ثقافة التسمية الحضرمية

الذهنية التقليدية لم تزل تُنتج النعوت الدونية التي تلاحق النساء
د. عبده بن بدر
July 31, 2024

ثقافة التسمية الحضرمية

الذهنية التقليدية لم تزل تُنتج النعوت الدونية التي تلاحق النساء
د. عبده بن بدر
July 31, 2024
.

يتناول المقال ثقافة التسمية عند الحضارمة التي تتشابه في بعض صورها في الوطن العربي، فالجريري حاول أن يفنّد هذه الثقافة، وعدّها ثقافةً لا تليق بكرامة المرأة فهي تنتهك هويتها؛ لأنها تحجب اسمها الحقيقي، فتصبح مجرّدة من هويتها، ولا يُعلن عن اسمها الحقيقي إلا في عقد قرانها وموتها.

للجريري (سعيد سالم سعيد)، كتابٌ يعلن فيه خروجه الصريح عن ذهنية أهله من الحضارمة المولعين بالتقليد في التسمية، وقضايا أُخرى تتعلق بالحريات، أسماه (من خارج الكهف). إذ يرى أنهم ما زالوا داخل الكهف، يُعيدون إنتاج ثقافة التقليد، ويفتخرون بها، وهو مُصِرٌّ على تمردّه على هذه الذهنية، فعزّز خروجه بعبارة دالة هي: "بعيدًا عن سرير بروكرست الحضرمي"، وبروكرست السفاح على أسطوريته، غدا طريقةً في التفكير تنحاز بشدة إلى النمطية، وتتعسف الإبداع الحرّ العابر للجغرافيات والإثنيات. والجريري مع الثقافة الحية التي تشجّع الإبداع الحرّ القادر على الإسهام في تأسيس المجتمع المدني، وهذا التوجه جعله مناهضًا لثقافة احتكار المرأة، وتجلّى ذلك في أكثر من مظهر عند الحضارمة، منها طريقة التسميات الخاصة بالمرأة، والأمر لا يتمثّل في اختيار الأسماء الخشنة أو الناعمة، بل في تدويرها داخل عائلاتهم، فضلًا عن انتهاك اسمها، إذ تحدث تقلّبات فيه؛ بحسب سنّها وموقعها في نظام القرابة العائلي، ففاطمة البنت الصغيرة تصبح فطومة، وحينما تكبر تصبح "البنية أو الزقرة أو العذراء"، وعندما تتزوج تصبح أم الأولاد وأم العيال ثم تصبح أم صالح حتى لو كان ابنها غير صالح، وأخيرًا قد تصبح "الشغلة".

فعل بروكرست الغاشم

إنّ الجريري يقاتل مع المقاتلين عن قضايا المرأة بالمعرفة المشحونة بحرارة التنوير مرة، ومرة أخرى بوخزات العبارة الساخرة الهادفة، وجُل مقالات الكتاب أنشودة تصدح بالغناء للمرأة الإنسان الذي نالت من كرامته الثقافةُ المعادية للأنوثة، والجريري يقرف من هذه العداوة غير المسؤولة المخربة لروح الإبداع، وهو ينحاز إلى عالم الأنثى ويطرب له. وأنوثته ليس فيها تمييز وتضييق، بل توسيع وتثوير، بل الأنوثة هنا ليست بيولوجية بل ثقافية كونية، تطمع في تلوين العالم بلون الأنوثة، وقد تزينت العنوانات الفرعية بهذا اللون، مثل: "أن تشعر بأنوثتك"، "تأنيث السلطة"، "سلمية الثورة"، "نساء عمر عبدالعزيز"، "وسميناها فاطمة على اسم الوالدة"، "الحب.. ذلك المغضوب عليه".

والمقال المبسوط بين يدي القارئ، سيركز على تلك المقالات التي لها علاقة بثقافة التسمية عند الحضارمة، وهي ثقافة لا تستقر على معاملة إنسانية تليق بالمرأة، فاسمها الذي يمثّل وجودها وتعرف به عند الآخرين يُنتهك، ومثل هذه الثقافة يسخر منها الجريري، ويرى أنّها لصيقة بالذهنية التقليدية التي تمارس فعل بروكرست الغاشم الذي يقطّع ضحيته ولا يتركها حتى تستقر على سريره المؤطر بمقاسات صارمة. وذهنية الحضرمي تُجرِي تقلبات في تسمية المرأة حتى تستقر على سرير التقاليد المحنطة.

