قبل حوالي 80 سنة، وتحديدًا في الفترة التي كانت تستعر فيها الحرب العالمية الثانية مطلع أربعينيات القرن العشرين، أرسل مواطن يمني مغترب في إنجلترا رسالة لشقيقه في صنعاء، يحدثه فيها عن الحرب "التي لا مثيل لها"، جاء فيها أن "الحرب بين الإنجليز والألمان" وأن القوات الألمانية قد سيطرت على بلدان كثيرة، "والآن أخذوا فرنسا وهي دولة عظيمة قريبة من إنجلترا، أخذها الألمان خلال ست ساعات" وأن العاصمة باريس "وهي عروس الأرض سلمت نفسها لما ظهر لها أنه لا قدرة لها على مكافحته"، مضيفًا "العين الآن على لندن، وأظن أن الإنجليز هالكة لا محالة"، ولكي يصف له ضراوتها أخبره أن "الحرب مشتدة، أشد من حرب باقم أو حرب حرض أو حرب الزرانيق".
والخميس الفائت 12 نوفمبر/ تشرين الثاني، أقامت مؤسسة بيسمنت الثقافية فعالية، أعلنت من خلالها إطلاق مشروع حفظ ورقمنة التراث اللامادي الورقي والصوري الخاص بالعائلات اليمنية، "من أجل المساهمة في حفظ الذاكرة اليمنية ومساعدة الباحثين في الوصول إلى وثائق ومصادر معلومات مفيدة في دراسة التاريخ اليمني"، كما تقول المؤسسة.
إحدى الوثائق المهمة التي وصلت لها "بيسمنت" كانت تلك الرسالة بين المغترب اليمني في إنجلترا وشقيقه في صنعاء، إلى جانب عدد كبير من الصور والرسائل والمذكرات التي يعود تاريخها إلى فترات مختلفة.
ودشنت بيسمنت المشروع الذي حمل اسم "جمكانة" بدعم من صندوق حماية الثقافة التابع للمجلس البريطاني، بالشراكة مع قسم الرقميات والثقافة والإعلام، وبحضور عدد من الإعلاميين والمهتمين، وتضمنت الفعالية فقرات تعريفية عن المشروع حيث قدم فريق المؤسسة نبذة تعريفية، فيما تحدث عزيز مرفق مسؤول المتابعة والتقييم عن أهمية ومراحل وأهداف المشروع والصعوبات التي واجهت الفريق.
و"جمكانة" مصطلح معروف في بعض المناطق اليمنية الشمالية، ويطلق على مكان في المنزل، يتم تخصيصه لوضع الكتب أو الصور أو المجسمات أو الوثائق العائلية المهمة، يتم تصميمه أثناء بناء المنزل في أحد الحيطان الداخلية، ثم يتم إغلاقه بباب زجاجي. وبحسب مرفق فإن المصطلح مكون من كلمتين "جم" وتعني الزجاج، و"كانة" وتعني الفاصل بين المكان العام والمكان الخاص، وهي لفظة جلبها الأتراك لليمن أثناء الاحتلال العثماني، لكن أصلها فارسي.
تقول شيماء جمال رئيسة المؤسسة لـ"خيوط": إن المشروع توصل لوثائق عمرها يتجاوز مئتَي عام. وتنوه إلى أن "بيسمنت" لا تحتفظ بهذه الوثائق، حيث تستلمها من الشخص المالك وتقوم بأخذ صور عالية الدقة لها وَفقًا لمعايير احترافية تم تدريب فريق من المختصين عليها، وتعيد الوثيقة لمالكها الأصلي.
يهدف المشروع لرفع قدرات ووعي الأسر التي تهتم بأرشفة ذكرياتها بأهمية الحفاظ على الوثائق، وتعريفها بالطرق المثلى للتعامل مع المستندات القديمة
وبحسب شيماء، يهتم المشروع بالحفاظ على المسودات الورقية القديمة من الضياع، حيث ستعمل المؤسسة على رفعها إلى موقع على الإنترنت مخصص لهذا الشأن، فيما يقول عزيز مرفق إن الغرض هو "إتاحة الوصول لهذا الإرث الهامشي وغير المنشور، والذي يحوي أحداث الناس، ورؤيتهم لها، وتطور اللغة، والمفاهيم وغيرها، وبما يساعد على تشكيل قاعدة بيانات يسهل وصول الباحثين أو المهتمين بالتاريخ إليها، للتعرّف أكثر على تاريخ وثقافة البلد".
ويهدف المشروع أيضًا لرفع قدرات ووعي الأسر التي تهتم بأرشفة ذكرياتها بأهمية الحفاظ على الوثائق، وتعريفها بالطرق المثلى للتعامل مع المستندات القديمة لإطالة عمرها الافتراضي، بما في ذلك الطرق الحديثة والرقمية، وبأهمية الحفاظ على الإرث العائلي وعدم إهماله أو التخلص منه، يقول مرفق: "هذا المشروع يعتبر الأول من نوعه على الصعيد اليمني".
في الفعالية استعرضت المتطوعة في المشروع فريال مجدي، مجموعة من الصور القديمة التي يزيد عمرها عن أربعين عامًا، التي تحكي جزءًا من تاريخ الحركة النسوية وخاصة في محافظة تعز. وفي حديثها لـ"خيوط"، عبرت فريال عن سعادتها كونها أحد أعضاء الفريق الذي يقوم بجمع هذه الوثائق، مشيرة إلى أن المشروع أتاح لها مجالًا أكبر للتعرف على معنى التوثيق والطرق الصحيحة للقيام به.
وقال صهيب الأغبري طالب الهندسة المعمارية في جامعة صنعاء وأحد المتطوعين في المشروع، إن للذكريات أهمية كبيرة في بناء الذاكرة الوطنية، وتحدث عن الصعوبات التي واجهها في جمع المستندات من الآخرين؛ بسبب تحفظ بعض الأشخاص، وعدم فهمهم لفكرة الجمع. كما تحدث عن تجربته الشخصية المستقلة في الاهتمام بجمع الوثائق والصور القديمة، حيث كان قد أنشأ صفحة على منصة التواصل الاجتماعي فيسبوك قبل سنوات باسم (تاريخ اليمن-History of Yemen) خصصها لنشر محتوى مرئي من تاريخ اليمن.
ودار نقاش بين الحاضرين في قاعة الفعاليات في بيسمنت، عن المشروع، قال نبيل قاسم إن "توثيق التراث العائلي أمر يستحق أن يُبذلَ عليه جهدٌ كبير، كون أغلب هذا التراث لا يتم الاهتمام به. وتحدث الصحفي عبدالرحمن بجاش عن تجربة عايشها في عدن قبل الوحدة كانت السبب في جعله يهتم بتوثيق وأرشفة كل مراسلاته والاهتمام بالتفاصيل مهما كانت صغيرة، وتساءل الدكتور قاسم محمد العريقي عن صعوبة جمع الوثائق وآلية وشروط قبولها في المشروع، فرد عزيز مرفق موضحًا أن المشروع لا يقبل تلك التي يوجد حولها خلاف أو تضر بمصلحة شخص أو فئة معينة أو لها قيمة مادية مثل البصائر.
واختتمت الفعالية بافتتاح معرض "ذكريات العائلة"، الذي يستعرض مجموعة من النماذج القديمة التي توضح أنواع الوثائق التي يهتم المشروع بجمعها، مثل الرسومات، والأشعار، والكتب، والمجلات، والقصص، والمدونات، والمذكرات، وهوامش الكتب القديمة.