مصير الإنسان لا يمضي في خط مستقيم مثل الأوتوستراد، بل يعج بالتعرجات الدرامية بما لا يخطر على ساسة الأوطان السفهاء ولا على بال النواخذة النبهاء من أمثال جدّ الفنّان من طرف والده الناخُذاة (الحاج أحمد خليل رمادة) الذي أصاب سفينته عطب استعصى إصلاحه في ميناء عدن الحر بعد قدومها من ميناء السويس، ووجدها الحاج أحمد مناسبةً للتناغم مع القدر والتصفيق له، فلم يتردد برمي نفسه في أحضان عدن، فضمّته إلى صدرها الذي لا يضيق بالآخر، بل يرحب به وفق مقاييس مدنية لا مكان فيها للعصبيات والمذهبيات الخشنة. لم يبتعد الحاج أحمد عن البحر؛ إذ اختار حي الطويلة، والطويلة مثل اسمها طويلة بطول البحر في الأُلفة والمحبة فهي تتسع للجميع، ولغة التجارة والمصلحة فيها تهشم العراقيل المانعة للتعايش مع الآخر المختلِف في الملل والنحل.
"الندوة الموسيقية العدنية" كانت تُحيي الحفلات العامة والخاصة دون مقابل ماديّ ولا ترضى ببيع الغناء، ولعل هذا يفسّر لنا لماذا ظلّ خليل هاويًا للغناء والطرب ولم يحترفه.
إنّ الحاج أحمد لم يكن نكرة في حافة الطويلة، بل كان معروفًا بين أوساط الناس، حتى الأطفال منهم الذين غنّوا له تلك الأهزوجة المرتبطة باسمه؛ إذ يقولون: "يا جد خليل، كسروا القناديل". وبمناسبة هذه الأهزوجة، أهدى الحاج أحمد لمقام الولي (الرفاعي) صاريًا جميلًا وثمينًا، بقيَ الصاري وتكسّرت القناديل، لكن قلب الحاج لم يُكسَر بداخله حب الأولياء بل كان حريصًا على حضور حلقات الذكر والموارد الدينية وما يرافقها من أناشيد دينية ومقاطع من السماع الصوفي، ولم تكن هذه بدعة يمارسها بل عادة تأصّلت فيه بحسب تربيته الدينية التي تلقّاها في السويس في حي (سيدي الأربعين) الذي تقام فيه مثل هذه المناسبات، ويبدو أنّ هذه التربية بلطت الطريق تمامًا داخل هذه الأسرة لتُقبل على الغناء والطرب؛ إذ ظل هذا المنزع يسري في دم أسرة محمد خليل ابن الحاج أحمد، فنجد أنّ محمدًا وكل أولاده الذكور مارسوا الغناء والطرب، واحتفت به وانفتحت عليه، وغنّت كلّ ألوان الغناء المتداولة في عدن، وخليل نفسه سليل هذه الأسرة، ومن الطرائف الجميلة التي يذكرها خالد صوري، مؤلف كتاب (خليل محمد خليل)، ولع محمد وحبّه للموسيقى إلى درجة أنه كان يتطبب بها، فحينها اشتدّ به مرض البروستات واستعصى عليه علاجه ولزم الفراش، ولم يجد وسيلة من التخفيف عليه من هذه الدراما الموحشة سوى الطلب من ابنه خليل أن يعزف له على آلة (البنجور الهندية) الوترية، فكانت هذه العملية الروحية تقوّيه وتمدّه بالصبر، ويظل خليل يعزف له إلى أن ينام، وكان عمره لا يتجاوز 19 عامًا.
ولعل هذه الذكرى ترسّبت في أعماقه وصقلت وجده ووجدانه، ورفعت من درجات صفائه وعززت إيمانه بقيمة الغناء والطرب للإنسان، ليس بوصفه أمرًا يُدخل البهجة والنشوة بداخله بل وسيلة تسعفه في الأوقات العصيبة، كما هو الحال مع والده، ولعلّ هذا يفسّر لنا لماذا ظلّ خليل هاويًا للغناء والطرب، ولم يحترفه مهنةً يترزّق منها إلى آخر عمره. وفكرة عدم الترزق من الغناء والطرب كرّسها خليل في رسالة (الندوة الموسيقية العدنية) التي كانت تُحيي حفلات دون مقابل مادي، ولا ترضى ببيع الغناء، وهذا التصرف أثار حنق الكثير من أعضاء الندوة الموسيقية، وبمناسبة الندوة الموسيقية فإن الصفحات القادمة سوف تتناول علاقة خليل بالندوة.
