هل يمكن الهروب من الحرب ومن أزمات الماضي وحساسياته، كيف يمكن للذات أن تنجو وسط كل هذا الخراب الذي يحاصر وجودها ويخنق مستقبلها وكأن تاريخنا هو ما ترسمه الحروب والصراعات وحدها، توشك الشخوص أن تصرخ من عمق المحنة والحكاية: "لسنا من أبطال الملاحم أو الشخصيات الأسطورية أو السير الشعبية لنمر بكل هذه الاختبارات والمواقف التي تتجاوز طاقة أناس عاديين وقدراتهم على الاحتمال!".
ربما تلك التساؤلات التي يخلُص إليها القارئ في (بر الدناكل) 2021، للغربي عمران، وهو يتأمل مصائر الشخصيات ومأساتها، وخصوصًا القارئ غير المفارق للأوجاع نفسها التي يعايشها مع شخصيات الرواية، وهنا يصح استخدام مصطلح القارئ غير المفارق أسوة بالراوي غير المفارق الذي يطل على عالم الحكاية من داخلها ومن وسط أحداثها؛ ذلك أننا جميعًا أجزاء من مشهديات الحرب بنسب متفاوتة، وغير بعيدين عنها أو مفارقين لأحداثها وأوجاعها، وبهذا المعنى يصبح القارئ جزءًا من عالم الحكاية، في ظل الخصوصيات الزمانية والمكانية المشتركة، والمشتعلة بالحروب والموت وكل أشكال الدمار. ولأن سرديات الحرب لا يمكنها إلا أن تكون سرديات جمعية للشعوب والأوطان، كان لا بد للرواية، بحكم طبيعتها وعبقريتها، من اجتهادات كبيرة في اختلاق الدهشة المنتزعة من فجائعية الواقع إلى بنية المتخيل.
في هذه الرواية، يحاول "شنوق" الإفلاتَ من صراعات الماضي وقسوته، هاربًا من حروب قديمة وسابقة (حروب الجبهة الوطنية في نهاية السبعينيات، وحرب اجتياح الجنوب في 1994)، مكتفيًا بمراقبة العالم من خلف نافذة في غرفة مظلمة حينًا، ومن خلف النافذة الزرقاء الفيسبوكية باسم مستعار حينًا آخر، ما يتيح له التواصل مع الآخرين والتلصص عليهم من دون أن يفشي ماضيه، لكنه يجد الحرب تقف أمام نافذته وتعتلي سقف غرفته، فتهتك بصخبها الوحشي طقوسَ عزلته وتنتزعه إليها بقوة كاسرة، بداية من أصوات الغارات الجوية، التي يعقبها نحيب الجيران على أطفالهم، ونهاية بمدينة صنعاء التي تنتشر على جدرانها صور ضحايا أطفال انتُزِعوا من ألعابهم إلى ساحات المعارك، وقد أصبحت غير آمنة تفتش في كل التفاصيل بحثًا عمن تسميهم الأعداء! ثم رحيله عن عدن التي تسودها موجة من الكراهية المفارِقة لتسامحها التاريخي النادر، وتجتاحها التفجيرات الإرهابية والاغتيالات. صورٌ عديدة من مشهديات الحرب الملتحمة مع تفاصيل حياة الناس والمدن، يقدمها المتخيل الروائي في إطار سردية الحرب بما تنطوي عليه من وقائع وتحولات عنيفة، ترسم الحرب من خلالها ملامح أخرى مفارقة للمدن والناس، ومثلما تُقدِّم الحرب أعظم أبطالها وانتصاراتها وهزائمها وضحاياها، تقدم اكتشافاتها لزوايا وتفاصيل لا يمكن فهمها أو النظر إليها إلا تحت هستيريا الحرب وانفعالاتها وجنونها الوحشي، ما يجعل رواية (بر الدناكل) واحدةً من أهم الأعمال الروائية المكتوبة عن الحرب الأهلية في اليمن.
منحَ أسلوبُ الرسائل المتبادلة بين الشخصيات، الروايةَ إيقاعًا سرديًّا خاصًّا في إضاءة ماضي الشخصيات ومآلاتها، كما منحتها تقنية التذكر فسحة في البوح واستعادة الأحداث الغائرة في جراح التاريخ.
قبل سنوات، في واحدة من دراساتي، توصّلت إلى استنتاج أنّ الرواية في اليمن قد جنحت كثيرًا إلى أسلوب رواية الشخصية؛ حيث وجود شخصية محورية تدور بقية الشخصيات الثانوية والهامشية والوظيفية في فلكها. لكنها في السنوات الأخيرة، وإن بدت مخلصة على نحو ما لهذا التقليد في بناء شخصية محورية قطبية، قد تخففت منه قليلًا في روايات الحرب، ربما من أجل استدعاء خطابات وأصوات عديدة تمثّلها الشخصيات، ومنحها مساحة أوسع وجودًا في السرد، ما يجعلها تبدو أحيانًا وكأنها تريد انتزاع أبطال الروايات من مواقعهم، ملعنة عن حضورها في المشهد والسرد الذي تجاوز مجرد وظائفها السردية التقليدية.
