كاهن التربية، كاهن التعليم، الكاهن التربوي. تلك أسماء وصفات تشير إلى شخص وثقافة وخطاب.
كاهن التربية: هو شخص يشعر بعجزه ويأسه التاريخيين، لذا فهو يعاني من عقدة نقص هائلة. الكاهن التربوي يرفض الضرورة السببية، ويكره الفنون ويحرمها. الكاهن: هو خطاب، لأنه شخص وثقافة، والخطاب ليس سوى ممارسة لكل أشكال الحيل الدفاعية المعروفة. فما الذي فعله ويفعله اليوم؟
كاهن التعليم والتربية، بعد أن أجاز وحرّض على خروج التجربة مع مجرّبها، أي معلّمها، من معمل المدرسة، ثم ترك الباب مفتوحًا- ليس لعودتهما، بل إهمالًا للمعمل نفسه، وقضى بتخريب المسرح المدرسي، وحكم بالرجم على حصص الموسيقى والرسم والألعاب، بعد أن أفتى وحكم منذ أربعين عامًا وأكثر؛ ما الذي يفعله الآن؟
قد يقول قائل: إن موت الموسيقى والرسم والألعاب الرياضية وهدم مسرح المدرسة، يعود إلى تراجع ونهب اقتصاد الدولة اليمنية منذ ذلك الزمن؛ وهذا قول صحيح جدًّا، لكنه ليس دقيقًا. فكل تلك الضحايا كانت لتعيش هزيلة لو أنها تأصلت في وجداننا وثقافتنا، فتبقى الموسيقى بهزّ علب الكبريت وقرع الأكواب بالملاعق والأقلام داخل فصل المدرسة، ويبقى الرسم بالطباشير والفحم على الكراتين والحيطان، ويستمر المسرح على بلاط الرواق الطويل. كان يجب بقاء كل ذلك في مدارس عواصم المحافظات على الأقل.
قد يرى البعض مبالغة في هذا الحديث، فيتعجب قائلًا: وما أهمية المسرح وكل تلك الحصص؟! وهذا سؤال يبرر موقف وفتاوى الكاهن، ولن نخوض فيه حتى نعرف ما الذي يفعله كاهن التربية الآن اليوم. إن ما يفعله حاليًّا هو ما يلي:
- يقوم بإفراغ المفاهيم من بنائها العلمي وسلخها عنه.
- يقوم بعميلة غسيل لقيمة المعرفة العلمية.
- يقوم بتعبئة ثقافة القدر التي تقوم بإجهاض كل إمكانية للموهبة والذكاء والإبداع.
ذلك ما يفعله الكاهن اليوم في اليمن، وبعد أربعين سنة، في التعليم الأساسي والثانوي، وما أمكنه في الجامعة.
في أوقات الأزمات والحروب، يجني كاهن التعليم ثماره: جيلٌ كامل لا يملك إحساسًا بذاته، فقد القدرة على التفكير المستقل، لا يتمتع بملكة النقد، وإن كان بإمكانه أن يكون على صواب.
والنتيجة:
أن الكاهن التربوي اضطر لمواجهة الهجمة الغربية الراهنة على الإسلام والعرب والمسلمين، منذ 2001 وحتى اليوم، بتضخيم شعوره بالإحباط والعجز واليأس من القدرة على تجاوز مشكلات تخلف الحضارة العربية عن ركب الحضارات الأخرى، فلم يجد أمامه سوى الهروب من مسؤولياته تجاهها. والهروب سلوك يظهر في صور عديدة؛ أهمها: الإقصاء، التحقير، التلفيق، الانتقاء، التبرير، المبالغة، الادعاء، الوعظ، الاتهام، التعالي... إلى آخره من تلك الممارسات (الحيل) الدفاعية التي سبق ومارسها في حق المعرفة العلمية، بل في حق عقل وذكاء وموهبة جيل واعد بأكمله، باسم التطوير. إن تلك الممارسات هي جناية في حق وعي اليمنيين بحاضرهم، وبمستقبل وعيهم.
كان من شأن كلٍّ من المسرح، الموسيقى، الرسم، المطالعة، الألعاب الرياضية، تحقيق ما يلي:
أولًا: تفريغ مشاعر الإحباط والعجز واليأس في صور فنية وأدبية ورياضية.
ثانيًا: بناء مجتمع يقدّر الفنون ويتمتع بكثرة أفراده الموهوبين والمبدعين.
ثالثًا: القدرة على مواجهة مثل تلك الهجمات المسيئة للعرب والمسلمين، بما يواكب مفهوم وطبيعة العصر.
رابعًا: تقديم صورة أو صور حقيقية حية تقنع شعوب الغرب بأخطاء قناعاتهم عن الإسلام والعرب والمسلمين.
لكن مهلًا! كل ذلك فعله الكاهن في عادة الأيام؛ ماذا عن أوقات الاستثناء كالأزمات والحروب؟ في هذه الأوقات لا يفعل الكثير، ففيها يجني ثماره: جيلٌ كامل لا يملك إحساسًا بذاته، فقد القدرة على التفكير المستقل، لا يتمتع بملكة النقد، وإن كان بإمكانه أن يكون على صواب، ومعلمه أو شيخه أو أبوه أو مديره أو رئيسه، على خطأ.
والخلاصة:
كلما تقدم الزمن التعليمي –دون الجامعي– في اليمن، يتزايد الخطاب في مقابل تناقص العلم وقيمة المعرفة.