غدا البحر الأحمر أبرز ساحات الصراع تأثيرًا على الاقتصاد العالمي في الوقت الحاضر، بعد اتساع رقعة المعارك الدامية من الأراضي الفلسطينية، لتصل إلى أرجاء مختلفة من الشرق الأوسط، في نزاع جيوسياسي واسع النطاق بين المحاور الإقليمية والدولية المتناحرة. فيما ثمة مخاوف ملموسة من انسحاب ارتداداته الأمنية والاقتصادية مستقبلًا على اليمن، البلد المترنح على واقع الاحتراب المسلح مُنذ عقد، ويعاني من تخلف مزمن في الإمكانيات وندرة في فرص النهوض.
أبدى الاحتلال الإسرائيلي في حربه الأخيرة على غزة، وحشيةً لم يسبق لها مثيل في التاريخ المعاصر، فمنذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، تسبّبت الآلة الحربية الإسرائيلية المعززة بفوائض القوة في خسائر فادحة في أرواح المدنيين، في حرب إبادة مشهودة تتجاوز الحسابات السياسية، وبدعم غير محدود من الولايات المتحدة الأمريكية. وقد قُتل وأصيب أكثر من 100 ألف مدني، معظمهم من الأطفال والنساء، وترك الخراب الواسع والوحشية غير المسبوقة أثرًا عميقًا على حالة الاستقرار النسبي في المنطقة.
لقد اجتلبت القضية الفلسطينية تضامنًا عالميًّا عريضًا. وقد وجدت إسرائيل، إلى جانب حلفائها، الولايات المتحدة وبريطانيا، نفسَها معزولة بشكل متزايد عن المجتمع الدولي، الذي تكررت دعواته لوقف إطلاق النار، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية الطارئة، إلا أن إسرائيل وحلفاءها ظلوا يقاومون بشكل متحدٍّ، هذا الإجماع الدولي. وفي خطوة مهمة، بادرت جنوب إفريقيا إلى رفع ملف جنائي إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، تتهم فيه إسرائيل بارتكاب أعمال إبادة جماعية. ويؤكّد هذا الإجراء مدى خطورة الوضع في فلسطين المحتلة، والحاجة الملحة للمساءلة.
وفي الصراع الدائر في البحر الأحمر، أكّدت جماعة أنصار الله (الحوثيين) المسلحة، المدعومة إيرانيًّا، مرارًا وتكرارًا أنّ ضرباتها الصاروخية ضد أهداف إسرائيلية وسفن متجهة نحوها، تهدف إلى كسر الحصار الخانق الذي يفرضه الاحتلال الإسرائيلي على غزة. ويأتي هذا الحصار في إطار سياسة التجويع والعقاب الجماعي، التي أدّت إلى التهجير القسري لأكثر من مليون ونصف مدني إلى مدينة رفح، الجيب الجغرافي الصغير في جنوب قطاع غزة.
إنّ طريق الملاحة الدولي المارّ بخليج عدن ومضيق باب المندب، بات الأكثر خطورة على مستوى العالم، إذ بدأت الولايات المتحدة وبريطانيا، جهودًا لحشد القوات العسكرية، ونشر أساطيل حربية شمال وجنوب مضيق باب المندب، وتنفيذ حملة جوية لقصف مواقع داخل الأراضي اليمنية، في سياسة متواطئة مع الاحتلال الإسرائيلي، تُديم أمد الصراع المسلح في المنطقة، وتُفاقِم من آثاره السلبية طويلة المدى.
بدأ النزاع الحالي في باب المندب، في 19 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، عندما أطلقت حركة الحوثيين المسلحة داخل اليمن، وابلًا من الصواريخ والطائرات المتفجرة بدون طيار، باتجاه إسرائيل. وفي يوم الأحد 19 نوفمبر/ تشرين الثاني، استولى الحوثيون على سفينة الشحن الإسرائيلية "جالاكسي ليدر" في البحر الأحمر، وأصدروا تحذيرًا بأن جميع السفن المرتبطة بإسرائيل ستعتبر أهدافًا مشروعة لقواتهم.
