من علّم الأطفال الانتحار؟

"حنين القطوي" نموذجًا قاسيًا بعد أن نقصت درجتين
نجيب مقبل
July 25, 2024

من علّم الأطفال الانتحار؟

"حنين القطوي" نموذجًا قاسيًا بعد أن نقصت درجتين
نجيب مقبل
July 25, 2024
الطفلة حنين القطوي (11 عامًا)-عدن

كتبَت رسالةً خطية إلى أبيها، ودّعته فيها قبل انتحارها، بالقول: "سامحني يا أبي، لأني نقصت درجتين وما قدرت أجي الأولى"؛ هكذا ببساطة متناهية أقدمت الطفلة حنين القطوي (11 عامًا)، على الانتحار بعدما رمت نفسها من الدور الخامس في العمارة التي تسكن فيها مع أسرتها، في حي السنافر، بمديرية المنصورة في عدن. انتحرت حنين بسبب تراجع معدلها في المدرسة بمقدار درجتين فقط عن المعدل النهائي الذي اعتادت الحصول عليه خلال سنوات دراستها السابقة!

حنين تنتمي إلى أسرة فقيرة، وتحرص أمّها دائمًا على متابعة بناتها في المدرسة، وكانت الأم قد سألتها بعد عودتها من المدرسة عن دفتر العلامات الدراسية، فأجابتها بأنّ المدرسة لم تعطِهم النتائج بعد.

ذهبت الأم إلى المدرسة لتتأكد، وعرفت (حنين) من زميلاتها أنّ أمّها موجودة في إدارة المدرسة، فعادت الطفلة إلى البيت، وصعدت مع دفاترها وكتبها وحقيبتها إلى الطابق الخامس، وقالت لشقيقتها الأكبر منها (15 عامًا) إنّها سترمي الحقيبة ونفسها من فوق، وهذا ما حصل، وكانت الكارثة، فتوفّيت على الفور.

هذه الحادثة الإنسانية الجلل هزّت المجتمع العدني من أركانه، وصارت أيقونة للألم المجتمعي الذي يتضاعف مع آلام مجتمعية أخرى يعاني منها أبناء هذه المدينة الحالمة المسالمة والآمنة بسبب القصور الحادّ والمميت لدور أجهزة الحكومة العضوي في توفير الخدمات، ممّا يسبّب ضغوطات على كل أسرة في مدينة مستورة الحال لا تملك من ستر حال قاطنيها إلا راتبًا لا يسمن ولا يغني من جوع، أو عمل حرّ تذرو أجوره رياح الغلاء، فيصبح العيش الكريم محطّ تجاذبٍ في البحث عن اللقمة واكتساب الطمأنينة، مثل "جري الوحوش".

عدن لم تكن بحاجة لألم مجتمعي كهذا الانتحار لطفلة فكّرت ونفّذت الانتحار لا لسبب وجيه وصحي، سوى أنها لم تأتِ الأولى في صفّها، بأن نقصت علامتين! وتخلّفت عن الشرف الذي كانت تناله كل عام، وقصرت فيه هذه المرة.

بالتأكيد، إنّ الضغط الأسري على الأبناء والبنات من طلاب المدارس الأساسية بالتشديد على الحصول على المرتبة الأولى في شهادات آخر السنة التعليمية، سببٌ متواتر لكثير من عوامل التربية غير السوية.

في رسالتها، أبدت (حنين) خيبتها من سقوط علامتين في النتيجة المدرسية عن الكمال الذي اعتادته في كل عام، بأن تكون الأولى وبالعلامة الكاملة، وكان كفيلًا من هذه الخيبة التي انتابت الطفلة في تلبية الطلب الضاغط للأسرة، أن تبقى أمام خيار وحيد؛ الأولى في المدرسة! اختارت الموت انتحارًا، في طريق مغاير لأيّ تفكير لطفلة طبيعية تواجه مثل هذا الظرف الضاغط.

