السبت
لا أدري ما هو السرّ وراء استشراء داء الشيزوفرينيا في أوساط المثقفين!
لي عديد من الأصدقاء والزملاء المثقفين كانوا يتحلُّون بصفات حميدة وأخلاق مجيدة ومواقف سديدة تجاه الرثّ والغثّ من الأقوال والأفعال والظواهر والمظاهر، فإذا بدعوة الوالدين وصحوة الفجر تنطُّ بهم إلى مناصب حسّاسة في الإدارة والسياسة، وإذا بهم ينقلبون بدرجة 180 في السلوك تجاه أنفسهم والآخرين.
والمصيبة أنّ أكثر الناس ضررًا من عهدهم الجديد هم -في معظم الحالات- أقرب الناس إليهم في سابق عهدهم!
فهل يغدو من شروط الوزارة أو رئاسة المؤسسة أن يكون شاغلها مثالًا في الغطرسة أو الصلافة أو اللصوصية؟
قد أكون على خطأ في حكمي هذا.
ولكن الحقيقة المؤكدة والمُجرَّبة تشير إلى أنك إذا أردت أن تختبر معادن المثقفين، فامنح مثقفًا منصبًا يصبح فيه ذا سلطة ونفوذ على مصائر وأرزاق الآخرين.
إنّ القبيلي أو العسكري يغدو -في أحايين كثيرة- أرحم بنا منّا!
الأحد
لم يُكتَب تاريخ الثورات الكبرى من دون التنويه البارز بدور الأدب والفنّ في مسار تلك الثورات وأسباب انتصارها على مرّ التاريخ.
كان (لينين) يُردّد دائمًا أنه يتمنى أن تمتلك الثورة البلشفية وعي ووجدان (بوشكين)، حتى لو خسرت نصف رجالها من الساسة والعسكر.
في الموقف المضادّ، كان (نابليون) يعتقد أنّ "الله مع المدفعية الثقيلة"، فيما لا حاجة عنده للشعر والرسم والموسيقى، إلَّا من باب الترفيه عن النفس في أوقات الفراغ، لكنه حين نُفِيَ كسيرًا ذليلًا إلى جزيرة نائية، لم يستطع الاحتفاظ بسيفه وبندقيته وصولجانه الإمبراطوري، واستعاض عنها ببعض الكتب واللوحات.
وبعيدًا عن مشهد الثورات، ينطبق الحال تمامًا على الدول والشعوب والحكومات والمجتمعات. فالمجتمع الذي يُذَلّ فيه الأديب أو الفنّان ويُقهر المثقف وسائر الإنتلجنتسيا، يستحيل الزعم بأيّة حضارة ترتجيه!
---------
الإثنين
كنّا يومها في قاعة امتحانات الثانوية العامة. وكانت زميلتنا الحلوة أشهر من يحفظ المُقرّر الدراسي "صَم". وبعد أن كتبتْ بضع فقرات في ورقة الإجابة، توقفَت ثم راحت تنبش في رمال الذاكرة بعصبية، وفجأةً، صرخت وبكت وانهارت وتحولت إلى كومة من الهيستيريا!
اكتشفنا حينها أن زميلتنا المسكينة نسيتْ فقرة واحدة في وسط السطر فتهاوت من برج الذاكرة كل السطور التالية. ورسبت البنت الحلوة "الصمَّامة"، بعد أن كنّا نتوقع لها موقعًا بين العشرة الأوائل على مستوى الجمهورية!
أكاد أجد الحال ذاتها في نفرٍ غير قليل من "الكُتباء" و"الكلمنجية" الذين تثبت الوقائع المتوالية أنهم لا يفقهون ممّا يكتبون أو ينطقون سوى السرد اللفظي للعبارة القاموسية أو العرض الشكلي للفقرة أو الجملة من دون أدنى روح لأية فكرة كامنة فيها.
إنّهم حفظة دروس أو مردِّدو نصوص بينهم ومحتواها الجوهري ما بين كاتب هذه السطور واللغة الهيروغليفية.
إنّ الكمبيوتر يحفظ جيدًا، وكذلك الببغاء، أما التفكير فمن شأن الإنسان فحسب.