الصراع الجيوسياسي في البحر الأحمر
بعد عقود من الاستقرار النسبي في المياه الدولية، تعطلت حركة الشحن العالمية في البحر الأحمر؛ بسبب تصاعد التوترات الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط، ويعتبر باب المندب المضيق المائي الأكثر تأثرًا بالمخاطر، وهو ممرّ ضيّق شهد عدم استقرار، سنواتٍ عدة، ولكنه يعيش تصعيدًا حادًّا خلال الصراع الجاري. وقد ساهم استخدام الصواريخ الباليستية المضادة للسفن والطائرات بدون طيار في زيادة المخاطر التي تواجهها السفن التي تبحر في هذا الطريق الخانق. إنّ الشريط الساحلي الواسع لليمن، والذي يمتد لأكثر من 2000 كيلومتر، يمنحه أهميةً جيوسياسية وأمنية وازنة على النطاق العالمي.
إنّ الصراع الراهن في باب المندب ليس الأول؛ ففي عام 1973، خلال حرب أكتوبر، فرضت السفن المصرية حصارًا على المضيق، ممّا أجبر العديدَ من ناقلات النفط المتجهة إلى إسرائيل من إيران، التي كانت آنذاك تحت حكم نظام الشاه الموالي للغرب، على تغيير مسارها. وأكّدت هذه الأحداثُ الأهميةَ الجيوسياسية الدائمة للمضيق، وتأثيره الحاسم على إمدادات الطاقة العالمية.
بدأ النزاع الحالي في باب المندب في 19 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، عندما أطلقت حركة الحوثيين المسلحة داخل اليمن وابلًا من الصواريخ والطائرات المتفجرة بدون طيار باتجاه إسرائيل. وفي يوم الأحد 19 نوفمبر/ تشرين الثاني، استولى الحوثيون على سفينة الشحن الإسرائيلية "جالاكسي ليدر" في البحر الأحمر، وأصدروا تحذيرًا بأن جميع السفن المرتبطة بإسرائيل ستعتبر أهدافًا مشروعة لقواتهم. وأظهرت لقطات فيديو نشرها الحوثيون أفرادًا مسلحين ملثمين يصعدون على متن السفينة المتحركة من طائرة هليكوبتر، ويحتجزون أفراد الطاقم تحت تهديد السلاح. ولا تزال السفينة محتجزة قبالة سواحل اليمن.
وتمتلك جماعة الحوثي المسلحة قوة بحرية قادرة على القيام بأعمال عسكرية داخل المياه الدولية. وتشمل ترسانتها مجموعة من الأسلحة كصواريخ وطائرات بدون طيار هجومية؛ مثل طائرات قاصف 1 وقاصف 2 التي يصل مداها إلى 200 كيلومتر، وأخرى قادرة على تغطية مسافات تصل إلى 1800 كيلومتر. بالإضافة إلى ذلك، فإن صواريخها التي تطلق من الأرض لها مدى يصل إلى 800 كيلومتر، مما يمكنها من استهداف السفن من مسافات بعيدة. كما حاول الحوثيون اعتراض السفن باستخدام القوارب الصغيرة. والقوارب المُسيَّرة والغواصات المُسيَّرة الصغيرة. وفي إجراء احترازي، توقفت معظم شركات الشحن الكبرى عن استخدام مضيق باب المندب للتجارة مع أوروبا عبر البحر الأحمر وقناة السويس منذ 15 ديسمبر/ كانون الأول.
وفي ديسمبر/ كانون الأول 2023، أعلنت الولايات المتحدة تشكيل تحالف دولي يهدف إلى التصدي لهجمات الحوثيين، أُطلق عليه اسم "حارس الازدهار"، بَيد أن معظم الدول المعلن عنها ضمن التحالف، انسحبت منه، ونشرت الولايات المتحدة وبريطانيا سفنًا حربية للقيام بدوريات في البحر الأحمر، في سبيل اتخاذ إجراءات للردع ومراقبة الأنشطة العسكرية للحوثيين، وفرض قيود على الأسلحة القادمة إلى اليمن من إيران. وفي الوقت نفسه، بدأت دول أخرى تُسيِّر دوريات مستقلة عن التحالف في المياه المحيطة باليمن. وفي 11 يناير/ كانون الثاني 2024، بدأت الولايات المتحدة وبريطانيا سلسلةً من الضربات الصاروخية على أهداف عديدة مرتبطة بجماعة الحوثيين على الأراضي اليمنية.