لكن سؤالي الذي ما زال يطنّ في رأسي إلى هذه اللحظة: ما الذي دفع طفلة يافعة إلى أن تفكر في الانتحار بهذا الأسلوب القاسي للهروب من عقاب أسري تافه لا يساوي شيئًا أمام قيمة حياة هذه الطفلة البريئة.

أعلم ويعلم القارئ العزيز أنّ الطفولة ببراءتها هي إقبال على الحياة لا إدبار عنها، وأن الطفل مهما كبر عقله واتسعت مدارك علمه، فإنّ الطريق إلى الانتحار وإنهاء الحياة مسألة عسيرة على التفكير الطفولي، فضلًا عن التوصُّل إلى تنفيذها، إلّا إذا كانت هنالك مستجدات تمنهجت في حياتنا وفي طفولة أبنائنا جعلت الطريق سالكة إلى ارتكاب هذه الجريمة بحق الطفولة والمجتمع، وجعلت هذا المنهج اللاعقلاني مقبولًا.

في هذا الجو المشحون بالوجع المجتمعي، فإنّ الأطفال يبدون ببراءتهم بعيدين كليًّا أو جزئيًّا عن تحمّل تبعات هذا الشقاء، فهم يلهون ويلعبون ويدرسون ويحلمون ويضحكون بعيدًا عن عناء الأبوين في هذا الشقاء الحياتي، ولكنهم مع ذلك غير بعيدين عن الاصطدام بأصوات الأنين الأسري والمجتمعي، وهي تلطخ صفحة طفولتهم الناصعة البياض.

في الحالة المذكورة آنفًا، يبدو الانتحار أنّه بسبب الضغط الأسري، ولكن هذا الضغط لا ينفصم عن مجريات الحياة الشقية، حين يتحوّل الوالدان إلى مطرقة في رؤوس الأولاد والبنات لتنفيذ الرغبات والطموحات القصوى، مثل تحصيل العلامة الكاملة والمرتبة الأولى في المدرسة الابتدائية، باعتبار أنّ هذا الطموح القاسي هو الذي سيؤدي إلى الخلاص من الشقاء الأسري، وأن الابن أو الابنة هما طريقَا الخلاص، دون التفكير بأنّ هؤلاء أطفالٌ محكومون ببراءتهم ومحدودية سقفهم في فهم التعاسة الأسرية ومدى إمكاناتهم في إيجاد الحلول المستقبلية المنتظرة، فيصبح النجاح اللامتناهي لدى بعض الأُسَر منجى ومهربًا من كابوس الفقر وشظف العيش تارة، أو مسلكًا إلى الترويح عن فشل الآباء والأمهات عن تحقيق طموحاتهم العابرة من الماضي، ليسلطوا سيوف الحاضر والمستقبل على رقاب الأطفال، من خلال هذا الابتزاز الأسري على الأبناء والبنات بأن يكونوا الأوائل في النتيجة وفي الصف والمدرسة، والتنميط بأن يتخرجوا في المستقبل دكاترة أو مهندسين أو... إلخ، وكأنّ هذا المسلك طوقُ نجاة لذهنية الوالدين المتبروزة في الكمال ولا شيء عداه.

تجليات الطفولة في عصر التكنولوجيا

أطفالنا، أطفال هذا العصر، عصر التكنولوجيا والإنترنت وحرية تبادل المعلومات، ليسوا أطفال الأمس الذي كُنَّاه والذي تربينا وربينا أولادنا عليه، لقد دخلت عليهم معطيات العصر الحديث وتقنياته التكنولوجية ووسائله المنتشرة من منصات التواصل الاجتماعي (الفيسبوك، الواتساب، التيك توك، الإنستجرام، وغيرها)، ونمّت هذه الوسائل العصرية من مدارك الأطفال وطرق تفكيرهم ولغة مخاطباتهم، وربما وصلت إلى المشاعر المخبوءة في حياتهم البسيطة، لتجعلهم يصلون إلى مناطق مظلمة كالتفكير بالموت والانتحار.