إنّ هذه الذهنية تجعل الحضرمي لا يشير إلى أخته باسمها، بل يطلق عليها "الكريمة" أو "الحرمة" أو "الشغلة"، واذا اشتط به الغضب يطلق عليها "المذلولة"، وهذه الطريقة المريبة في التعامل المتقلب مع اسم المرأة الزوجة أو الأخت تسيء إلى وظيفة اللغة، فبدلًا من أن تتحول اللغة إلى مسكن للوجود والمعرفة بموجوداته، بحسب المفهوم الهيدجري، تصبح تسترًا يصعب به فهم أشيائه وأحيائه، فاسمها الذي يحمل هويتها ويظللها بمعناه، يطاح به، لتصبح بلا هوية وبلا معنى فهي "الشغلة"، كلمة لا معنى لها، لا تعني شيئًا، وقد تعني كل شيء. وفي المقال الموسوم "وسميناها فاطمة على اسم الوالدة"، يكشف الجريري عن الربط الحتمي بين اسم الطفلة واسم جدتها، سواء من جهة الأم أم الأب. ومثل هذا المصير لا يكف عن التدوير عند بعض العائلات.

والأمر لا يتوقف عند هذا المستوى من التعامل بشأن تسمية المرأة، بل إنّ هذا الاسم يتم التستر عليه وحجبه، بحسب السياقات ومتطلباتها. وترتفع درجة التستر والحجب في التعامل مع اسم الحبيبة الأنثى؛ لأنّها حكاية الحكايات الجميلة التي تستفز كل القبح الموجود في الذهنية التقليدية التي تصرّ على التستر عليه بوساطة متاريس اللغة المتزمتة تجاه المرأة، وهذا التزمت والتستر لا يزيد المرأة إلا ظهورًا في الأنفس والأرواح.

يتم التستر على اسم المرأة وحجبه، بحسب السياقات ومتطلباتها. وترتفع درجة التستر والحجب في التعامل مع اسم الحبيبة الأنثى؛ لأنها حكاية الحكايات الجميلة التي تستفز كل القبح الموجود في الذهنية التقليدية التي تصرّ على التستر عليه بوساطة متاريس اللغة المتزمتة تجاه المرأة، وهذا التزمت والتستر لا يزيد المرأة إلا ظهورًا في الأنفس والأرواح.

إنّ ذهنية الحضرمي ذهنية مضطربة عاطفيًّا، فهو في غاية الرقة مع بنته الصغيرة فطّومة، فتجده يقبلها ويدلّلها بالكلام المعسول، فيناديها بـ"فطمطم" أو "تامي"، ولكن حالما يستوي وينضج جسدها يكف الحضرمي عن معاملتها بهذه الرقة، وتصبح فطومة "البنية" أو "الزقرة"! ويتوارى اسمها ليستقر في أرشيف السجلات الرسمية، ولا يتم الإعلان عن اسمها إلا في عقد القران، ففي هذه اللحظة المباركة يعلن فيها عن اسمها دون تحرج وحساسية من ثقلها الأنثوي. وإذا كان الحضارم يخجلون من ذكر أسماء أمهاتهم وجداتهم، فإن الجريري لا يتردّد في ذكر أمه وجدته، بل ويفتخر ويترنم عندما يذكرهما.

وبمناسبة التقلبات في التسمية، فإنّ من ضمن مقالات الكتاب مقالًا عن الاسم، احتفى فيه باسمه (سعيد) واسم عائلته. بل تغزّل فيه ولم يفكر في تغييره، مثلما فعل الشاعر (علي أحمد سعيد إسبر) الذي غيّر اسمه إلى (أدونيس) لضرورة فنّية؛ أمّا الجريري فلم يغير اسمه، لأنه يُشعِره بالسعادة والسلام والرضا الداخلي، فـ(سعيد) من السعد، و(سالم) من السلامة، وضاعف اسم أمه (سلامة) من درجة الأمان والسلامة. أما جدته (يسيرة) فقد منحته لقبًا يشع بالبهجة والفرح، فهي قد تركت كل الألقاب الضخمة والفخمة داخل القبيلة، وآثرت أن تسميه الحلو، فأصبح (سعيد الحلو). وحقّقت هذه التسميات لسعيد توافقًا هرمونيًّا في أعماقه، وتبدّت هذه الهَرمونية في تلك العبارة المضيئة التي تتراقص بألوان الفرح: "كل شيء حولي، حتى في أقسى اللحظات وأتعسها، يعزّز ذلك الشعور بالسعادة المرجَأة والمأمّلة منها... إن اسمي مردوفًا باسم أبي سالم بما فيه من حوافٍ دلالية أثيرة، فاض عليَّ سلامًا داخليًّا يفيض عليَّ هو الآخر توازنًا نفسيًّا، فماذا أريد؟ فقد جمع اسمان لصيقان على شيئين محلوم بهما، السعادة والسلامة، ذانك هما المرتجيان". أما لقب الحلو فقد أضفى على حياته الحلاوة، وأصبح ينظر للحياة بمقاييسها، فجدّته حينما تناديه بـسعيد الحلو يتذوق هذه الحلاوة بروحه ويشعر بالخفة والمرح الوجودي.