ويشن التحالف الأمريكي البريطاني غارات جوية بشكل شبه يومي، ويركز هجوماته في المقام الأول على طول الشريط الساحلي لمحافظة الحديدة. كما استهدف مناطق تشمل صنعاء وتعز وحجة وصعدة والبيضاء وذمار. ونتيجة لذلك، قلصت جماعة الحوثي حضورها العسكري في المناطق المفتوحة على طول الشريط الساحلي، وحولت وجودها المكثف إلى سلسلة المرتفعات الجبلية المتاخمة لأجزاء من خليج عدن وباب المندب؛ كالوجود العسكري في مناطق مثل الصلو وحيفان وشمير في محافظة تعز، وكذلك الجبال الشاهقة في حجة وريمة والمحويت المطلة على البحر الأحمر وميناء الحديدة ذي الأهمية الاستراتيجية. بالإضافة إلى ذلك، فقد أقاموا وجودًا عسكريًّا لهذه العمليات في مكيراس بمحافظة البيضاء، مقابل المياه الإقليمية لخليج عدن.
وتمنح التضاريس الجبلية الوعرة جماعة الحوثي مزايا تمكنها من ممارسة سيطرة أكبر على المساحات البحرية أمام المياه الإقليمية اليمنية. ويؤكد خبراء عسكريون أن هذه التضاريس تسهل إخفاء منصات الرادار والذخيرة ومركبات الإطلاق، وبحسب تقارير يتلقى الحوثيون معلومات استخباراتية من سفينة الشحن الإيرانية MV Behshad، التي تعمل تحت ستار سفينة شحن، ولكنها مجهزة بمعدات مراقبة ورصد جوي، لتوفير المعلومات اللازمة لشن هجمات عسكرية على السفن التي تعبر البحر الأحمر وخليج عدن.
وفقًا لبيانات شركة Embry Analytics، تم الإبلاغ عن قرابة 80 حادثًا، تتعلق بسفن الشحن في البحر الأحمر وخليج عدن في الفترة ما بين 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، و9 فبراير/ شباط 2024. غير أنه لم يتم الإبلاغ عن وقوع إصابات بين الطواقم أو البحارة الذين يقودون السفينة المستهدفة.
في 12 يناير/ كانون الثاني، وهو اليوم الذي بدأت فيه العمليات الأمريكية البريطانية في اليمن، أعلنت جماعة الحوثي مقتل خمسة من قواتها، وإصابة ستة آخرين. وفي 10 فبراير/ شباط، أعلنت عن مقتل 17 على الأقل من مقاتليها في محافظة الحديدة. بالإضافة إلى ذلك، أدّى هجومٌ جوي أمريكي في أواخر ديسمبر/ كانون الأول، إلى مقتل 10 مقاتلين حوثيين بعد استهداف ثلاثة قوارب في البحر الأحمر. وأكّدت القيادة المركزية الأمريكية هذا الحادث.
لكن العمليات الحربية التي نفّذتها القوات الأمريكية، أظهرت قدرة محدودة على تحييد الإمكانيات العسكرية على إطلاق الصواريخ على السفن التجارية المارّة عبر البحر الأحمر. وهناك أسباب عدة وراء عدم تأثير هذه العمليات بشكل كبير، على الحوثيين. وتشمل هذه العوامل: وجود تفاهمات سعودية إيرانية، وعدم مشاركة الدول العربية والأوروبية في التحالف الأميركي البريطاني، والتضاريس الجبلية التي تعتمد عليها الجماعة، وخبرتها الواسعة في التعامل مع الضربات الجوية والتقليل من آثارها.