---------
الثلاثاء
كُلِّفَ تلميذ كسول بكتابة موضوع إنشائي يصف فيه مباراة في كرة القدم. كتب: وصلت إلى الملعب، وكان الطقس مُمطرًا وعاصفًا، فألغى الحكم المباراة قبل أن تبدأ!
وهذي حالة عددٍ من الباحثين والكُتّاب والدارسين. والكسل في حالة هؤلاء يقود بالضرورة إلى السطحية أو القشرية في تناول الموضوعات قيد البحث أو الدراسة، وهو الأمر الذي يقود بالتالي إلى إصابة عقل المتلقي أو الرأي العام بأنيميا معرفية حادّة في مضمار هذا الموضوع أو ذاك.
حقًّا أنّ المكتبة المرجعية فقيرة في اليمن. وحقًّا أنّ مراكز البحث العلمي في هذا البلد محدودة العدد والعتاد هي الأخرى. وحقًا أنّ أهم قنوات وأدوات الدراسة الجادة متخلفة للغاية. غير أنّ جرثومة الكسل لدى الباحث أو الكاتب تشترك مع هذه العوامل كلها لتزيد الصورة قتامة والعورة جسامة!
إن كتابة مقال أو حتى عمود تحتاج -في عدة حالات- إلى نبش الأرشيف ونكش الذاكرة ونخش الغبار عن المصادر والمراجع المتوارية، فكيف الحال بكتابة دراسة منهاجية؟!
----------
الأربعاء
المثقفون عرضة للتكفير والتخوين في كل زمان ومكان.
وأغلب من يُكفّرهم أو يُخوّنهم هم رجال الدين، أيَّ دين، ثم رجال السياسة والدولة.
حدث هذا منذ القرون الوسطى لدى العرب والعجم على السواء.
والأدهى أنه لا يزال يحدث حتى هذه اللحظة!
غير أنّ المؤلم في الأمر -أو كما قال الشاعر: أشدّ مضاضة على النفس، حين وصف ظلم ذوي القُربى!- ليس تكفير رجل الدين أو تخوين رجل الدولة للمثقف، إنّما أن يأتي هذا الفعل أو ذاك من المثقف نفسه!
احذر من المثقف على المثقف، قبل أن تحذر عليه من الفقيه أو السياسي. وهو ما أشار إليه ابن قُتيبة بألمٍ ساطع في غابر الزمان.
وهذا لعمري، ما ينطبق على أهل الثقافة والصحافة على مدار السويعة من المحيط المنثور إلى الخليج المهدور، أكثر مما ينطبق على سواهم من أهل المهن والحِرَف الأخرى.
أيها المثقف، احذر؛ ثمة مثقف خلف ظهرك!
---------
الخميس
ذات يوم بعيد، قال الأديب الشهيد محمد عبدالولي -على لسان أحد أبطاله- وهو في حالة نفسية شائكة التعقيد: "هناك سرٌّ ما في بلادنا هذه. إنها جرداء وقاحلة، لكن الأمل في أن لا يقتلنا هؤلاء الذين لا قيمة إلّا لبندقياتهم".
وتشاء حماقة الأقدار أن يقترف "هؤلاء الذين لا قيمة إلّا لبندقياتهم"، جريمة قتل عبدالولي نفسه!
وأمثال هؤلاء يصعب القبض عليهم، لا عبر الإنتربول ولا الإنترنت ولا الإنتركونتننتال ولا أيّ إنتر آخر. إنهم يوغلون فينا، يتوغلون في نسيج كوابيسنا، ويتغوّلون في واقعنا المادي والافتراضي معًا. ولا أمل في إزاحتهم إلّا باستئصال رؤوسنا!
حقًّا أنّ "أعلى ذروة يمكن أن يبلغها المرء، ليست المعرفة ولا الفضيلة ولا النصر، بل هي شيء أكبر؛ إنها الخوف المقدس". والعبارة لكازنتزاكي الذي سخر بمرارة من الحماقات والحقارات لدى بعضنا، فقال: "إنْ لم يكن للإنسان رأس، يكفِ أن تكون لديه قبعة!".
------------
الجمعة
عطلة كباقي الأيام!