يظهر للمراقب من نظرته الأولى إلى مباني ومتاجر صنعاء القديمة، التضاد بين جدرانها العتيقة والمبنية من الطوب المحروق والجبس الأبيض وبين الأبواب الحديدية التي يتم تغييرها بدلًا من الأبواب الخشبية، الأمر الذي يشكل تلوثًا بصريًّا كما يقول كثير من زوّار المدينة التاريخية والأثرية؛ إذ لا يمكن أن يتوافق طرازها المعماري إلا مع الأبواب الخشبية التي تضيف إليها روحًا وتخلق تواؤمًا يألفه الزائر.
يرى بلال قائد -زائر دائم ومحب للمدينة- أنّ صرير الأبواب الحديدية في صنعاء القديمة وهي تُفتح وتُغلَق، عاملٌ من عوامل التنفير بالنسبة له؛ فالمدينة -كما يؤكد قائد- ينبغي أن تحتفظ بطابعها الأثري، ومن العبث إلباسها صبغة العصرنة في الأنماط المعمارية، سواء من خلال الأبواب الحديدية أو البناء الإسمنتي، إذ يستنكر غياب الحماية المعنية والمسؤولة عن ضمان الحفاظ على تراث صنعاء القديمة، وعدم السماح بالعبث بخصائصها التاريخية.
عُرفت صنعاء القديمة بالمدينة المسورة، وهي مدينة ضاربة في القِدَم، ولا تزال آثارها باقية حتى اليوم، وكان لها سبعة أبواب، ولم يتبقَّ منها سوى باب واحد وهو "باب اليمن". وفقًا لمصادر تاريخية، فإن صنعاء كانت مأهولة بالسكان منذ القرن الخامس قبل الميلاد، وتتميز حضارتها بطابع معماري مميز مكون من زخارف ونقوش منتشرة في المباني، كالمساجد والمنازل والأسواق.
تحذيرات اليونسكو
وكانت منظمة "اليونسكو" منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، قد أدرجت صنعاء القديمة في العام 1984، ضمن قائمة مواقع التراث العالمي؛ لِمَا تمثّله من أهمية في التراث الإنساني، وبعد نشوب الحرب في العام 2015 في البلاد، أطلقت المنظمة تحذيراتها من التبعات التي أصابت صنعاء القديمة، ومنها غارات لطائرات التحالف السعودي، وذلك بوصفها معلَمًا أثريًّا نادرًا ومهمًّا. وتحوي المدينة الواقعة في وادٍ جبلي قرابة 100 مسجد، و14 حمامًا، وحوالي 6 آلاف منزل، شيّدت قبل القرن الحادي عشر.
قابلت "خيوط" مُلّاك الدكاكين والبيوت في صنعاء القديمة؛ لمعرفة أسباب تغيير الأبواب الخشبية واستبدالها بأبواب حديدية، فتعدّدت دوافعهم لفعل ذلك. أمين سبنة، صاحب محل "جنابي" في سوق "العُسوَب"، يعلل سبب تغيير باب دكانه، بمساحة المتجر الصغيرة؛ إذ فضّل شراء الباب الحديدي ليسهل عليه التعامل معه. ويشكو سبنة عدم اهتمام الجهات المعنية بصنعاء ومعالمها، إذ يقول: "تهالَكَ الباب الخشبي، ولم أقدر على شراء باب آخر؛ لغلاء سعره، مع أني أدرك أن الباب الخشبي جزءٌ من الطابع الأثري الجاذب للزوّار".
يؤكّد محمد الأكوع، صاحب محل خيوط في سوق الخيوط والحرير، أنّ سبب تغيير باب دكانه بباب حديدي عوضًا عن الخشبي القديم، هو تآكل الخشبي؛ إذ عجز عن شراء باب آخر، الأمر الذي اضطره إلى التغيير بحديدي، مع تأكيده أنّ أمنيته كانت المحافظة على الطابع الأثري للمدينة. ويضيف الأكوع، وهو ناشط في الحفاظ على المدن الأثرية، متسائلًا: "أمانة العاصمة لا تقدّم شيئًا لصنعاء القديمة، وكل فترة يؤول وضع المدينة إلى الأسوأ".
الأبواب الحديدية لا يمكن أن تعوّض، جماليًّا ووظيفيًّا، الأبوابَ الخشبية؛ فالأخيرة كانت الأَوْلى بالبقاء والصيانة على اعتبار أنّها جزءٌ من الهُوية المعمارية لصنعاء القديمة، إذ إنّ غزو الحديد والإسمنت لمعالم المدينة، يعتبر اعتداء صارخًا على روح التاريخ وعبقه.