وقد فرضت العمليات الجوية العسكرية تكاليف مالية باهظة على الولايات المتحدة وبريطانيا؛ كون الحملات الجوية التي تحتاج زمنًا طويلًا، تستنزف الموارد بصورة ضخمة، على غرار ما استنزفت التحالف بقيادة السعودية والإمارات على مدى تسع سنوات. علاوة على ذلك، غالبًا ما تؤدي هذه العمليات الجوية إلى تدمير واسع النطاق في البنية التحتية دون تحقيق أي نتائج مرجوّة.
إنّ أحد الجوانب البارزة في هذا الصراع الجيوسياسي، هو تراجع النفوذ الأمريكي في المنطقة، في حين تستمر الهيمنة الصينية والإيرانية في النمو. ويخدم الوجود الأمريكي في المنطقة أغراضًا استراتيجية، بما في ذلك، ضمان نقل النفط إلى الدول الغربية، وتوفير الأمن لشركات النفط الأميركية العاملة في المنطقة. ومِن ثَمّ، تعمل المنطقة العسكرية الأمريكية كمركز تحكم وقيادة لتدفق النفط الخام إلى أوروبا وخارجها. وفي اجتماع عُقد في يناير/ كانون الثاني الماضي، حثّ مستشارُ الأمن القومي الأمريكي المسؤولين الصينيين على الاستفادة من نفوذهم على إيران، لوضع حدٍّ لهجمات جماعة الحوثي في البحر الأحمر. ومع ذلك، تنظر الصين إلى الوضع الأمني في المنطقة باعتباره مستنقعًا خلقته الولايات المتحدة.
تزايد الثقل العسكري لجماعة الحوثي المسلحة، لتتحول إلى فاعل دولي ولاعب أساسي في الأحداث الأخيرة في المنطقة. ويبدو أنّ إيران جنت ثمارًا مبهرة جراء استثمارها طويل الأمد على جماعة الحوثي، وربما لم تتوقع طهران أن تغدو الجماعة ورقة ضغط رابحة ضد خصومها. وتساهم الأهمية الاستراتيجية الاستثنائية لموقع اليمن، في فعالية العمليات العسكرية للجماعة.
أعلن الرئيس المصري السيسي عن انخفاض في إيرادات قناة السويس بنسبة تصل إلى 50%، بينما ارتفعت أسعار الشحن بنسبة 100 إلى 300%. وتشير التقارير إلى أنه في يوم واحد فقط، تم إعادة توجيه 158 سفينة بقيمة تجارية تبلغ 105 مليارات دولار من البحر الأحمر، تحمل أكثر من 2.1 مليون حاوية من البضائع.
تأثير الصراع في البحر الأحمر على الاقتصاد الدولي
أضحى التبادل الاقتصادي بين البلدان التي تعتمد على خط الاتصال المائي الذي يمر بالبحر الأحمر، تحت طائلة تأثير المعركة الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط. وقد اكتسى باب المندب وخليج عدن أهمية كبرى للاقتصاد العالمي عند افتتاح قناة السويس في عام 1869. وتعمل هذه الممرات المائية كحلقة وصل حاسمة بين أوروبا وشرق آسيا، مما يسهل عبور ما يقرب من 12% من التجارة العالمية و30% من حركة الحاويات في العالم، حيث يتم نقل بضائع تزيد قيمتها عن تريليون دولار أمريكي سنويًّا. ومن اللافت للنظر أنّ هذه القيمة السوقية تعدّ تبادلًا اقتصاديًّا ضخمًا جدًّا بين اقتصادات شرق آسيا والدول المتاخمة للبحر الأبيض المتوسط. وقد مرت عبر قناة السويس، ما يقدر بنحو 21.344 سفينة، بمتوسط 59 سفينة يوميًّا في عام 2023.
