القاص الراحل كمال الدين محمد (كمال محمد أحمد دين محمد)، هو ابن خالي الأكبر الراحل محمد أحمد دين، مدير العيادة الطبية لعمال وموظفي مصافي عدن (PB).
وهو يكبرني بأكثر من عامين، إذ إنّه من مواليد منطقة (قرية) الشيخ الدويل، عام 1955م.
وهو الابن الأكبر لإخوانه، أمه تنتسب لعائلة أميرية من بيت (الأمير سعد)، كما كان يطلق هذا النسب على جدته لأمه أو خاله محمد الأمير.
تربّى القاصّ كمال في ربوع قرية الشيخ الدويل، وهي منطقة على تل ترابي يمر على جانبيها السيل القادم من الأمطار أو مجرى سيل لحج، وهي قرية مجاورة ومحادِدة لمسجد ومقبرة (العثماني) نسبة إلى ولي الله الصالح التي كان يؤم الناس إليها للزيارة كل سنة.
وصارت هذه الزيارة احتفالًا شعبيًّا يَؤُمّه الناس بغرض الذهاب إلى مزار الولي الصالح، حتى تحول إلى مهرجان يتم فيه تقديم ألعاب الأطفال من الدراهين (الأرجوحات) والألعاب السحرية وشراء اللعب، هذه الزيارة شبيهة بالموالد المصرية ومثيلاتها زيارات (العيدروس) و(الهاشمي) ومنها زيارات أخرى في لحج.
وكنا نحن الأطفال نحتفل بهذه الزيارة كواحدة من الأعياد الشعبية، ونستعد لها بالثياب الجديدة كما في عيدي الفطر والأضحى.
وفي هذه الزيارة التي تمتدّ يومًا كاملًا، تتنوّع فيها كافة أنواع الألعاب والتسليات للأطفال، وبيع الحلوى والمشروبات وركوب الخيل والجِمال (الإبل) في محف (مضمار)، وغيرها من ألوان الاحتفال الشعبي للصغار والكبار.
وكنّا نأتي إليها نحن أبناء الشيخ عثمان إلى بيت الجد (أحمد دين محمد)، وفيه بيت الخال محمد أحمد دين أبو كمال الدين، كما يأتي كلُّ الأقرباء من أبناء عدن (كريتر) والمنصورة والمعلا والتواهي إلى الشيخ الدويل لزيارة (العثماني).
ومنطقة الشيخ الدويل، كما يقال، هي المسكن الأول لسكان ضاحية الشيخ عثمان، ومنها امتدّ السكن إلى المنطقة الحضرية التي بنتها السلطة البريطانية القائمة كمنطقة حديثة البناء وتستوعب أربعة أقسام رئيسة، هي أقسام (A- B- C- D)، وأصبحت مدينة الشيخ عثمان هي المدينة أو الضاحية الرئيسية التي تستقطب السكان المحليين، فيما ظلت الشيخ الدويل أشبه بالقرية من حيث البناء المتراكم غير المنظّم، ولم تدخلها الخدمات الأساسية كالماء والكهرباء، إلّا في منتصف ستينيات القرن الماضي.
في أجواء الشيخ الدويل المحتمية بقواعد ونظام القرى في بساطة العيش ولطافة المعشر وروايات الحكي المتواصل، كان المثقف الناشئ والقارئ النهم للقصّ والروايات، ينشأ من رحم هذه القرية الحالمة، ومن ذكريات الجدة المشوقة، ومن لطائف المجالس المغربية النسوية والرجالية.
كمال الدين.. بين مدينتين!
ظلّت عائلة القاصّ كمال الدين، تسكن الشيخ الدويل حتى انتقالها إلى المدينة العصرية (المنصورة) في منتصف الستينيات، وهي مدينة خارج ضواحي الشيخ عثمان.
إلّا أنّ الابن (كمال) لم يرحل مع العائلة إلى (المنصورة)، وظل متشبِّثًا ببيت أبيه في الشيخ الدويل، يسكنه لوحده، ومتنقّلًا ما بين بيت أبيه القديم وبيت جدته لأمه.