التسميات أو النعوت الدونية

إنّ الجريري محسوب على عائلة الإبداع أكثر منه على عشيرته وقبيلته، فهو عندما يكتب أحيانًا نصًّا شعريًّا يستبعد اسم القبيلة ولا يُبالي به، فهو أقرب إلى الشاعر المتمرّد (الشنفرى) الذي خرج عن قبيلته ورضيَ بأن يعيش في الصحراء؛ ليحافظ على كرامته وحريته، فأراد أن يقهر الصحراء فقهرته، لكنه ترك لنا عالَمًا من الإبداع الحرّ، تجسَّد في لاميته. لكن الجريري لم يذهب إلى الصحراء، بل ذهب إلى أرض هولندا الخضراء، فطاب له المقام هناك، وكلما وجد مناسبة ليعلن فيها مخالفته لعشيرته، لم يتردّد في الإعلان عنه.

إنّ كل المقالات في الكتاب هي صور مختلفة للتعبير عن الحريات ومناهضة القهر والاستبداد، والدعوة الحرة للإبداع الذي لا يتقيّد بتقاليد من خارجه بل من داخله. وتمثّل فعل الخروج عن ذهنية التقليد في مخالفته أهله الحضارمة، فقد كف عن الترويج والتدوير لاسمه العائلي، وبثّ الروح في اسم سالمين، ورفع من شأنه وحرّره من النمطية ومن النظرة الدونية، وهو في هذا التوجه لم يصغِ لاختياراته، لكن الجريري سوغ لاسمه الجديد الذي اختاره له الهولنديون "مِنير الخريري"، إذ تم التضحية باسم القبيلة الجريري.

وهذا التعديل في اسمه تحقّق بفضل النظام اللغوي الصوتي الهولندي، وهو نظام خالٍ من حرف الجيم، فكل جيم في الهولندية يتحول إلى حرف الخاء، فصار الجريري (الخريري). أما (مِنير) -بكسر الميم- فتعني السيد بالهولندية، فصار اسمه (منير الخريري). ولقد تقبّل الجريري بحفاوة هذا الاسم الجديد تحت ضغط الحياة الجديدة والدعابة القارّة بداخله، واستطاع أن يؤول اسمه الجديد، بالرجوع إلى معاجم اللغة، فوجد أنّ كلمة (خرير) من معانيها صوت حفيف الطائر، أو صوت الماء المنساب على منحدر في مدينة تحيط بك قنواتها من كل جانب. 

لقد شيّد الخريري من معاني أسماء عائلته جنةً أرضية منقوصة، يجد فيها المرء السعادة والسلامة والتيسير، ولكن هذه الجنة رُفع عنها النقص بعد التغيير الذي أجراه الهولنديون على اسم قبيلته، إذ اكتملت هذه الجنة وانهمرت من جوانبها المياه، ورفرف الطير في سمائها، والخريري يسرح ويمرح داخلها. ولعل القارئ يسأل: هل هذا التأويل أتى من الشعور بالحرية والاستقلال الذي مسّ الجريري من الأعماق في الوطن الثقافي الهولندي الجديد، بلد الفيلسوف الحر (سبينوزا)؟ وبالأخير هناك سؤال: هذه الثقافة بالتسمية عند الحضارمة؛ أما زالت تحتفظ بثقلها القديم أم أصابها شيء من التغيير؟

إنّ الذهنية التقليدية عند الحضارمة هي المسؤولة عن التسميات أو النعوت الدونية التي تلاحق المرأة، فاسمها الحقيقيّ الذي يحمل هُويتها يُزاح كلّما تقدّم بها العمر، فهي "البنيّة" و"العذراء" و"أم العيال" و"الشغلة" التي لا تعني شيئًا، وقد تعني كل شيء، والجريري يناهض هذه الثقافة بقوة.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English