خليل محمد خليل كان قيثارة الندوة الموسيقية العدنية وملحنها الأول، ولا تذكر إلا ويذكر اسمه، والندوة لم تحجب مراميها الفنية، بل أعلنتها للملأ ومارستها قولًا وفعلًا.
قيثارة الندوة
مثّل خليل الصورة الفنية المكثفة للندوة التي تأسّست بعدن أواخر أربعينيات القرن المنصرم، وهي صورة مخملية، وبتعبير خالد الصوري في كتابه (خليل محمد خليل)، كان قيثارتها وملحنها الأول، والندوة لا تذكر إلّا ويذكر اسمه، والندوة لم تحجب مراميها الفنية، بل أعلنتها للملأ ومارستها قولًا وفعلًا، ومن هذه المرامي:
1- الإلحاح على نشر فنّ الغناء والطرب بين الناس، ولعل هذا الإلحاح يدل على وعي بأهمية الغناء والموسيقى، وقدرتها على تشكيل وجدان الإنسان وتهذيب سلوكه ومدّه بالطاقة الإيجابية ومعاني المحبة والودّ للتعايش والتقارب مع الآخرين. والندوة توسعت كثيرًا في نشر ألوان الغناء، ولم تقتصر على اللون العدني ولا اليمني فحسب، بل والعربي، وبخاصة المصري، وهناك من يرى أنها أفرطت في نشر هذا اللون دون مسوغات مقبولة ومعقولة.
2- أبدت الندوة نية حسنة تجاه المواهب التي تطلعت إلى الطيران إلى سماء الغناء والموسيقى، فشجّعتها وقدّمت لها دعمًا فنيًّا ومعنويًّا، ومثّل خليل صورةً باهرةً في التعامل اللائق مع هذه المواهب.
3- أخذت الندوة عهدًا على نفسها بأن تبثّ الروح الجماعية، وربما الندوة لم تعلن عن هذه الغاية بوضوح، لكنها عملت بها في الواقع؛ إذ كانت تضحي في عملية تسجيل الأغاني باسم المغني والمؤلف والملحن، وتكتفي باسم جهة التسجيل وحسب، مثل تسجيلات (التاج العدني). ولعل نشوء جمعية المؤلفين أتى ردّة فعل لمثل هذا التوجه الذي يضيع حق المؤلفين باسم هذه الروح الجماعية.
4- نأت الندوة بنفسها عن المنافسات والمكايدات والمناكفات مع التجمعات الفنية والحقوقية للمؤلفين، والمفارقة أنّها كانت تشجّع مثل هذه التجمعات ولم تقف ضدها، وكان خليل الإنسان النبيل لا يتردد عن حضور نشاطات هذه التجمعات، وإن كان حضوره في بعض الأحيان على حساب نشاط ندوته.
5- من مبادئ الندوة أنّها تطمح بأن تقدّم ألحانًا تتسم بالتجديد، وهي لا تريد أن تبقى الأغنية على حالها من الجمود؛ إذ لا بدّ من الدفع بها على مستوى اللحن والأداء والكلمات لتصل إلى مستوى يليق بها ويجعلها على صلة بالابتكار والتجديد.
تغذّت أغاني خليل على خليط من الثقافة الموسيقية الشرقية، فهي قد خرجت من جوف هذا الخليط مستلهمة رموزه من أهل الغناء ومشاهيره، وبفعل هذا التأثير مضى مبتكرًا أساليب فنية لتطوير اللون العدني في الأغنية اليمنية.