قبيل ديسمبر/ كانون الأول 2023، كانت 99% من سفن الحاويات التي تسافر بين أوروبا والصين تمر عبر قناة السويس. وأجبرت هجمات جماعة الحوثي المسلحة العديدَ من سفن الشحن، بما في ذلك الحاويات العملاقة، على تغيير مساراتها من البحر الأحمر إلى رأس الرجاء الصالح في جنوب إفريقيا، بما في ذلك تلك المتجهة إلى إسرائيل. ونتيجة لذلك، يتم تأخير مواعيد التسليم وإضافة مسافة تتراوح بين 3000-3500 ميل بحري (6000 كم) إلى طرق الشحن. وقد بلغ انخفاض عبور حاويات الشحن عبر الممر المائي للبحر الأحمر، نحو 78% عن القيم المتوقعة في يناير/ كانون الثاني 2024.
وتعد اقتصادات شرق آسيا، بما في ذلك الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية ودول رابطة جنوب شرق آسيا (آسيان)، من المصدرين الرئيسيين للسلع، في حين أنّ البلدان الأوروبية والإفريقية المطلة على البحر الأبيض المتوسط، مستهلكة بدرجة أساسية. ويطال هذه الدول بشكل خاص، أضرار اقتصادية بسبب الأزمة في البحر الأحمر، إلى جانب شركات الشحن وقناة السويس المصرية. وقد أعلن الرئيس المصري السيسي عن انخفاض في إيرادات قناة السويس بنسبة تصل إلى 50%، بينما ارتفعت أسعار الشحن بنسبة 100 إلى 300%. وتشير التقارير إلى أنه في يوم واحد فقط، تم إعادة توجيه 158 سفينة بقيمة تجارية تبلغ 105 مليارات دولار من البحر الأحمر، تحمل أكثر من 2.1 مليون حاوية من البضائع.
ورغم أن أزمة البحر الأحمر الحالية لا تمثل تراجعًا اقتصاديًّا عالميًّا على نطاق المراحل الأخيرة من أزمة كوفيد-19، فإنها تشكل تداعيات خطيرة متى ما استمرت حالة عدم اليقين. وبما أن الشحن البحري في البحر الأحمر يمثل ما بين 12% إلى 15% من التجارة العالمية، فمن المرجح أن يتفاقم التأثير. ورفعت شركات التأمين ضد مخاطر الحرب، تكاليف التأمين على السفن الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية التي تعبر البحر الأحمر بنحو 50%.
وبحسب تقرير لوكالة رويترز، فإن الناقلات التي تحمل الوقود "النظيف" مثل الديزل ووقود الطائرات، تأثرت بشدة أكثر من تلك التي تنقل النفط الخام، المعروف أيضًا باسم "القذر" بسبب سُميته العالية. غير أن حركة ناقلات النفط عبر مضيق باب المندب، انخفضت بنسبة 38% خلال الفترة من 6 إلى 10 يناير/ كانون الثاني، وتصاعد هذا الانخفاض بنسبة 58% مقارنة بمنتصف عام 2023 خلال الفترة من 13 إلى 17 يناير/ كانون الثاني؛ أي عقب الضربات الأمريكية على اليمن؛ ما يعني عدم جدوى الهجمات الجوية التي ينفذها التحالف بقيادة أمريكا على اليمن.
بالإضافة إلى ذلك، مرّ ما يقرب من 8% من الغاز الطبيعي المسال عبر مضيق باب المندب في النصف الأول من عام 2023، بحجم يوميّ قدره 4.1 مليار قدم مكعب، وفقًا لإدارة معلومات الطاقة الأمريكية. لقد أدى وقف إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا، والاعتماد المتزايد للدول الأوروبية على الولايات المتحدة وقطر وعمان لتلبية احتياجاتها من الطاقة، إلى زيادة أهمية مضيق باب المندب في الوقت الحاضر وفي المستقبل المنظور. ويتجلى هذا بشكل خاص، في ضوء توسعة مشروع حقل الشمال القطري للغاز الطبيعي، الذي سيعزز الإنتاج القطري بنسبة 60٪ ليصل إلى إنتاج سنوي قدره 126 مليون طن بحلول عام 2027. وفي الوقت نفسه، أبرمت شركة قطر للطاقة مؤخرًا، اتفاقيات جديدة مع العديد من الشركات الأوروبية. علاوة على ذلك، أبرمت سلطنة عمان أيضًا اتفاقيات متعددة مع شركات عالمية لتعزيز إمداداتها من الغاز الطبيعي المسال، بهدف تحقيق قدرة تصديرية تبلغ 10.4 مليون طن متري سنويًّا بحلول عام 2025.