"الموت"، أقصى منطقة يمكن أن يفكر فيها الطفل أو المراهق، لكنه قد يبدو لدى طفلٍ أو مراهقٍ ما لعبة (جيم) أو خلاصًا من كبت حالي أو رجوعًا تاليًا إلى الحياة بطريقة أفضل (جنة مستعادة فرضيًّا).

لا ندري كيف يفكّر أطفال هذا الزمان، ونحن نراهم يتابعون بصمت شقاءَنا وشكوانا من الحياة وصعوبة العيش فيها، وربما تذمُّرنا وكثرة الحديث عن تداعيات الحرب والأوجاع المجتمعية والمعيشية؟! ويتفاعلون معنا بصمت ويشاركوننا هذا الألم، وربما يبتكرون الحلول التي يجدونها سهلة في شاشات ألعاب الجميز والألعاب الإلكترونية وفي الأفلام والمسلسلات الدراماتيكية، وفي كل ما يتناهى إلى أيدي الطفولة المغتالة من خيارات قاتلة، وتوصيفها بالنهايات السعيدة.

بين استقالة العقل واستقالة البراءة

عمومًا؛ لحظة الانتحار زمنيًّا ومكانيًّا هي حالة استقالة وعي الضحية عن معرفة الواقع والمحيط، والتركيز في أمر محدد، هو كيفية الوصول إلى هذه اللحظة القاتلة (الانتحار)، راميًا وراء الظهر كل معطيات العقلانية والتدبر في مآلات هذا الانجراف نحو هذه الفكرة المسيطرة في لحظةٍ ما؛ إمّا بسبب خللٍ في القوى العقلية، أو حالات استيلاء الغضب العارم، أو الخوف والرعب المتمكن من الحواس الخمس ومن التدبر العقلاني.

مِن المؤلم إنسانيًّا واجتماعيًّا، وعصيٌّ على التحليل المنطقي، أن يذهب أطفالٌ يملكون نمطًا عقليًّا وذهنيًّا عاديًّا ومجبولون فطريًّا على صناعة الحياة والآمال إلى صناعة الموت الذي هو آخر دالات التفكير الطفولي البريء. من دون شك أن التفكير في مآلات مغادرة العيش على الأرض، ومعاناة آلام ما قبل وأثناء الانتحار، تبدو من علامات غرائب هذا الزمان، حيث تغتال الطفولة.

هي لحظة خلاص متأبِّدة تَرفض المشاعرَ الإنسانية الاعتيادية، وتنساق وراء الأفكار السوداوية، وتنقاد نحو الدروب المظلمة؛ نحو ظلمة الموت؛ لذا أنّى لطفلةٍ مثل (حنين) وغيرها من الذين يملكون القوى العقلية الطفولية الكاملة، ولو كانت غير مكتملة الوعي ومسربلة بالبراءة الخالصة، أن تُعلي من فكرة الموت على واقع الحياة، وإن كان هذا الواقع مؤلمًا وقاسيًا، وهي التي تملك صفحة بيضاء من التجارب الحياتية والخبرة الذاتية؟

صحيح أنّ الرعب، والخوف من التأنيب، والشعور بالخذلان، كلها أمور قد تصبح في لحظةٍ ما قاتلة، وربما هذا ما أدّى إلى انقياد (حنين) إلى سقف الدَّور الخامس، لكي ترمي بنفسها وتتحول إلى جثة هامدة مضرجة بدمائها.

في رسالتها، أبدت (حنين) خيبتها من سقوط علامتين في النتيجة المدرسية عن الكمال الذي اعتادته كل عام دراسيّ، بأن تكون الأولى وبالعلامة الكاملة، وكان كفيلًا من هذه الخيبة التي انتابت الطفلة في تلبية الطلب الضاغط للأسرة أن تبقى أمام خيار وحيد؛ الأولى في المدرسة. اختارت (حنين) الموت انتحارًا، في طريق مغاير لأي تفكير لطفلة طبيعية تواجِه مثل هذا الظرف الضاغط، اختارته بالطبع كطريق عقلي مستقيل عن الوعي وعن البراءة .