موسيقى الشرق
قدّم الصوري في كتابه صورةً أقل حدّة عن الندوة، فلم تشغله فكرة عدن للعدنيين، ولم يربط مصير الندوة بهذه الفكرة، وأقرّ مثل غيره، بإنجازات الندوة، ولكنه شارك الآخرين واتفق معهم بشأن مبالغة الندوة بنشر الأغاني المصرية، خاصة أغاني صباح. فهو يرى أنّ هذا التصرف يثير الاستغراب والدهشة، ويتساءل: ما الداعي لتنزيل مثل هذه الأغاني إلى الأسواق؟ والصوري لم يعلن عن رأيه الصريح إلا بعد أن أورد رأي عبدالله باذيب، الذي استنكر على الندوة ترديدها وتسجيلها للأغاني المصرية، ثم عزّزه برأي المرشدي الذي استنكر هو الآخر فعل تسجيل الأغاني المصرية والدفع بها إلى الأسواق وحمل خليل مسؤولية هذا التصرف، والصوري نفسه لم يقتنع بالمسوغات التي أعلن عنها خليل مثل نشر الفن بين الجماهير. وهناك معلومة أوردها تقول بأن خليلًا لم يرتبط بحزب أو تيار سياسي.
ومن صورة الندوة إلى تحليل أغانيه:
يرى الصوري أنّ أغاني خليل تغذّت على خليط من الثقافة الموسيقية الشرقية، فهي قد خرجت من جوف هذا الخليط مستلهمة رموزه من أهل الغناء ومشاهيره، وبفعل هذا التأثير مضى مبتكِرًا أساليب فنية لتطوير اللون العدني في الأغنية اليمنية، والمرشدي الذي انتقد خليل لم ينكر عليه نجاحاته في التوزيع والتلحين والموسيقى.
والصوري على صداقته الحميمية لخليل، فإنه لم يتردّد في نقده، ويمكن أن نبلور نقده على النحو الآتي:
1- صرّح خليل بلسانه، بأنه يفضّل ألاّ يكون ممسِكًا بالعود في أثناء تأديته للغناء مع الفرقة الموسيقية، وأن يتولى العزف على العود فنان آخر، فحينما يكون هو العازف بالعود مع الفرقة يشعر بأنه مقيد ولا يتسلطن، وهذه طريقة في الأداء تثير التعجب. ومثل هذه الطريقة في الأداء، لا تسمح بأن يُظهر الفنّان الجوانبَ العذبة في ألحانه وتتناقص فيها درجات التطريب، على الرغم من أنّ ألحانه تتضمن التطريب فهي عامرة بالقفلات والمذاهب، وخليل ليس متمكنًا من متابعة المقام فحسب، بل يرتجل أحيانًا مقاطع تتناسب مع روح المقام. ولعل هذه الطريقة تفسر لماذا ظلّ خليل يغني بطريقة نمطية ولم يغير هذه الطريقة إلى ما قبل المرحلة الأخيرة من حياته.
2- نجد أنّ بعض أغانيه هادئة لا تحتاج إلى سرعة في الإيقاع؛ لأنّ هذه السرعة تُفقدها جمالها الفني. مثالٌ على ذلك، أغنيةُ (هدوء الليل أضناني)، فمن كلماتها يعرف السامع رقتها وحضور الحزن فيها، وهي لا تحتاج إلى إيقاع سريع، وبالإمكان عزف هذه الأغنية بالإيقاع البطيء ثم إن الأغنية نفسها لا تحتاج إلى وجود الكورس؛ لأنّها عبارة عن مناجاة فردية مع الليل في سكونه. وينطبق هذا الأمر على أغنية (ماذا جرى لك يا خل قلبي)، و(قل لي متى نجتمع بعد الفراق يا زين)، وهذه الأغنية التقطها المرشدي وغنّاها بطريقة أظهرت الجوانب العذبة فيها، وخليل أقرّ بذلك.
3- وقوع خليل تحت تأثير النموذج المصري في الغناء، والدليل على ذلك أغنية (يا حياتي)، وهي تبدأ بكلمات المذهب، وهي (السماء في مقلتيك)، ولحن المذهب يمكن إحالته إلى الألحان المصرية في بداية الأربعينيات، مثلما في أغنية (جفنه علم الغزل)، ولحن (سهرت منه الليالي) لعبدالوهاب.
4- ذكر الصوري أنّ خليلًا لجأ إلى طريقة المواويل القصيرة في أواخر مشواره الفني، يسبقها بتقاسيم من مقام الأغنية نفسها، بعدها يدخل في اللحن الرئيس.