بالطبع لم يقصد الموسيقيّ الروسي (إيجور سترافينسكي) في باليه (بتروشكا) أن يتنبأ بمستقبل يغيب فيه الإنسان عن القضايا المعرفية؛ وليس هذا هو موضوع الباليه، فحبكتها البسيطة تُثير صراع الفرد مع الجماعة، في عالم يتجه لجعل كل تعبير عن الأفكار أو الخيال الإبداعي مُقيَّد بقيم جماعية.
و(بتروشكا) دُمية تُبثّ لها الحياة، فتشاغب على البيانو بضربات متتابعة من الأربيجيو مرحة ونشيطة، تثير غضب الأوركسترا، التي ترد محذرة، ويستمر الحوار بين خفة الدمية ولحنها المُتهكم وتجهم الأوركسترا الغضوبة، حتى تبلغ الأصوات الجمعية ذروة العنف والارتفاع لتسقط الدمية ميتة.
بالطبع الفنّ ليس مجالًا للتنبؤ، لكنه ينشغل بجانب لعبي كما هو الحال في أصوات بتروشكا المرحة والمُتهكمة، وبالتالي اختلاق قضايا فكرية أو معانٍ أو أغراض لأي عمل فني، يصبح تشويهًا لجموحه وتلقائيته.
وسنمارس شكلًا من الاستعارة لباليه سترافينسكي، أي تلك المحاورة بين الصوت الفردي الذي يمثّله البيانو، وصوت الأوركسترا، لنبني عليها أزمة وجودية يعاني فيها الفرد، بمفاهيم جماعية تقسو عليه وتمارس عليه التنمر وكل شكلٍ من أشكال الوصاية، حدَّ أنَّ تلك الممارسات التي تأتي من الخارج، تتسلل إلى داخل الفرد، وتصبح صوتًا معيقًا في أعماقه. وهذا ما نستعيره من موت الدمية.
وُلِدَ الإنسان من روح التنوير، أي العصر الذهبي للمعرفة والفنون، وها هو يعود إلى حظيرة قمعية تمارسها آلة ضخمة، تراقبه وتستلب خصوصيته، لتحدد ماذا عليه أن يقول، بل إنّها تحظر عليه كتابة مفردات أو عبارات، تحت شعار أنها "مخالفة لقيم المجتمع"، على سبيل المثال، آلية عمل الفيسبوك.
هكذا تعرضنا بصورة جماعية، للاستدراج، لكن فرديتنا هي المعنية، والمُعرضة للاستلاب بقيود جماعية تحدّدها آلة ضخمة عبر منصات الإنترنت. في أواخر القرن التاسع عشر، تحدث نيتشه عن "موت الرب"، لكن اليوم يبدو أننا سنعلن "موت الإنسان"، أو بعبارة أكثر دقة "موت الفرد" لمصلحة المجتمعي أو الاجتماعية.
تُعد منصات التواصل الاجتماعي هي ذروة الاتصال الاجتماعي، بموجبها تصبح الفنون والأفكار علاقة اجتماعية مُباشرة، لكننا نواجه شكلًا من الممارسات والتدخلات تعلن مخالفتنا لما تسميه "قيم المجتمع"؛ إنه نفس الغضب الذي مارسته الأوركسترا بأصوات عنيفة ضد جموح الدمية المرحة.
فالآلة الهائلة التي تمارس مراقبة للكلمات، وتؤوِّل الأفكار بطريقتها، فتتساوى فيها قيم الدعابة والجدية، الاستعارة والمُباشرة، لا تتوانى عن ممارسة الإلغاء، ليس لفكرة فقط، إنّما لهوية فردية تمارس التعبير عن نفسها في هذا الفضاء الواسع.
وفقًا لمحظوراتها، سنرى أنّها تمارس الحذف لكلمات، بما في ذلك وقائع، وكما تذهب التوجهات الجديدة في النظر إلى الفن عبر تسوية قيمه، وكسر الحدود بين ما هو رفيع وعادي، بين ما هو فني وغير فني، سيكون هناك قتل للفرادة، لمصلحة النقمة الجماعية على الفرد.
تعزز البرجوازية هيمنتها ضمن تصور لنهاية العالم، وهو ما سبق واقترحه الأمريكي (فرانسيس فوكوياما)، وفقًا له ستنتصر الرأسمالية وستفرض قيمها الديمقراطية وحرية الأسواق. وعبر التقدم التكنولوجي الهائل، تمارس هيمنتها بإعادة تشكيل القيم الإبداعية والثقافية والفنية، ضمن مفهوم مختل للمساواة، بحيث تعيد تحديده اتجاهات السوق، أو اتجاهات الجمهور. بحيث يمكن تسطيح القيم وإعلاء شأن التفاهة في عملية رقمية مُتغيرة، هي جوهر التسليع.