وأتاحت هذه السكنى المنفردة للشاب المراهق كمال، أن يتخذ من بيت أبيه خلوة ساعدته على الانكباب على قراءة الأدب ومختلف ألوان الشعر والفنون، ويبني شخصيته الأدبية المستقلة، بعيدًا عن ضوضاء العائلة الكبيرة من الإخوة الأحد عشر، ويسكن تحت سقف سماء هذه القرية الحالمة (الشيخ الدويل)، التي تمنح الساكن فرصة تأمُّلية، وخلو ذات، واستقراءً هادئًا للواقع والحياة، وانكبابًا لا متناهيًا في القراءة، ومن بعدُ في الكتابة.
فضلًا عن جواره لجدته (أمّ أمه) ذات الشجون الأميرية، وسرد الحكايات للزمن الأميري الجميل، الذي تربّت فيه أميرة من أميرات دار سعد.
كانت حكايات وروايات جدّته المشوقة وذات الحبك الشعبي والخيال الفطري، سببًا في توجّه الشاب كمال الدين إلى السرد والقصّ والحكي، مع الاحتفاظ بشاعرية تأمُّلية اكتسبها من قريته الحالمة النائية عن ضوضاء المدينة التي ظلّت محتفظة بالطابع الشعبي الصرف، ومنها التقاء النساء والعجائز في تجمّعات نسوية من بعد المغرب والعشاء على (الكدمة) -تلة ترابية- يتسامرن ويتبادلن السرد حول وقائع اليوميات المعيشية والحكايات و"الحشوش" حول الأهل والجيران وتناول طرائف الأحداث والأقوال.
وفي الجوار، مجالس الرجال المغربية على الشاي والقهوة، وفيها يجري ما يجري في مجالس النساء من حكي، ومن "الحشوش" البريء، وسرد الحكايات، وتناول مشاغل الحياة.
في أجواء الشيخ الدويل المحتمية بقواعد ونظام القرى في بساطة العيش ولطافة المعشر وروايات الحكي المتواصل، كان المثقف الناشئ والقارئ النهم للقصّ والروايات ينشأ من رحم هذه القرية الحالمة، ومن ذكريات الجدة المشوقة، ومن لطائف المجالس المغربية النسوية والرجالية.
من كل ذلك، كانت شخصية الشاب كمال تتكون معرفيًّا من الكتب والقصص والروايات العربية والعالمية، وخياليًّا من الثقافة الشفاهية لأبناء قريته مسقط رأسه (الشيخ الدويل).
كما كان للتجاور بين وسائط الحكي الشفهية والمكتوبة، وبين شفافية الحياة البسيطة الحالمة، وموسيقا الحياة الفطرية والهادئة التي كانت تتمتع بها هذه القرية -نصف المدينة- إضافة إلى شخصية كمال الهادئة والمتزنة والشفافة، وميوله إلى الانزواء والتأمّل، كل ذلك هو ما صاغ التجاور بين القصصي والشعري في كتاباته وفي نمط تفكيره وإبداعه.
لقد كانت عوامل السكينة والهدوء والتأمُّل والعيش الحالم والانفراد الحياتي، هي محصلة مكونات بيئية وتشكّلات إبداعية صاغت شخصية كمال الدين الرومانسية والشاعرية، وانعكست في كتاباته القصصية من بعد.
أنا وكمال.. والتلاقي الفطري والإبداعي
سبقني كمال الدين في احتراف الكتابة، وفي صياغة شخصيته الأدبية، وظهوره في المحافل والفعاليات الأدبية في عدن وغيرها.
ولقد كان الافتراق بيني وبينه، وأنا ابن الخال الأصغر منه عمرًا وتجربة، أنّ كمالًا اختار طريقه الأدبيّ بدون انحراف عن هذه الغاية تعليميًّا؛ فهو اختار الدخول إلى القسم الأدبي في الثانوية وكلية التربية في التعليم الأكاديمي، ممّا عزّز انتماءه للأدب ومشاغله تعليميًّا وطريقة حياة، فيما كنت أنا لم أستطع أن أستخدم هذه الجرأة في الاختيار التعليمي، فدخلت القسم العلمي، ومن بعدُ كلية التكنولوجيا (الهندسة)، البعيدة كل البعد عن الفطرة الداخلية لتكويني الإبداعي الأدبي.