ومن هذه الناحية، يمكن فهم شخصية "غزال" بائعة "المَشَاقر" والريحان في صنعاء، التي كانت ضحية للعنف والاغتصاب، ثم تحولها إلى أرملة بعد موت زوجها في الحرب السادسة في سلسلة حروب صعدة، فتواجه ظروفها وتتمرد عليها، وتقرّر العيش بطريقتها الخاصة، لم تهزمها الحرب، ولم تهرب منها كما فعل شنوق، لكن المرض بالسرطان هو الذي هزمها؛ فهل أراد الكاتب أن يجعل من هذه الشخصية معادلًا رمزيًّا لمدينة صنعاء النابتة من بين أحشاء الجبال، حيث القبيلة والعادات والتقاليد تضع الحدود والقيود؟ وهل كانت "البندرية" التي عادت للظهور في حياة شنوق مرة أخرى من خلال رسائلها في الفيسبوك في زمن الحرب الجديدة، بعد ظنه أنها قد ماتت في حرب الانفصال عام 1994، معادلًا رمزيًّا لمدينة عدن، حين تكتشف البندرية عجزها عن مقاومة المرض الذي حولها إلى جسد مقعد كسيح، وهي صورة ستبدو موازية للمدينة/ المرأة في (فاكهة للغربان)، حيث ثنائية المرأة/ المدينة بين الحركة والعطب؟ وهل كانت "أروى" الناشطة الاجتماعية التي قاومت إرهاب المسلحين والميليشيات التي أفرزتها الحرب الأهلية، ما تسبب في اغتيالها في مشهد إرهابي عنيف، هي المعادل الرمزي لاغتيال الحلم بالتغيير في بلد تسوده الميليشيات وتحكمه صراعات القوى القبَلية ونفوذ المصالح؟ هكذا يمكن أن تُقرأ الشخصيات في ضوء أدوارها في السرد ودلالتها على الواقع.
كما أنّ بعض الشخصيات الخافتة في المساحة السردية، تنطوي على حضور طاغٍ في تأويل دلالتها، مثل شخصية "طنهاس" التي لا تظهر أو تتحدث في السرد إلا في الهامشي العابر، تبدو شخصية خصبة بما يكتنفها من غموض، وما يحيطها من إيحاءات لليساري الانتهازي المهزوم المتخفي في صورة رجل دين متزوج بامرأة سلالية هاشمية، وكأن شخصية طنهاس قادمة من بين شخوص رواية الكاتب الأولى (مصحف أحمر)، وفي ظني أنّ الكاتب لم يشتغل عليها كثيرًا على الرغم من مغزى وجودها، لأنه -أي الكاتب- ربما قد ادّخرها للظهور بقوة في رواية قادمة، ذلك أن الغربي عمران لا يحسم نهايات رواياته أو شخصياتها، فقد تجد بعضها ينبعث إليك في وسط شخوص رواية أخرى.
لقد منح أسلوبُ الرسائل المتبادلة بين الشخصيات الروايةَ إيقاعًا سرديًّا خاصًّا في إضاءة ماضي الشخصيات ومآلاتها، كما منحتها تقنية التذكر فسحةً في البوح واستعادة الأحداث الغائرة في جراح التاريخ؛ الحكي والكتابة في مقاومة الغياب، شنوق وغزال والبندرية وأروى، تخوض كل واحدة منها حربها الخاصة، وتلجأ في أثناء ذلك إلى الحكاية والكتابة، وذلك ما تكرر في إشارات الراوي بأن كتابة الرسائل عند شنوق رغبةٌ في استعادة الذاكرة ومقاومة العزلة التي اختارها لنفسه.
يغدو التذكر والحكي مناسبةً للدفاع عن الذات والاعتراف والتبرير لهاجس الهروب والحياة في غرف مظلمة، وتبرير عجزه الدائم الذي دفعه إلى التخلي عن كل شيء، بما في ذلك عائلته التي تركها في القرية تواجه أوضاعها وحيدة، وابنه الصغير الذي لم يتمكن من حمايته من الموت في المعارك التي يُنتزَع إليها الأطفال من أحضان أمهاتهم انتزاعًا. لتنتهي به رحلة الهروب والنزوح جثة نصف حية بين أكوام من جثث الموتى على ساحل رملي، بعد أن قذفت بهم الأمواج من بر اليمن إلى بر الدناكل في الطرف الآخر من البحر.