عواقب الانقسام النقدي الذي يعيشه اليمنيّون لا تنتهي، كالوضع المعيشي الذي دفع الناس إلى الهجرة الداخلية من الريف إلى المدن، كنتيجة لعدم تمكّنهم من تداول العملة المحلية ذات الطبعة الجديدة، كما هو حاصل في محافظة تعز (جنوب غربي اليمن)، إذ يسيطر أنصارالله (الحوثيون) على منطقة الكدحة جنوبًا، والدمنة شرقًا، بينما تسيطر الحكومة المعترف بها دوليًّا على مناطق هجدة والساحل الغربي والمخا وذوباب وباب المندب، إذ تتداول هذه المناطق الأوراق النقدية ذات الطبعات القديمة.
وما بين "الطبعتين"، تموت أحلام الناس وطموحاتهم، وتهاجر أُسَرٌ بحثًا عن مكان واحد يجمع شتاتها، دون تفرقة بين طبعات العملة الورقية المتداولة، تاركين منازلهم وأرضيهم في مهب الرياح. فبسبب اختلاف العملة المحلية، قرّر الأربعينيّ عاصم صالح، من أبناء قرية (شرعب الرونة)، الهجرةَ برفقة أسرته إلى داخل المدينة، لعدم قدرته على إرسال مصاريف شهرية.
يقول عاصم لـ"خيوط": "أعمل في مخبز، وما أحصل عليه من مستحقات مالية هو بالعملة الجديدة، بينما يتعامل أبناء منطقتي بالعملة القديمة، عندما أرسل لهم 100 ألف ريال (90 دولارًا بسعر الصرف في المدينة) تصل 50 ألف ريال (نحو 80 دولارًا بسعر الصرف في المناطق الريفية)، لا تكفي لشيء، مع التضخم المستمرّ في الأسعار"، مؤكّدًا أنّه قرّر استئجار منزل صغير في المدينة، وبيع مواشيهم وتوزيع أراضيهم الزراعية بين الأهل والأقارب، من أجل تفادي مشكلة الانقسام النقدي للعملات.
أصبح وجود عملتين مختلفتين من العملة اليمنية، أمرًا مفروضًا على الواقع، من خلال الطبعة الجديدة في محافظات الحكومة المعترف بها دوليًّا، والقديمة في مناطق سيطرة الحوثيين، في ظل عدم قدرة الحكومة على ردم تلك الفجوة.
على غرار عاصم، يفيد عبدالله علي (50 عامًا)، من سكان منطقة العُدين التابعة لمحافظة إب (وسط اليمن)، مغترب يعمل في السعودية، أنّ تدهور الأوضاع الاقتصادية كانت السبب حول هجرته إلى خارج البلاد، لا سيما عقب انقطاع رواتب الموظفين في 2016.
يضيف لـ"خيوط"، قائلًا: "ما أجنيه من راتب، أبعثه إلى أهلي، بَيدَ أنّ سعر الصرف في تدهور مقابل ارتفاع الأسعار. أشار عليّ أصدقائي في الغربة، بأنّ أنقل أسرتي إلى المدينة؛ منها لتلقي تعليم أفضل، ومنها أنّ سعر الصرف مرتفع، وفعلًا تركت أسرتي القرية، وتسكن حاليًّا في مدينة تعز. صحيح أنّ أرضنا تعرّضت للإهمال، لكن لقمة العيش صعبة".
اتساع الفجوة
في أواخر شهر ديسمبر/ كانون الأول من العام 2019، اتخذت جماعة (الحوثيين)، قرارًا بحظر الطبعة الجديدة من العملة المحلية، بشكل نهائي في مناطق سيطرتها، وهو ما أدّى إلى أزمة نقدية كبيرة، تسبّبت بتجزئة العملة المحلية وتدهور قيمة الريال اليمني، في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة المعترف بها دوليًّا.
يؤكّد الباحث الاقتصادي عبدالواحد العوبلي، أنّ قرار (الحوثيين) بحظر تداول الطبعة الجديدة من العملة في مناطق سيطرتها، فاقم الوضع الإنساني والمعيشي لليمنيين، وتعطيل مصالحهم، حيث تأثرت فئات واسعة من المواطنين الذين يمتلكون طبعات جديدة من العملة، ووجدوا أنفسهم عاجزون عن الإيفاء بمستلزمات أسرهم، لا سيما في الأرياف.
ويعتبر العوبلي هذه الأزمة، واحدةً من أخطر الأزمات التي عصفت باليمنيين، وفاقمت من معاناتهم المعيشية، مضيفةً قيودًا وأعباءً كثيرة على التداولات المالية المحلية، حيث توسّعت الفجوة في أسعار الصرف بين المحافظات اليمنية، شمالًا وجنوبًا، وأصبح وجود عملتين مختلفتين من العملة اليمنية أمرًا مفروضًا على الواقع، من خلال الطبعة الجديدة في محافظات الحكومة المعترف بها دوليًّا، والقديمة في مناطق سيطرة الحوثيين، في ظلّ عدم قدرة الحكومة على ردم تلك الفجوة.