وهذا التوجه يفرض نفسه على التاريخ البشري، المعرفي والخطابي، إذ إنّ هناك أصواتًا تطالب، بشكل متطرف، بالتدخل في الموروث الثقافي، ومحو كلمات أو عبارات من أعمال أدبية، بوصفها إساءة لفئات عِرقية أو جنسية؛ بمعنى آخر: إن ذلك الأدب يعود لزمن سادت فيه مفاهيم قمعية ضد تلك الفئات، وبالتالي تحقيق عدالة كونية، وفق هذا الاتجاه، بتسوية الماضي والحاضر والمستقبل والسيطرة على التاريخ ببناء قطيعة معرفية معه، لا تقتصر على التفوق الخطابي، إنما تمارس تحويرها على الخطاب وفق ما تراه، وعبر هيمنة المنصات الاجتماعية تمارس قمعها لكل ما يخالف قيمها الجديدة.
في عملي الروائي الوحيد (حشرات الذاكرة)، اشتغلت على الذاكرة بتصور فانتازيّ لُعبي، فما نعيشه من وقائع، ليس كما يبدو متسلسلًا في السياق الزمني وفق ما نعيشه، إنما واقع متشظٍّ يتداخل فيه الماضي والحاضر والمستقبل. وهو ليس أكثر من تصور مُتخيل ولُعبي تتقاطع فيه الذاكرة بالحلم والواقع.
ولا يمكن أن يكون هذا شكلًا للتنبؤ؛ لأنّ الرواية ليس من مهامها التنبؤ، أو أنها ستصبح عملًا تقريريًّا. والموسيقى بدورها أقل ارتباطًا بالقضايا الفكرية أو الأشكال السردية، وما فعله سترافينسكي في (بتروشكا) لا يقوم على غرض، لكنه يستعير من الواقع الوجودي الذي يرتكز عليه الخطاب الفلسفي.
وبالنسبة للموسيقيّ الروسيّ، فإنّ استعارته لفكرة الصراع بين خفة الدمية وتجهم الجماعة، كانت تعزيزًا لأسلوبه الموسيقيّ، مغدقًا على أفكاره مساحة واسعة من التنافرات النغمية، بحيث يصبح اللحن هامشيًّا لمصلحة التنويعات الأوركسترالية، والتراكيب الموسيقية غير المألوفة، وبشكل واضح، كان يُعلن فيه قطيعة أسلوبية مع الحقبة الرومانسية.
فالموسيقى، من وجهة نظره، ليست تعبيرًا عن شيء بقدر ما هي تعبيرٌ عن ذاتها، وفق أشكال نغمية، تحددها الآلات المُستخدمة والثيمات والفواصل الموسيقية، وغير ذلك.
لكن نهاية العالم، لا تتيح لهذا المجال أن يُحدث أيّ ابتكار أسلوبي. فتغدو شكلًا حرفيًّا أو تقنيًّا، يترتب عليه هيمنة اجتماعية، ووفق تلك الهيمنة، يتم إلغاء الفرد، أو ما نسميه فرادة الإنسان.
لذا في هذا الفضاء الاجتماعي الواسع، أو منصات التواصل الاجتماعي، يتم غربلة الواقع الإنساني إلى شكل أكثر اجتماعية، تحدده قيم محددة، وكما تم استدراجنا إلى هذا الفضاء، وأصبحت هوياتنا الافتراضية تحتل هويتنا الواقعية، تحدث ممارسات القمع.
وكما فعلت الأوركسترا ضدّ شلالات الشغب النغمية التي أصدرتها بتروشكا، تمارس آلة عمياء تشكل الحس الجماعي، وتسيء الفهم، لترسل لنا تحذير "منشورك أو تعليقك يخالف قيم المجتمع". وقد ينتهي الأمر بإعلان موت الصفحة، كما سقطت الدُّمية. وهكذا نشغل الواقع الافتراضي كعلامات غير إنسانية، مثل ألعاب إلكترونية، تتحكم بها آلة ضخمة، مصدرها تصور انتصاري لنهاية العالم، ووفقه تتطور الآلة وتقنياتها، ويموت الإنسان، وحريته الفردية.