على جانب إحدى الأرصفة في الشارع المؤدي إلى منطقة جدر في العاصمة صنعاء، تقف إحدى المركبات (باص نقل صغير) مفتوحة من الخلف لتعمل غير العمل المعروف لها؛ فعند مرورك بجانبها تجد أنها تحوي العديد من المواد الغذائية الخفيفة والتي يسهل التنقل بها، بداخلها يقف طفل صغير ليسأل عن طلبك والذي يمكن أن يجلبه لك.
الطفل محمد الريمي (13 سنة)، يقف بثقة في متجره المتنقل الصغير ويستقبل الزبائن، يبتاع ويشتري منذ عام ونصف، يرتاده العديد من المارين بجواره، منبهرين بحنكته وذكائه وعمله، رغم صغر سنه.
يؤكد محمد في حديثه لـ"خيوط"، بأنه اضطر للعمل بسبب ظروف أسرته المعيشية بعد مرض والده وعدم قدرته على الاستمرار في العمل، فعمد إلى إنشاء تجارته الخاصة بسيارة والده التي يقودها بنفسه، ويشتري ويتعامل مع التجار بنفسه.
العمل بدلًا عن الدراسة
المسؤولية الملقاة على عاتق محمد، أهم من الدراسة -حد قوله- رغم أمنياته في العودة إلى صفوف الدراسة التي كان يوصف فيها بذكائه ونباهته واجتهاده. لكنه تركها مبكرًا؛ ليلتحق بالعمل مع والده الذي تركه أخيرًا بعد مرض ألمّ به، أقعده في الفراش.
يصف محمد بأن العمل ليس سهلًا، ففكرته التي عمد إليها هروبًا من الالتزام بمتطلبات إيجار المكان والضرائب المترتبة عليه، أكبر من أن يستوعبها طفل في سنّه (13 سنة)
الكثير من الأطفال في اليمن يتسربون من صفوف الدراسة؛ لتحمّل نفقات أسرتهم، في ظل تفاقم وازدياد مصاعب الحياة من ارتفاع لأسعار المواد الغذائية، وأزمات الوقود المتلاحقة، ومتطلبات المعيشة بشكل عام.
أسرة الريمي التي فقدت عائلها وأصبحت تعتمد على أحد أطفالها لإعالتها، نموذج واضح لما تعيشه آلاف الأسر اليمنية، التي فقدت مصادر دخلها أو عائليها، أو عجز أربابها عن تلبية متطلبات معيشتها.
وتصنف منظمة اليونيسف، التابعة للأمم المتحدة، والمعنية بالطفولة، اليمنَ ضمن أسوأ البلدان للأطفال في العالم، وتقدر أن أكثر من مليوني طفل أضحوا خارج المدرسة، وأن هناك 3.7 ملايين آخرين معرضين لخطر التسرب من التعليم.
المنظمة الأممية تؤكد أن النزاع الراهن في اليمن ألحق دمارًا واسعًا في نظام البلاد التعليمي الهش أصلًا، ولم يعد من الممكن استخدام مدرسة واحدة من كل خمس مدارس في اليمن كنتيجة مباشرة للنزاع.
صعوبات عدة
يصف محمد العمل بأنه ليس سهلًا، ففكرته التي عمد إليها هروبًا من الالتزام بمتطلبات إيجار المكان والضرائب المترتبة عليه، أكبر من أن يستوعبها طفل في سنّه (13 سنة)، لذلك فهو يبيع ويشتري البضائع ويرصّها في سيارتهم الصغيرة، لكنه يشكو من أزمة الوقود وارتفاع أسعارها، والتي أثرت على عمله كثيرًا وزادت نفقاته لتوفيرها، إلى جانب ما تتطلبه من جهد للحصول عليها، لكنه رغم ذلك يحاول ويكدح ليقي أسرته الفاقة والفقر.
يتحمس المارة بجوار السيارة التي يبيع فيها محمد بضائعه، يقول منير، أحد الذين يرتادون محمد لشراء الماء والعصائر منه، إنه لا يحبذ عمالة الأطفال، لكنه يشتري منه "لتشجيعه ما دام يعمل بشرف وعز لإعالة أسرته".
يقضي محمد معظم ساعات اليوم داخل "دكانه الصغير" المتنقل، ويقول إن الكثير من التجار يثقون به وبحنكته وذكائه، ويصفونه بالتاجر الصغير.
ويبدي مخاوفه أحيانًا، وخصوصًا لو استمر في العمل لساعات المساء المتأخرة إذا لم يستطع تأمين حاجة أسرته اليومية، يتمنى لو يعمل في مكان آمن وثابتٍ لا يضطر فيه كل يوم إلى إغلاق وتأمين محله الصغير المتنقل.
أعداد متزايدة
تشير منظمة العمل الدولية إلى أنّ 1.4 مليون طفل يعملون في اليمن محرومون من أبسط حقوقهم، وأنّ نحو 34.3% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم ما بين 5 و17 عامًا يعملون باليمن، مع توسع الظاهرة خلال فترة الحرب بنسب قد تتجاوز أربعة أضعاف عما كانت عليه قبل الحرب.
ويؤكد المهتمون ازدياد أعداد الأطفال العاملين في السنوات الأخيرة، بشكل كبير جدًّا، بفعل الحرب وتداعياتها الخطيرة لاقتصاد الأسرة اليمنية التي تواجه آثارًا قاسية لانقطاع الرواتب وتوقف الكثير من الأنشطة التي كانت تغطي احتياجات ملايين الأيدي العاملة.
لكن ليس هناك إحصائيات حديثة بخصوص عمالة الأطفال في اليمن، صادرة عن الجهات الحكومية الرسمية، مثل الجهاز المركزي للإحصاء، ووزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، إذ تغيب البيانات الرسمية الدقيقة التي ترصد آثار وتبعات الحرب على زيادة عمالة الأطفال مع تفاقم هذه الظاهرة التي باتت مؤرقة للمجتمع بأكمله.
ومع استمرار الصراع في اليمن منذ 6 سنوات، تتصاعد المخاوف العميقة على مستقبل الأطفال الذين يفتقرون إلى أبسط الحقوق الأساسية المتعلقة بالتعليم والصحة والسلامة البدنية والنفسية، ويتعرضون لانتهاكات شتى ومخاطر جمة، تتلاشى في ظلها براءتهم، ويصبحون عرضةً لضياع مستقبلهم، وربما أيضًا حياتهم.