يعبّر عبدالوهاب سنين، وهو أحد ساكني مدينة صنعاء القديمة، عن أسفه من جراء خروج صنعاء عن جلدتها بالجملة، كما يقول، ويُحزنه الزيف الذي يلحق بها. يرى سنين أنّ صنعاء القديمة تأثرت سلبًا بالحرب؛ إذ قلّت عناية المهتمين بها من الداخل، وانقطعت عنها الرعاية التي كانت تصلها من الخارج من جهات مهتمة، مثل "اليونسكو" التي أدرجتها في قائمة التراث العالمي في العام 1984، وكان من المفترض ألَّا تخضع لأية تغييرات في طابعها التاريخي دون التنسيق مع "اليونسكو".
يسرد نعمان الروبة، مالك منزل بالقرب من سوق "النظارة"، أسبابَ إقدام الناس في صنعاء القديمة على تغيير أبوابهم الخشبية بحديدية، إذ يقول لـ"خيوط": "مؤخرًا، ومع الظروف المعيشية الصعبة التي يعيشها الناس، تعرّضت العديد من المنازل والمحال التجارية في صنعاء للسرقات، وتمكن اللصوص من النفاذ إلى الداخل بفعل اهتراء الأبواب الخشبية؛ ما دفع الناس إلى التغيير واستخدام الأبواب الحديدية؛ كونها توفر الأمان ووسيلة مانعة لوصول اللصوص إلى الدكاكين والمنازل".
يرى الروبة أنّ مزايا الأبواب الحديدية لا يمكن أن تعوض من حيث الصورة الجمالية عن الأبواب الخشبية؛ فالأخيرة -حد قوله- كانت الأَوْلى بالبقاء والصيانة على اعتبار أنّها جزءٌ من الهُوية المعمارية لصنعاء القديمة، إذ إنّ غزو الأبواب الحديدية للمدينة، وبعض الاستحداثات الإسمنتية تعتبر اعتداء صارخًا على مدنية وسمت بعبق التاريخ، ولا يجوز بأيّ حال إلباسها أدوات الحاضر.
اتهامات متبادلة
من جهته، يقول المهندس رشاد المقطري، وكيل هيئة المحافظة على المدن التاريخية للشؤون الفنية، إنّ تغيير الأبواب الخشبية في صنعاء القديمة واستبدالها بحديدية، يعتبر أمرًا مخالفًا، ويتنافى مع السياق التاريخي والأثري للمدينة. ويضيف المقطري موضحًا أنّ هيئة المحافظة على المدن التاريخية، تنفّذ حملات توعية بشكل سنوي بشأن إبقاء صنعاء بطابعها الأثري، ولكن الأمر لا يُجدي؛ إذ ليس هنالك من مبادرات تعين سكان المدينة على ترميم الأبواب الخشبية وشراء جديدة في حال تلفت القديمة، علمًا أنّ نوع "الطَّنَب" صنفٌ من الأخشاب غالية السعر، وليس بمقدور الناس شراؤه، والهيئة لا يمكنها حلّ هذه الإشكالية، لضعف إمكاناتها المادية.
بدوره، أكّد نائب مدير مديرية صنعاء القديمة، مجاهد الغيل، وجود تنسيق بين السلطة المحلية في المديرية وهيئة المحافظة على المدن التاريخية، والأخيرة هي المسؤولة عن الحفاظ على التراث في صنعاء، وهي المخولة بضبط المخالفات بالتعاون مع نيابة الآثار. وبيّنَ الغيل أنّ مكتب الأشغال في المديرية يرفع بلاغات المخالفة إلى هيئة المحافظة على المدن التاريخية، والهيئة تبحث في سبل إيجاد الحلول، لإيقاف ما يمثّل خطرًا على صنعاء القديمة وتراثها. واستطرد الغيل مجيبًا على سؤال "خيوط"، عمّا إذا كان هنالك من دعم لسكان صنعاء، يعينهم على شراء الأبواب الخشبية، بقوله: "الدعم في الغالب يأتي من المنظمات المهتمة بالتراث، كاليونسكو، ومسؤولية هيئة المحافظة على المدن التاريخية هي الاهتمام بهذه المشاريع".
بينما تتبادل الجهات المختلفة، حكومية وخاصة، اتهامات التقصير تجاه صنعاء القديمة، تقف المدينة مرهَقة بعوامل التغييرات الطارئة التي لا تمثّلها ولا تمت إلى إرثها وتاريخها بصلة، وتبقى أماني الجميع قائمة في إيجاد الحماية والصيانة اللازمتين لمدينة لا نظير ولا شبيه لها اليوم.