التجربة الشعرية نتاج ما تختزله العواطف والمشاعر والأحاسيس في كينونة الشاعر، لتفصح عما يجول بخاطره، كما أنها تعد فلسفة جمالية غائرة في ملامح الفكر الإنساني منذ النشأة الأولى للنتاج الشعري. فالشعر يتسم بسلالة العبارة، وشفافية الطرح، وغواية الخيال، وعمق الفلسفة، وجمال المضمون. كما يعد تغذية عكسية للغة من خلال آلياتها المختلفة ومحسناتها كالسجع والجناس والتورية، والاعتماد على الدلالات اللفظية للمفردات اللغوية... إلخ.
ولا ننسى أن نعقب بالقول إن الشعر منذ بداياته الأولى، وهو في ديمومة وحيوية متواصلة، والتجربة الشعرية هي حالة فكرية ذات أبعاد جمالية وقيمة فلسفية، فهناك الكثير ممن يتذوقون هذا النمط الذي يعد انعكاسًا حقيقيًّا لبهاء الحضارات الإنسانية على مر العصور.
بالمقابل، يعدّ النص السردي استنتاجًا للواقع وقضاياه وأحداثه ونواحيه، وهو أيضًا استنطاقًا للنص المستتر في مسرح الحياة الواسع بأعمق تفاصيله وأدق جزيئاته من ألم وسعادة وحزن وفرح وجمال وقبح، كما يعد النص السردي حالة حيوية تمثل الإنسان بكل مكوناته الفكرية والأيديولوجية والبيئية. كذلك يعتبر النص السردي بمثابة المرآة التي تعكس لون وظل وشكل الوجود المتماري "المتمرئي" فيها أو خلالها، والنص السردي أيضًا حالة إبداعية تخفيه تلك الألفاظ الميسورة داخل النص السردي، لتقدمه للقارئ على نحو إبداعي فني، من خلال ما تبديه تصوراته وتوقعاته عبر العتبات والمفاتيح والمداخل التي يلج من خلالها المتلقي للنص.
ومن باب الخوض في الموضوع بشكل أدق، نعرض عليكم هنا آراء وتجارب حية لكتاب السرد وكذلك شعراء من داخل المشهد الثقافي اليمني.
في حديثه لـ"خيوط"، يقول الكاتب والناقد والباحث الأستاذ زيد الفقيه، إن الشعر بما حمله من تاريخ في الموروث الثقافي العربي، أكثر جدارة من النص السردي، لكن النص السردي هو الذي يستطيع أن يغوص في تفاصيل المجتمع ويعبر عنه؛ لأنه أكثر قربًا إلى الذائقة الشعبية من الشعر، كون الشعر يرى نفسه متعاليًا على المجتمع البسيط.
فيما ترى القاصّة والروائية نجاة باحكيم هذه الجدارة "حسب الجمهور المستهدف. إذا كان من الطبقة المثقفة، فالشعر يوصل الفكرة بشكل أسرع ومحبب إلى الناس، وإن كانت الفئة المستهدفة أقل في المستوى الثقافي، فالقصة والرواية أسرع إلى فهم القارئ وذائقته من الشعر".
ويصف الشاعر زياد القحم فنّ الشعر بقوله: "الشعر كائن مخاتل، إذا زاحمته الرواية يتسلل إلى داخلها"، موكدًا أن محتوى الرواية عادة ما يحتوي على لغة شعرية، وأحيانًا مقاطع شعرية كاملة، ويرى أن هذا تأكيد على استمرار حضور الشعر بداخل الفنون الأحدث منه.
الشعر نهر الله الخالد، وحالة فكرية جمالية فلسفية غاية في الإدهاش، والسرد تكوين عوالم موازية للواقع أو منعكسة عنه في مشاهد مرآوية
أما الشاعر والروائي أحمد قاسم، فيرى بدايةً أن أذواق القراء تختلف؛ "كلٌّ حسب ذائقته؛ لأن الشعر خاطرة سريعة ليس للمتلقي نفس كبير ووقت في القراءة، بعكس الرواية التي يفهم مغزاها. ويضيف أن "السرد يوصل رسالة أعمق من الشعر"، لافتًا إلى ما للرواية من إمكانيات في سرد قصص حياة الشعوب، بينما الشعر يتناول فكرة واحدة.
ويقول الروائي، الغربي عمران، إنه ليس هناك وجه للمقارنة أو المفاضلة من حيث الأهمية والصدارة أو عمق تأثير كليهما على الآخر، مشيرًا إلى أن "الشعر لون أدبي مختلف ومغاير عن الألوان الأدبية الآخرى، كالقصة والرواية وغيرهما". "كل منهما له جمالياته وخصوصياته وقواعده وعالمه الخاص به".
هكذا يمكن القول إن كلًّا من الشعر والسرد الأدبي يتجاوران كفنّين أدبيين، مادتهما الحياة التي يعيشها المشتغلون بهما، وأدواتهما اللغة المكتوبة والمنطوقة والخيال، ومدى سَعة أفق النظرة إلى حركة الحياة وإيقاعها. فن الشعر وفن السرد الأدبي، كلاهما مهمان في إثراء الأدب الإنساني من حيث جمال الفكرة واكتشاف جواهر اللغة، وإنتاج وإعادة إنتاج الثقافة الخاصة بكل شعب. وما يميّز كل فن منهما هو تميّز النتاج الأدبي المنجز في إطارهما. وهكذا يظل الشعر نهر الله الخالد، وحالة فكرية جمالية فلسفيه غاية في الإدهاش والإبداع، وكذلك تأثيره في مجمل قضايا الحياة والإنسان. فيما يظل النص السردي خلقًا لعوالم موازية للواقع أو منعكسة عنه في مشاهد مرآوية.