على خلاف شطحات وعنتريات الكتابات التي سطّرها بعض المشاركين في مشاورات (الرياض 2) التي تديرها اللجنة الخاصة السعودية وكتابات أتباعهم من الذباب في شبكة التواصل الاجتماعي، جاءت الوقائع مختلفة.
يرى الكثيرون من الحضور الذين اعتادوا الكتابة، كلٌّ لصالح مولاه، أكّدوا أنّ المشاورات إنما تتهيأ لتوحيد الصفوف "لمواجهة الحوثيين والقضاء على النفوذ الفارسي و... و... و"، وكأنّ الحرب قدرٌ مقدور في عقولهم لا يمكن تجاوزه.
أطاحت السعودية بالرئيس ونائبه، وجاءت بمجلس قيادة رئاسي -(كما نرى تسمية مركبة لحالتين: مجلس قيادة الثورة ومجلس الرئاسة)، وهذا يعكس وهنًا ذهنيًّا مزمنًا في عدم القدرة على التفكير بمسمى بسيط ومقنع– لكنها العادة دائمًا ما تفعل فعلها.
كانت التوقعات بإنهاء وجود هادي السياسي على أشدها خلال الفترة الماضية، ثم خفتت. وخلال الأيام الماضية بدأ البعض بالتنجيم عما يمكن أن تقدم عليه السعودية، خاصة أنها قد وجهت الدعوات لأشخاص من اختيارها لحضور مشاورات (الرياض 2). ذهب البعض إلى افتراض تعيين نواب للرئيس عن الجنوب والشمال، واحتمالات حول ذلك أخرى.
برهن المتشاورون أن ليس لهم لا بالبطة ولا بالصميل مما حدث، فهم ليسوا في المستوى الذي يجعل لهم رأيًا في عزل الرئيس أو الإبقاء عليه أو استحداث هيئات جديدة، فذلك هو الموقف الذي اختارته لهم اللجنة الخاصة ورضوا به لأنفسهم.
إذن، أرادت اللجنة الخاصة لهؤلاء أن يكونوا مجرد شهود ومبارِكين لواقعة لم يشهدوها. إن أهم ما يلفت الانتباه فيما حدث أن الإطاحة بهادي وعلي محسن، وتشكيل (مجلس القيادة) المعين والمفوض بصلاحيات الرئيس كاملة، جاء اعترافًا بما ذهبنا إليه أنّ البلاد تخضع لشرعيات أنتجتها الحرب وليس لسواها. وأن (المجلس) المعين حتى وإن أسندت له صلاحيات دستورية كانت للرئيس، إلا أن تشكيله تم خارج نطاق الدستور والقانون، وهو ما يعني تأكيدًا آخر على التعامل وفقًا لمعطيات الحرب، ولكنه ينسف القواعد البديهية لإنشاء السلطات، ويدلل على أنه منتج غير محلي، وإلا لكان تم التوافق داخليًّا -دون الحاجة لدولة ملكية مطلقة أن تقوم بالتشريع لجماعة تدعي دفاعها عن الجمهورية- على دراسة المخارج الدستورية الممكنة لحل إشكالية السلطة.
الملاحظة الجديرة بالاهتمام في موضوع الإطاحة بهادي هي أنه فقد السلطة بنفس البساطة التي اكتسبها بها، وتبين الصورة المتلفزة له، وهو يتلو قرار تشكيل (مجلس القيادة)، أنّ الرجل لم يكن مستوعبًا لما يحدث أو راضيًا عنه، ولو حاول بعض الأتباع الادعاء بأن الرئيس قد تخلى طوعًا عن السلطة. كما أن الجوقة الدائمة قد رددت مباركاتها كما طلب منها، فقد باركت قبل ذلك رحيل صالح وقدوم هادي، نفس الجوقة اليوم تبارك صعود (مجلس القيادة) وأفول هادي، البعض منها سارع مبكرًا لإعادة التموضع قبل تقسيم الغنائم.
السرعة والطريقة التي سيعمل بها (مجلس القيادة) لفتح قنوات اتصال مع أنصار الله (الحوثيين)، ربما تحدد ساعة الصفر لإنهاء الحرب. ولكن سيكون على الجانبين أن يعملا على تسوية الأرض، أما المفاوضات باتخاذ خطوات (حسن نوايا)، وأهم ما يمكن أن يفعلاه هو الإطلاق المتزامن لجميع الأسرى والمعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي.
