يرمي الطالب قبعة تخرجه بعيدًا عنه يوم تخرجه، معلنًا تغلبه على سنوات الكد والتعب ما بين جدران كليته ودفات كتب عفى على مضمونها الزمن. يخرج إلى واقعه، فيفاجأ بعكس تطلعاته وطموحه، فترى خريج التجارة والاقتصاد يعمل في مجال الهندسة، وخريج الهندسة يعمل في مجال الإعلام، وأما عن القطاع التربوي، فحدّث ولا حرج.
الاحتياج الوظيفي
يلعب الاحتياج الوظيفي دورًا كبيرًا في تحديد مصير الخريجين، فبعد تخرج الطالب من التخصص الذي حارب جاهدًا ليدرسه، يتفاجأ بأن لا مكان لهذا التخصص في بيئته ولا فرصة عمل لصاحبه. لذلك يبحث عن وظيفة أخرى تستر حاجته للعمل، فيلجأ لقطاعات أخرى بعيدة كل البعد عن مجال تخصصه.
(م. ن) -طلب ترميز اسمه حفاظًا على الخصوصية- تخرج في الجامعة اللبنانية قسم "تصنيع معدات طبية"، يقول لـ"خيوط"، إنه أقدم على دراسة هذا التخصص لكونه ما زال حديثًا في اليمن، وفرص العمل -كما كان يعتقد- لا حد لها في تخصصه، لكنه تفاجأ بأن سوق العمل قد احتكر هذه الوظيفة على مهندسين بعدد الأصابع ولا مجال للزيادة، فلجأ إلى التعليم، حيث يعمل الآن مدرّسًا في أحد معاهد اللغة الإنجليزية.
بدور علي، خريجة كلية اللغات جامعة صنعاء، هي الأخرى لم تجد فرصتها في أن تصبح مدرسة لغة إنجليزية، فلجأت لتدريس اللغة العربية، حسب الاحتياج الذي وجدته في المدرسة التي تعمل فيها. ومثلها (ص. ع) خريج نفط ومعادن، الذي لم يجد وظيفة شاغرة في مجاله، وبسبب ما آلت إليه البلاد، عاد ليعمل مدرّسًا للغة العربية، وتارة أخرى معلمًا للرياضيات.
يقول خالد جابر، وهو موجه تربوي، في حديثه لـ"خيوط"، إن الوضع أشبه بحرب شعواء فيما يخص التضارب بين طبيعة الوظيفة وتخصص صاحبها، في المؤسسات الحكومية والخاصة، لا سيما في القطاع التربوي الخاص. فأثناء إشرافه ونزوله الميداني مع زملائه الموجهين للمدارس، قال إنه يرى "العجب العجاب"؛ فخريج قسم الجغرافيا يعمل معلمًا للغة الإنجليزية، وخريجة قسم الشريعة والقانون تعمل مدرسة للرياضيات، وفي حال لم يكتمل نصاب المعلم في الحصص الأسبوعية في نطاق تخصصه، فإن إدارة المدرسة تلزمه بإكمالها بتدريس مواد أخرى.
ويضيف جابر، متفقًا مع دعاء الموجاني، أخصائية اجتماعية، أن ما يحدث من تشتت وظيفي يعود إلى خلل في تحديد الاحتياج الوظيفي من قبل المؤسسة التي تستوعب هذه العمالة، وإلى احتياج الموظف لفرصة العمل، بالإضافة إلى ما آلت إليه أوضاع البلاد.
فيتامين "واو"
منذ زمن الاستقرار السياسي قبل الحرب الدائرة حاليًّا، اعتاد اليمنيون، خصوصًا طالبي الوظائف، على تسمية المحسوبية والوساطة بـ"فيتامين واو". وهو المصطلح الذي يستدعيه أحمد علي (اسم مستعار بحسب طلبه)، الذي كان جنديًّا في الجيش اليمني وفقد وظيفته مع اندلاع الحرب. يقول أحمد إنه أصبح صيدلانيًّا في ظرف يوم وليلة؛ فقط، لأن أحد أقاربه تدخل في حصوله على وظيفة بوزارة الصحة. ومثله سمير صادق (اسم مستعار أيضًا بحسب طلبه)، والذي صار زميلًا لأحمد في المهنة نفسها وللسبب نفسه؛ بينما المتخصصون الذين قضوا سنينًا بين الكتب وجدران الكليات وزحمة الوقت والطرقات وشحة المال، أحدهم مدرس قرآن كريم، والآخر سائق تاكسي، ربما تجعله الصدفة ينقل أحمد ذهابًا وإيابًا إلى مقر عمله.
العشوائية في اختيار الموظفين تؤثر بشكل كبير على عملية الإنتاج في أي مجال من مجالات الحياة، ويجدر بالطلاب المقدمين على الدراسة الجامعية، بأن يدرسوا أولًا سوق العمل.
