبقية المجموعات المدعومة من الإمارات، إضافة إلى الطائرات بدون طيار الأمريكية.
فضلًا عن بعض أنماط الانتهاكات التي يتم رصدها وتوثيقها، مثل: الألغام، والقصف الجوي والبري، والهجوم على المدراس والمستشفيات، وتجنيد الأطفال، والتجويع.
هنا يأتي دور المساءلة
من البديهي أن يتركز عمل المنظمات الحقوقية في رفع صوت الضحايا، وتكريس ذلك مع منظمات دولية ومحلية في رواية الحرب اليمنية على المستوى الدولي، غير أن ذلك لا يكفي بعد أن أصبحت الحرب متجاهلة عن عمد، وهو الأمر الذي يقتضي البحث عن طرق أخرى من العمل، وهنا يأتي دور "المساءلة".
تتابع: "اكتشفنا أنّ العالم كله مصمم على أساس يعزز الحصانة أكثر من المساءلة، لكننا نعرف أنّ هذا ليس قدرًا حتميًّا، وأنه يمكن أن تتحقق المساءلة".
يتطلب ذلك أيضًا طرق أبواب المساءلة الجنائية على المستوى الدولي بأكثر من طريقة، إذ تشير المتوكل إلى الزاوية التي بالإمكان النفاذ منها إلى المساءلة الدولية: زاوية الأسلحة؛ لأن هناك دولًا لديها قوانين تلزمها ألا تبيع أسلحة لدول أخرى ثبت أنها قامت بانتهاكات وجرائم حرب.
كانت الدول الأوروبية وأمريكا، خلال الحرب في اليمن، تبيع أسلحة للسعودية والإمارات، حيث ارتكبت هذه الدول -كما تم توثيقه وإثباته من منظمة مواطنة لحقوق الإنسان- جرائمَ حرب وانتهاكات وبقايا أسلحة تم على إثرها رفع العديد من القضايا في فرنسا وإيطاليا، والمشاركة بقضية في بريطانيا، بالرغم من ذلك يظل البحث جاريًا عن إيجاد آلية المساءلة التي من خلالها يتم محاسبة جميع أطراف الحرب.
البقاء في نطاق أطراف متقاطعة
تبرز العديد من الصعوبات والتحديات والعوائق أمام مختلف الأنشطة والأعمال، وسط جغرافية ممزقة، تصدم فيها بجدار وحواجز ضخمة، في ظل تعدد السلطات التي تحكم هذه الرقعة الجغرافية.
تبدي المتوكل استغرابها في كيف تحول الصبر والإصرار على البقاء داخل الوطن للدفاع عن الناس والضحايا، إلى تهمة! مؤكدةً البقاء والتواجد في كل ربوع الوطن، رغم كل التهديدات والاعتقالات والاحتجازات المتكررة لفرق المنظمة الميدانية، ورغم حملات التشويه من أشخاص متواجدين خارج البلاد.
فوق ذلك، تضيف المتوكل في حديث (بودكاست) مع قناة "مفاتيح"، أن "مواطنة" تعرضت لحملات مكثفة بهدف إضعاف مركزها الأخلاقي وتشويه سمعتها، في حين ترى أن أهم ردٍّ على هذه الحملات يكون بالمزيد من العمل، وذلك بالنظر إلى أن قوة أي منظمة تكمن في قدرتها على صياغة بنى قادرة على الاستمرار وترسيخ بنائها المؤسسي .
تقول إنه من الصعب في اليمن العثور على منظمة مدنية ثابتة تعمل بمهنية ضمن قواعد مؤسسية راسخة؛ لكن "مواطنة" التي أسّستها المتوكل مع عبدالرشيد الفقيه، تبدو استثناء من بين مختلف وحدات المجتمع المدني في البلاد التي تشهد نزاعًا هو الأسوأ في تاريخه .
لكن يظل السؤال الذي يشغل بال الكثير؛ عن سبب بقاء "مواطنة" في صنعاء على خلاف بقية منظمات المجتمع المدني، والذي قد يكون ضمن أسباب الحملات المصوبة تجاهها. في ذلك، ترد رئيسة المنظمة بسؤال آخر: أين نذهب؟ مواصلةً حديثها: "لسنا في صنعاء فقط؛ فرق المنظمة الميدانية متواجدة في جميع المحافظات، بما في ذلك عدن وتعز ومارب وصنعاء".
في حين تُبدي استغرابَها في كيف تحول الصبر والإصرار على البقاء داخل الوطن للدفاع عن الناس والضحايا إلى تهمة! مؤكدةً البقاء والتواجد في كل ربوع الوطن رغم كل التهديدات والاعتقالات والاحتجازات المتكررة لفرق المنظمة الميدانية، ورغم حملات التشويه من أشخاص متواجدون خارج البلاد.
تختتم حديثها بالقول: "صحيح العمل في اليمن صعب جدًّا، لكنه ليس مستحيلًا، ولكي تستطيع أن تعمل ضمن نطاق هذه الأطراف المتقاطعة؛ ستحتاج إلى قوة واستقلالية ومهنية لتثبت وجودك قدر الاستطاعة".