وقد ألقت الحرب على غزة، وأزمة البحر الأحمر، بآثارها السلبية على الاقتصاد الإسرائيلي. وفي منتصف ديسمبر/ كانون الأول، أعلن إيلات؛ الميناء الإسرائيلي الوحيد على البحر الأحمر، عن انخفاض في النشاط بنسبة 85%. وانكمش الاقتصاد الإسرائيلي بنحو 20% على أساس سنوي في الربع الأخير من عام 2023، مع انخفاض واردات السلع والخدمات بنسبة 42%، وانخفاض الصادرات بنسبة 18%.، وقد أثر انخفاض حجم الواردات إلى إسرائيل على العديد من الدول التي تصدر البضائع إلى إسرائيل، وخاصة الصين والهند، أكبر المصدرين في شرق آسيا.
وفي منتصف يناير/ كانون الثاني، أعلنت بعض الشركات الصينية، ومنها شركة كوسكو، التي تعرضت شاحنتها لهجوم سابق من الحوثيين، أنها ستعيد توجيه سفنها حول رأس الرجاء الصالح، وتوقف تسليم الإمدادات إلى إسرائيل. ومع ذلك، واصلت بعض السفن الإبحارَ في البحر الأحمر بعد التأكد من ارتباطها بالصين من خلال أنظمة التعريف الآلية الخاصة. وبلغ التبادل التجاري بين الصين وإسرائيل حوالي 17.62 مليار دولار في عام 2022، مع الاعتماد الكبير على الواردات من الصين، بما في ذلك الآلات لمشاريع البنية التحتية والبناء، والمنتجات الاستهلاكية، والسيارات. وعلى نحو ذلك، تأثر التبادل الاقتصادي بين إسرائيل والهند أيضًا، حيث وصلت التجارة الثنائية إلى 7.5 مليار دولار في عام 2023. وبرزت إسرائيل بوصفها واحدة من أكبر موردي الأسلحة إلى الهند.
في مسعى لإنشاء طريق بري بديل لتجاوز مضيق باب المندب، وقعت أمريكا والسعودية والإمارات والهند والاتحاد الأوروبي مذكرة تفاهم، تهدف إلى إنشاء ممرّ اقتصادي يربط الهند بأوروبا عبر خط للسكك الحديدية، وذلك باستخدام الموانئ القائمة في الإمارات، ومرورًا عبر البر بالسعودية والأردن وإسرائيل وصولًا إلى أوروبا.
البحث عن طريق بدائل لمضيق باب المندب
لقد أجبرت المخاطر الأمنية المتصاعدة في البحر الأحمر، الاقتصادات الكبرى، وخاصة تلك التي تستهدف الأسواق الأوروبية ذات الاستهلاك المرتفع، على استكشاف طرق بديلة فعّالة من حيث التكلفة، وهذا يشمل النظر في طرق التجارة البرية. ومن الدول البارزة في هذا الصدد، الصين والهند ودول الخليج المصدرة للنفط. إنّ مستقبل النقل البحري التجاري على طول طرق البحر الأحمر وقناة السويس، فضلًا عن الجدوى الاقتصادية للبدائل "البرية" المقترحة، أضحت مواضيع مثيرة للنقاش بقدر كبير.
إنّ الطريق البحري البديل لباب المندب أضحى مرهقًا بشكل متزايد، لقيام السفن بالالتفاف حول رأس الرجاء الصالح. وأعرب المسؤولون الهنود عن مخاوفهم بشأن الاعتماد الكبير على مضيق باب المندب، حيث قد يكون له آثار سلبية على تجارة بلادهم مع الشرق الأوسط وإفريقيا وأوروبا. وظهرت تقارير تشير إلى أن الخبراء الهنود يستكشفون تطوير طرق بديلة، بما في ذلك الاستفادة من ميناء المياه العميقة في تشابهار بإيران، لتسهيل النقل البري للبضائع إلى أوروبا.