كذلك (س. ع) المتخرج بتخصص إدارة أعمال، جامعة العلوم والتكنولوجيا بصنعاء، والذي اختار أفضل الجامعات الخاصة وأنفق مالًا يفوق إمكانياته، لينال شهادة البكالوريوس، وبعد وصوله لسوق العمل، وجد بأن السوق محتكرًا على من لديهم الوساطة والمحسوبية، كما يقول. أما هو، فقد عثر أخيرًا على "فيتامين واو" الخاص به لدى أحد معارفه الذي ساعده في الحصول على وظيفة بمؤسسة الكهرباء.
في هذا الجانب، تقول الأخصائية الاجتماعية دعاء الموجاني، في حديثها لـ"خيوط"، إن "ذوي الوساطة يتلاعبون بالوظائف كلعبة الشطرنج، ومَن تخصصه تمريض ويجد راتبًا مغريًا في الصيدلة، يلجأ إليها بمساعدة العصا السحرية".
التحليل الوظيفي
عندما أوصد الباب في وجه البعض من الخريجين، لم ييْئَسوا وغيّروا مسارهم بكل عزم وإرادة، مستفيدين من تجربتهم الأولى الفاشلة، فدرسوا السوق جيدًا، والوظائف المتاحة فيه، فذهبوا لها من أبوابها العريضة التي ترحب بكل من جاءها مجِدًّا، وغيروا تخصصاتهم بطرق مشروعة وعادوا إلى نقطة الصفر، وإلى سنوات الدراسة من جديد، كما هو الحال لدى إبراهيم الضلعي- خريج الصحافة والإعلام، جامعة صنعاء، الذي عاد للدراسة في كلية الطب بالجامعة نفسها.
وغير إبراهيم الكثيرون من خريجي كلية الإعلام الذين عادوا لدراسة تخصصات أخرى، كالتمريض، وطب الأعشاب، واللغات... وغيرها. وعندما تسألهم عن السبب يأتي الجواب من واقعهم المرير، بأن معظم وسائل الإعلام "محتكرة وممولة من قبل هذا الطرف أو ذاك".
احتراف مهنة
في سياق مشابه، كثير من خريجي كليات الإعلام أو من العاملين في المجال الإعلامي قبل الحرب، أصيبوا بخيبة أمل صادمة بعد أن فقدوا وظائفهم، وعانوا كثيرًا في البحث عن أعمال أخرى تنجيهم من أحلام اليقظة والموت جوعًا.
يقول ردّاد السلامي، صحافي وكاتب، في حديث لـ"خيوط"، إنه لا يخجل من أنه أصبح منظفًا للأواني في أحد المطاعم ويرتب فوضاها، بعدما عانى كثيرًا وتعرض للمطاردة والسجن مرتين؛ إحداها في الجنوب عام 2018، والأخرى في عام 2020، ما اضطره للهجرة والعمل في مطعم.
وبالمثل، محمد العريم، خريج إذاعة وتلفزيون جامعة صنعاء، الذي لجأ للعمل في كيّ الملابس، بسبب أنه لم يجد الوسيلة الإعلامية التي تحترم فكره، كما أوضح في حديثه لـ"خيوط". وهناك آخرون أيضًا دفعهم الاحتياج الوظيفي للعمل في الخياطة، والمواصلات.
تقول رينا قاسم، المتخرجة في قسم العلاقات العامة- جامعة صنعاء، إن الوظائف في اليمن "يتم تداولها بالوراثة في أغلب العائلات"، حسب تعبيرها؛ فقد تجد ابن الصيدلاني، الذي لم يبلغ الحلم، يعمل في صيدلية أبيه، وعلى هذا المنوال في بقية القطاعات.
وترى الأخصائية الاجتماعية دعاء الموجاني، أن الفساد الإداري من أهم أسباب العشوائية في اختيار الموظفين، وكذلك انعدام الرقابة والقوانين التي تضبط المخالفات الموجودة في وزارة الخدمة المدنية، حيث تقول إنه "يتم توظيف أشخاص حديثي التخرج، بينما آخرون منذ سنوات ما زالوا بانتظار فرصتهم في سوق العمل".
كما أوضح خالد جابر، أن الظاهرة ليست مستجدة على اليمن، فهو متخرج في العام 1993، قسم اللغة الإنجليزية وطُلب منه تدريس مادة الاجتماعيات، لكنه رفض. ويضيف أن أحد أصدقائه متخرج في تخصص الأحياء وطُلب منه تدريس مادة الفلسفة وفعل ذلك، لكنه وجد صعوبة كبيرة؛ مما جعله متقاعسًا ويتهرب من عمله.
وفي حين يؤكد جابر أن العشوائية في اختيار الموظفين تؤثر بشكل كبير على عملية الإنتاج في أي مجال من مجالات الحياة، ينصح الطلاب المقدمين على الدراسة الجامعية، بأن يدرسوا أولًا سوق العمل، ثم البحث عن التخصص الذي لا يجعلهم يحملون "الحَلَق بدون آذان"، كما يقول المثَل، أو العكس.
* تحرير خيوط