يرحل الإنسان منذ قديم الزمن، ضمن جماعات أو أفراد؛ استجابة للظروف الاضطرارية، بَيْدَ أنّ الانقسام النقدي وتجزئة العملة الوطنية بين قديم وجديد بسعرين مختلفين للصرف، ساهم في نموِّ عديدٍ من الظواهر غير المرئية، كالهجرة الريفية إلى المناطق الحضرية، الأمر الذي يُلاحَظ مؤخرًا في اليمن.
يتميز اليمن بالمدرجات الزراعية، التي تزرع أشجار البن، الذرة، القمح، وغيرها من المحاصيل، في حين أنّ تنامي عملية الهجرة من المناطق الريفية إلى المدن، يعرّضها للتدهور بشكل كبير، وبالتالي اختلال الإنتاج الزراعي بصورة تفاقم من انحدار الاقتصاد الوطني.
هذا الأمر انعكس بصورة سلبية على الأراضي الزراعية والمناخ في القرى، وفي اليمن ككل، من خلال إهمال الأراضي الزراعية والثروة الحيوانية، بالإضافة إلى التسبّب في تضخم سكان المدن، وما يقابله من شحة في الخدمات الحيوية المقدمة من السلطات المحلية.
وترى لُجين الوزير (أخصائية تربية حيوانات ودواجن)، في حديثها لـ"خيوط"، أنّ المُزارع اليمني يخسر جهدًا ومالًا وعمالًا، في الوقت الذي لا يكون فيه الإقبال كبيرًا على المنتجات الزراعية اليمنية، ولأنّ القرى لا يوجد فيها فرص عمل أخرى سوى الاهتمام بالأرض وتربية المواشي؛ يجد المواطن نفسه عاجزًا عن توفير لقمة العيش.
وتقول إنّ المواطنين لجَؤُوا إلى المدن من أجل تحسين ظروف الحياة، هذا الشيء يقابله تدهور للأراضي الزراعية، والثروة الحيوانية؛ حيث إنّ هناك أُسَرًا تركت تربيتها في المناطق الريفية؛ بسبب ارتفاع تكلفة توصيلها إلى المدينة.
كما أنّ غياب الدور الحكومي في تحقيق توازن للخدمات بين المناطق الريفية والمدن، إضافة إلى غيابه عن تشجيع المزارعين وحثّهم على الاهتمام بالجانب الزراعي؛ لعب دورًا كبيرًا في تفاقم هذه الظاهرة، وبالتالي تراجُعٌ للإنتاج الزراعي والحيواني، والمساهمة في تحويل البلاد إلى دولة مستهلكة تعتمد على الخارج في كل شيء.
يُذكر أنّ منظمة الهجرة الدولية التابعة للأمم المتحدة، أعلنت عن نزوح قرابة 78 أسرة يمنية خلال الشهر الجاري فقط، من عدة محافظات يمنية.
وقالت المنظمة في تقريرها لحالات النزوح، إنه ما بين 26 فبراير و4 مارس 2023، تتبعت مصفوفة النزوح "78 أسرة يمثّلون (468 فردًا) نزحوا مرة واحدة على الأقل". مشيرة إلى أنّهم انتقلوا إلى محافظة: تعز، الحُديدة، مأرب، حضرموت.
وبحسب إحصاءات المنظمة الأممية، فإنّ إجمالي أعداد النازحين من الفترة من 1 يناير وحتى 4 مارس 2023، بلغ 1,612 أسرة يمثلون (9,672 فردًا) تعرّضوا للنزوح مرة واحدة على الأقل.
البيئة والمناخ
يقول الدكتور عبدالقادر الخراز، رئيس سابق لهيئة البيئة والمناخ في اليمن، في تصريح لـ"خيوط"، إنّ ظاهرة الهجرة من القرى إلى اليمن لها تأثير على الزراعة والبيئة والتغيير المناخي، ليس على اليمن فقط وإنّما على المنطقة ككل، أيضًا على المناخ البيئي الساحلي، والصحراوي، والجبلي، فضلًا عن الحرب وآثارها السلبية التي عملت على تسريع عملية التغيير المناخي والبيئي بصورة أكبر.
ويتميز اليمن بالمدرجات الزراعية، التي تزرع أشجار البن، الذرة، القمح، وغيرها من المحاصيل، في حين أنّ تنامي عملية الهجرة من المناطق الريفية إلى المدن، يعرّضها للتدهور بشكل كبير، وبالتالي اختلال الإنتاج الزراعي بصورة تفاقم من انحدار الاقتصاد الوطني.
وينعكس الإهمال المتنامي للأراضي الزراعية، إضافة إلى التغيرات المناخية، بشكلٍ سلبيّ على البيئة، إذ يؤكّد الخراز أنّ الانقسام النقدي، والانفلات الأمني والتعرض للمضايقات والابتزاز، جميعًا ساهمت في ارتفاع معدل الهجرة الداخلية إلى المدن، هذه المدن أيضًا كانت في الأصل ريفية مثل مأرب التي تضمّ حاليًّا عددًا كبيرًا من النازحين الذين قدموا إليها من مختلف المدن والمناطق اليمنية، قرابة 4 ملايين.
ويطالب الخراز في ختام حديثه، بضرورة حلّ أزمة الانقسام النقدي في اليمن، ومعالجة آثارها وتبعاتها الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية، وإيجاد خطة استراتيجية من شأنها التخفيف من الهجرة عبر توزيع الخدمات العامة بين المناطق الريفية والمدن.