وفي مسعى لإنشاء طريق بري بديل لتجاوز مضيق باب المندب، وقعت الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والهند والاتحاد الأوروبي، مذكرة تفاهم خلال قمة مجموعة العشرين في نيودلهي في سبتمبر 2023. وتهدف الاتفاقية إلى إنشاء ممرّ اقتصادي يربط الهند بأوروبا عبر خط للسكك الحديدية، وذلك باستخدام الموانئ القائمة في الإمارات العربية المتحدة، ومرورًا عبر البر، بالمملكة العربية السعودية والأردن وإسرائيل، ومن ثم إلى أوروبا. يشمل هذا المشروع خطوط أنابيب نقل الطاقة وكابلات نقل البيانات، ويمكن اعتباره الردَّ الأمريكي على مشروع "الحزام والطريق" الذي اقترحته الصين في عام 2013. وقد اكتسب هذا البديل البري، الذي يمر عبر موانئ الإمارات ومن ثم برًّا إلى إسرائيل، أهميةً كبيرة خلال أزمة باب المندب الحالية.
كما اتخذت المملكة العربية السعودية إجراءات لمعالجة أزمة باب المندب، حيث اعتمدت على موانئها في الخليج العربي وممر مضيق هرمز الآمن نسبيًّا لنقل النفط إلى الصين والهند واليابان ودول شرق آسيا الأخرى، من منشأة رأس تنورة المملوكة من شركة أرامكو. وتضم المنشأة ساحتين كبيرتين لصهاريج النفط، مما يجعلها واحدة من أكبر موانئ شحن النفط في العالم. وفيما يرتبط بالنفط الخام المتجه إلى أوروبا عبر باب المندب، صرح أمين ناصر، الرئيس التنفيذي لشركة أرامكو السعودية، أنّ شركة النفط العملاقة يمكنها تجاوز باب المندب من خلال الاستفادة من خط أنابيب النفط الذي يربط منشآت النفط الشرقية في المملكة العربية السعودية بساحلها الغربي، وأنّ صادرات المنتجات النفطية قد تواجه تحويلات بسبب هذه الأزمة.
لَطَالما مثّلَ موقعُ اليمن الاستراتيجي نقطة اضطراب باعثة لقلق المجتمع الدولي، غير أن الحكومة المعترف بها عاجزة عن فرض سيطرتها على البلاد، ولا تمتلك مؤسسات عسكرية تستطيع التعامل مع المتغيرات الطارئة، ومن ثم تبديد المخاوف حيال تضخم المخاطر في منطقة البحر الأحمر ومعالجة آثارها.
الصراع في البحر الأحمر وارتداداته على اليمن
عايشت اليمن طيلة فترة الحرب، أسوأ أزمة إنسانية في العالم على مرّ عقود، حيث يرزح معظم سكانها تحت خط الفقرـ كما تعرضت البنية التحتية للبلاد لدمار واسع، مما يجعل من الصعب تلبية الاحتياجات الأساسية لسكانه. ويواجه اليمن حاليًّا تحديات شديدة في تلبية متطلبات السوق، التي تفاقمت بسبب الأحداث المتصاعدة في البحر الأحمر وخليج عدن، وتزامنت هذه الأحداث مع تفاقم الأزمة المالية وندرة العملة الأجنبية، خاصة في المناطق التي تسيطر عليها (حكومة المنفى) المعترف بها دوليًّا. وقد أعاق ذلك قدرةَ البلاد على تلبية متطلبات السوق وتمويل الواردات. اليمن معرض بشكل خاص، للصدمات أثناء الأزمات الطارئة، حيث يعتمد على الواردات لتلبية أكثر من 90% من احتياجاته الأساسية.