يبدو (المجلس) بهذا العدد الكبير من الأشخاص ظاهريًّا، كأنه تعزيز لمبدأ الشراكة الوطنية، ولكنه عمليًّا يشي بعمق الهوة بين أطراف (الشرعية)، وإلا لما تجاوز عدد أعضائه عن ثلاثة إلى خمسة (رئيس ونائب والبقية أعضاء). كان يمكن أن نقر بذلك لو أن الأمر تم فعلًا في الظروف الاعتيادية وفقًا لمقتضيات قواعد دستورية محددة، ولكن ظروف الحرب منذ البداية كانت تفرض التعاطي باقتصاد شديد في بناء سلطة الحرب. أي إنه في زمن الحرب يتم تشكيل حكومة حرب مصغرة لا يزيد عدد أعضائها عن عدد أصابع اليد، ولكننا بدلًا من ذلك رأينا تضخمًا مهولًا في مؤسسة الرئاسة، وأكثر منه في المناصب الحكومية وملحقاتها.
مهمة المجلس
الشيء المهم في الأمر أن (مجلس القيادة الرئاسي) أعلن "التخلي عن الخيار العسكري"، بل وحثّت السعودية هذا المجلس على الإسراع في بدء مفاوضات مع "أنصار الله" لإنهاء الحرب، وهو نفس المهمة التي وضعت أمام المجلس في قرار إنشائه، ولكن هل تخلت السعودية عن هذا الخيار، وإذا كانت قد تخلت عنه، فلماذا لم تعلن حل التحالف؟
لم يحدد قرار تشكيل المجلس مكان مزاولته لعمله، لأن تحديد ذلك يعطينا مؤشرًا ليس فقط عن فعالية المجلس بل وعن الكيفية التي سيمارس بها سلطاته. ونلاحظ أن قرار تشكيل (مجلس القيادة الرئاسي) لم يحدد فترة زمنية معينة لولاية المجلس وربطها بتحقيق السلام وإيقاف الحرب، ولكن إذا لم يوفق المجلس في هذه المهمة فهذا يعني أنه سيظل ممسكًا بتلابيب السلطة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها في فترة انتقالية لا تنتهي. وإذا نجح في تلك المهمة فإنه سيباشر فترة انتقالية جديدة، حسب قرار تشكيل المجلس، لا يعلم إلا الله متى تنتهي.
المسألة المهمة، هل سيتخلى المجلس بعدها طوعًا عن السلطة لصالح سلطة شرعية منتخبة لا يكون هو مشرفًا عليها أو مشاركًا فيها؟
يبين قرار تأسيس المجلس أن رئاسته تنحصر في شخص العليمي. وليست هناك من فرصة لتبادل المواقع. فهل السبعة النواب متفقون على ذلك، وقد ألزمتهم السعودية بالسمع والطاعة، ولن تظهر لاحقًا صراعات حول القرارات المهمة، خاصة وقد جعل القرار صوت رئيس المجلس مرجحًا؟ وإذا نجح المجلس في المفاوضات مع "أنصار الله" كيف سيتم استيعاب ممثليهم في المجلس؟ ألن يخلّ ذلك بالقسمة بين الشمال والجنوب؟
كما أن القرار لم يتطرق إلى طبيعة العلاقة بين مجلس القيادة الرئاسي والسعودية، وما مدى استقلالية المجلس في اتخاذ قراراته فيما يخص المفاوضات مع أنصار الله (الحوثيين)؟ لقد ترك الأمر غامضًا بنفس غموض استقلالية القرار الحوثي عن إيران.
نشرت وسائل الإعلام مباركة لإنشاء (مجلس القيادة) باسم المؤتمر الشعبي العام، لكن المتابع للوضع الذي يعيشه المؤتمر الشعبي العام لا يسعه التخمين أي شرذمة من شراذم المؤتمر التي باركت القرار، لكننا لا نتوقع من جماعة "أبو راس" المباركة.