ويرجع السبب في ذلك إلى نظرة المجتمع السائدة آنذاك، التي تنظر للأدب على أنه أقل شأنًا، وخاصة لدى الطلاب الأوائل أصحاب العلامات العالية، فانسقت أنا إلى مجاراة العادة التي تفرض بأن يكون أوائل الطلبة مكانهم القسم العلمي والكليات العلمية، مخالفًا لتكويني الفطري واهتماماتي الشخصية، ومغالبًا على طبيعتي الفطرية الأدبية (الشعرية)، والتوجّه قسريًّا مع النظرة المجتمعية السائدة نحو دراسة العلوم، وفي القلب شيء من الشعر!
لم يكن كمال الدين مثلي مواربًا في الاختيار، مع أنّه كان من أوائل الطلبة، ولم يخضع للتصورات القَبْلية (بتسكين الباء) للمجتمع، بعلو شأن التعليم العلمي على الأدبي، واختار الخيار الصحيح المجسِّد لتطلعاته الداخلية وفرادته الأدبية، شأنه في ذلك شأن الشاعر الراحل محمد حسين هيثم، الذي لحقه بنفس عزيمة الاختيار، وقد كان رفيق صف دراسي لي في الابتدائية والمتوسطة والثانوية ومن الطلبة الأوائل، لكنه اختار المسار الأدبي تعليمًا وموهبة، على عكس اختياري الخاطئ.
كمال الدين.. المعلم
بقدر ما كانت القرابة الأسرية تجمعنا، كان التلاقي الفكري والإبداعي يجمعنا أكثر.
وحين اكتشف كمال الدين، الذي كان بمثابة أخ أكبر، اهتمامي بالشعر والأدب منذ الطفولة وفي سن المراهقة، ساهم في تزويدي بالكتب الأدبية التي كان يقتنيها ويعيرني إيّاها لكي أقرأها.
فعلى يديه تعرفت على بؤساء فيكتور هيجو، وقصة مدينتين، وديفيد كوبر فيلد، وقصص وروايات جان بول سارتر وتولستوي ومكسيم جوركي وبكين وطاغور، وقصص الخيال العلمي لهربرت جورج ويلز، وهمنجواي ولوركا ويوميات سومرست موم ونجيب محفوظ وباكثير والعقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم وصلاح عبدالصبور والسياب والبياتي...، وقائمة طويلة من كتب الأدب العربي والعالمي التي أتاحها لي ابن خالي كمال لقراءاتها، بما أفاضني من جود وكرم ومحبة في اللقيا على أرضية مشتركة، وهي الإبداع الأدبيّ شعرًا وقصصًا.
وإذ كانت قدرتي المادية لا تسمح لي بشراء هذه الكتب المرجعية التي كوّنت ذائقتي الشعرية والأدبية بسبب عسر الحال، فإنّ لكمال الدين دورًا في تشكيل وتعميق هذه الذائقة الإبداعية لي من خلال ما وفّر لي من مكتبته للقراءة، ومن مشترك الحديث والحوار حول القضايا والمشاكل الأدبية، شعرًا وقصصًا وروايات ومسرحًا وأدب السيرة، رغم اختلافنا في الكتابة؛ هو في القصة، وأنا في الشعر.
لكن امتداد التأثير المتبادل كان قائمًا من حيث تأثيري الشعري على توجهاته القصصية وتأثيراته القصصية على توجهاتي الشعرية.
ربما هذا التبادل كان أوضح في علاقته الحميمة مع الشاعر هيثم، حيث كانا جارين في مسكن والده في المنصورة، ولتقارب حياتهما الإبداعية تعليمًا وكتابة.
خاصة أنّني انشغلت بدراستي الجامعية في الهندسة، وتقللت فرص اللقاءات البينية لدينا، بسبب ذلك التباعد في المسكن أولًا وفي طبيعة الدراسة الأكاديمية لكلٍّ منّا، وشغلها الشاعر هيثم بصورة أقوى تفاعلًا وتأثيرًا، فبدت صداقتهما أمتن، وتحاورهما البيني أعلى وأوثق على مختلف الأصعدة الإنسانية والابداعية.
(يتبع)