وفي منتصف فبراير/ شباط الماضي، صنفت إدارةُ بايدن الحوثيين منظمةً إرهابية، لكن بواسطة تصنيف خاص بالجماعة تحت عنوان “SDGT”. كما أعطوا الحوثيين تحذيرًا لمدة 30 يومًا. يستهدف تصنيف SDGT الموارد المالية للفرد أو الكيانات عن طريق قطع الوصول إلى الدعم المالي أو المادي من الولايات المتحدة. ومع ذلك، من منظور قانوني، فإن تصنيف SDGT أقل تقييدًا قليلًا من التصنيفات الأخرى، ولا يزال يسمح للكيانات بالدخول بشكل قانوني إلى البلد المعني، وينطبق فقط على مواطني الولايات المتحدة وداخل الحدود الإقليمية للولايات المتحدة. مع ذلك، تخشى منظمات الإغاثة الدولية من تأثير هذا التصنيف على الأزمة الإنسانية في اليمن.
فيما توجد مخاوف من أن يؤدي غرق سفينة الشحن البريطانية "روبيمار" البريطانية التي استهدفها الحوثيون في فبراير الماضي، إلى كارثة بيئية، خاصة أنها تحمل موادًّا شديدة السمية. وقد يكون لهذا عواقب وخيمة، وربما مميتة على الحياة البحرية. وقد منعت الأمم المتحدة في 2023، كارثة تسرب النفط في البحر الأحمر من ناقلة النفط العائمة "صافر" قبالة شواطئ اليمن في ساحل البحر الأحمر، مما ساعد على إنهاء كارثة بيئية وإنسانية واقتصادية كبيرة. كانت الكارثة ستترك الملايين اليمنيين عرضةً للتلوث الهوائي، وكانت ستنعدم سبل نقل الغذاء والوقود والإمدادات الحيوية لليمن، في بلدٍ يحتاج فيه 17 مليون شخص إلى المساعدات الغذائية.
وعلى الصعيد السياسي، تستثمر جماعة أنصار الله (الحوثيين) الهجمات على سفن الشحن في البحر الأحمر، كأداة لتثبيت قواعد حكم صلدة على المناطق الشمالية واكتساب مشروعية. وتأتي هذه المساعي إثر العدوان الوحشي الذي يشنه الاحتلال الإسرائيلي على غزة والضفة الغربية منذ عدة أشهر. إذ بدأت الجماعة تؤكد أنّ شعاراتها باتت بمضمون حقيقي، ولا بد من التحشيد العسكري واغتنام الفرصة لدحر القوى المرتهنة للخارج في اليمن. وتُظهر استطلاعات الرأي بانتظام، أنّ جميع اليمنيين تقريبًا يدعمون القضيةَ الفلسطينية بقوة، بما في ذلك استطلاع أجري في أواخر ديسمبر/ كانون الأول 2023، لكن لا يتفق الجميع مع الحوثيين.
لَطَالما مثّلَ موقع اليمن الاستراتيجي نقطةَ اضطراب باعثة لقلق المجتمع الدولي، غير أنّ الحكومة المعترف بها عاجزة عن فرض سيطرتها على البلاد، ولا تمتلك مؤسسات عسكرية تستطيع التعامل مع المتغيرات الطارئة، ومن ثم تبديد المخاوف حيال تضخم المخاطر في منطقة البحر الأحمر ومعالجة آثارها. وقد خلق غياب مؤسسات الدولة فراغًا أمنيًّا كبيرًا، ملأته الجماعات العسكرية المسلحة، التي ترهن قرارها بيد أطراف خارجية. وأدّى التنصل الدولي والإقليمي من التزاماته ببناء دولة يمنية، إلى انكشاف البلد على فضاء لا دولة فيه ولا مؤسسات، حيث إن مؤسسات الدولة مسألة ضرورية للحفاظ على السلام والأمن الدوليين، فمثل هذه المؤسسات بإمكانها أيضًا توفير الحياة الكريمة لسكان اليمن، وتدفع نحو انخراط البلاد في مساعي الاندماج الدولي والتنمية الاقتصادية.