الحوثيون من جانبهم سارعوا لرفض القرار جملة وتفصيلًا، لقد كان الرفض متعجلًا من قبل الحوثيين دون تأنٍّ أو دراسة بل ووصفوه بأنه (مسرحية)، البعض يرى أن هذا الرفض يعكس عزوف "أنصار الله" عن فكرة السلام، أو أنهم ينتظرون تنازلات أكبر من قبل السعودية، بينما هناك من يرى أن العلاقات بين الحوثيين والسعودية قد تم تسويتها، وأن السعودية ربما قد تنصلت من مسؤولياتها.
ختامًا: لقد أهال قرار تأسيس المجلس التراب على المرجعيات التي ظلت (الشرعية) تتشبث بها طوال الأعوام السابقة، بما فيها قرار مجلس الأمن 2216.
كما أن إلحاح السعودية على (مجلس القيادة) بمباشرة المفاوضات مع الحوثيين بدون الإشارة الى أي مرجعيات لتلك المفاوضات، مؤشرٌ للتخلي عن تلك المرجعيات. وقد جاء إعلان (مجلس القيادة) نيابة عن السعودية التخلي عن الخيار العسكري في النزاع ليؤكد صحة ما قاله جورج قرداحي أن الحرب في اليمن "عبثية"، وبالتالي فإن السعودية مدينة ليس فقط باعتذار للرجل، بل وبتعويض لبنان عما لحق به نتيجة التنمر الخليجي عليه.
وما دمنا جميعًا وصلنا إلى الإقرار بعبثية الحرب، فإن السعودية تبدو بحاجة للخروج بماء الوجه بعد فشل خيارها العسكري، وهي الآن تحاول أن ترمي بوزر الحرب على (مجلس القيادة) كي يتحمل في نهاية المطاف نتائج إخفاقاتها.
لكننا نعود للتأكيد مجددًا على ضرورة أن تمتلك السعودية وإيران تحديدًا، الشجاعة الأدبية والسياسية والأخلاقية في الاعتراف بفشل الحل العسكري، وإصدار قرار مشترك بإنهاء الحرب في اليمن، وتوقيع وثيقة ضمان بعدم استخدام اليمن ميدانًا لصراعها المذهبي والجيوسياسي. ولا نرى جدوى من أي مفاوضات سلام لا تشارك فيها قوى دولية ضامنة.
هل حُلّت الإشكالية؟
إن خروج السعودية من اليمن لا يعفيها من مهمة تمويل إعادة الإعمار ودفع تعويضات الحرب، وسيكون ملحًّا وضع ذلك أمام الأمم المتحدة المخولة برعاية أي مفاوضات سلام في البلاد.
وبما أن قرار تشكيل (مجلس القيادة) لم يحدد آلية وجدول أعمال مفاوضات المجلس مع الحوثيين ولا زمانه ولا مكانه، فإنه سيكون من المفيد أن تجرى المفاوضات في الداخل، خاصة في محافظة المهرة باعتبارها أقل المحافظات تأثرًا بالصراع، وذلك سيعطيها مصداقية استثنائية، أو تنعقد في دولة الكويت.
كما أن السرعة والطريقة التي سيعمل بها (مجلس القيادة) لفتح قنوات اتصال مع أنصار الله (الحوثيين)، ربما تحدد ساعة الصفر لإنهاء الحرب. ولكن سيكون على الجانبين أن يعملا على تسوية الأرض والمفاوضات باتخاذ خطوات (حسن نوايا)، وأهم ما يمكن أن يفعلاه هو الإطلاق المتزامن لجميع الأسرى والمعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي. كما أن إصدار قرار متزامن بحل مجلس النواب والشورى المنقسمين، سيكون واحدة من أهم الخطوات التي ستلعب دورًا مهمًّا في تسوية الملعب السياسي، ليس اعتبارًا لعدم شرعية المجلسين دستوريًّا فقط، بل واستكمالًا للاعتراف بالشرعيات الموجودة على الأرض، وتفاديًا لنشوء تناقضات بين (مجلس القيادة) وهذين المجلسين حول من منهم يمتلك (الشرعية).
يظل السؤال قائمًا: هل حُلّت إشكالية السلطة بمجلس القيادة؟ وهل ستضع الحرب أوزارها؟ أم أن صراع السلطة سينتقل إلى طور آخر وتزداد الحرب سعيرًا؟