في هذه اللحظة الضاغطة التي عانت منها (حنين)، من الطبيعي أن تكون في حالة استقالة العقل عن الوعي السديد، ولكن اللافت في لحظة الاستقالة العقلية هذه، استقالة طفولتها عن براءتها باختيارها إقرار الموت انتحارًا.

وهنا يكمن السؤال محيّرًا: لماذا استقالت براءتها عن تحديد خيار سليم وسديد لأيّ طفلة تواجِه عنفًا أسريًّا، كخيارات الهرب من المنزل، والتخفي عن البيت برهة زمنية، أو مواجهة المصير المحتوم مع الأم والأب، أو الاحتماء بقريب يحميها من العقاب، وهو الخيار السليم والمتاح لعقلية أي طفل أو طفلة.

لكن (حنين) اختارت تحت طائلة الرعب والخوف وتأنيب الضمير، إنهاءَ الوجود الجسدي والروحي لذاتها الطفولية بالموت انتحارًا، وهو ما يبدو أنّه خارج إطار التفكير الطفولي البريء.

وهنا يبرز السؤال: لماذا استقالت طفولتها عن البراءة وذهبت إلى اختيارٍ لا يملكه إلا ذو عقل متراكم بتجربة ومعرفة وإدراكات تفوق تراكم خبرة سنواتها القليلة، وهو الخيار الأكثر تعقيدًا من الناحية النظرية لتكوين الطفلة العمري والتراكم الضعيف في الخبرة والمدركات المعرفية بالحياة، بالانحياز إلى الموت دون الحياة، بموتٍ اختياريّ ومقرر: الانتحار!

ظاهرة تتفشّى؛ فهل من مناص؟

إنّه من المؤلم إنسانيًّا واجتماعيًّا وعصيٌّ على التحليل المنطقي أن يذهب أطفالٌ يملكون نمطًا عقليًّا وذهنيًّا عاديًّا ومجبولون فطريًّا على صناعة الحياة والآمال إلى صناعة الموت الذي هو آخر دالّات التفكير الطفولي البريء.

من دون شك أنّ التفكير في مآلات مغادرة العيش على الأرض، واختيار السكنى الأبدية تحت الأرض مضرجين بالدماء، وهلاك الجسد وتهشمه، ومعاناة الاختناق في الشنق مثلًا، وغيرها من آلام ما قبل وأثناء الانتحار، تبدو من علامات غرائب هذا الزمان، حيث تُغتال الطفولة بمجرد تفكير طفلٍ ما بالانتحار. ولأنهم أطفال مدثّرون بقلة الخبرة والمعرفة، فإنهم لا يدركون أنّ قتلَ النفس دون حقّ محرّمٌ دينيًّا، وأنّ الانتحار طريقٌ سالك من البرزخ إلى جهنم .

إنّ بوصلة التربية يجب أن تتجه إلى احتضان الطفولة، والنأي بها عن أيّ وسيلة أو ثقافة أو معاناة تؤدّي بالطفل البريء إلى أخذ مسلك الموت طريقًا آمنًا إلى إنهاء حلّ معضلة أو مشكلة، أو مرض نفسي، أو تجريب قابل للاستعادة دون ضرر.

الطفولة تحتاج حضنًا دافئًا، فرديًّا وأسريًّا ومجتمعيًّا، ومؤسسات تعليمية ومراكز علاجية مرضية ونفسية، وإشرافًا اجتماعيًّا في المدارس والأحياء؛ لكي تستبق الطريق لأولئك الآيلِين إلى الموت انتحارًا. فربما بدا هذا الفعل القاتل في نظر فاعله الطفل البريء سذاجةً منه كأحد نماذج لعبة جيم أو ذهاب قصير إلى الموت ثم رجوع محتمل للحياة أو اعتقادهم أنّ العيش في الموت راحة أبدية. فلا ندري كيف يفكر أطفال كهؤلاء المنتحرين حين يتخذون قرار الموت هكذا ببساطة متناهية!

•••
نجيب مقبل

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English