أثرت التغيرات المناخية التي طالت العالم، ومن ضمنه اليمن، على البيئة البحرية بشكل هدد حياة كثير من الكائنات البحرية التي تميزت بها بيئة البحر الأحمر. باسل عبيد (39 سنة،) صياد على أحد شواطئ محافظة الحديدة، يتحدث لخيوط عن تأثير التغيرات البيئية على مهنة الصيد، بسبب ارتفاع درجات الحرارة الذي أدى إلى ابيضاض المرجان، ما أثر بشكل مباشر على الصيادين والأسماك في المنطقة.
"تأثير ابيضاض المرجان على الأسماك غير الساكنة مثل الديرك، والأسماك الساكنة مثل الهامور، أصبح ملحوظاً جدًا. فقد تتسبب الحرارة المرتفعة بتغيرات كبيرة في البيئة البحرية، ما يؤثر على وفرة الأسماك في مناطق الصيد التي نصل إليها،" يقول عبيد.
بيئات الشعاب المرجانية تعتبر من أكثر البيئات تنوعًا حيويًا على سطح الأرض، إذ تحتوي على أكثر من 25% من التنوع الحيوي في البحار.
تحديات بيئية طارئة
لم يكن هذا التأثير البيئي هو التحدي الوحيد الذي يواجه الصيادين في الحديدة. هناك تحديات بيئية طارئة، مثل تحدي خزان النفط العملاق صافر، الذي شكل مصدر قلق كبير، وفقاً لعبيد، بسبب تسرب النفط والمخلفات النفطية منه. "لقد لامسنا انخفاضاً ملحوظاً في أعداد أسماك العربي في المنطقة المحيطة بصافر، لحد أنها نفقت تمامًا، وهو ما يظهره اللون الأحمر لمياه البحر، نتيجة المخلفات النفطية التي تمددت لتطال نطاق بحري واسع."
في سياق متصل، يقول جعفر باعمر، أستاذ بيئة الشعاب المرجانية المساعد بكلية العلوم البيئية والأحياء البحرية بجامعة حضرموت، إن بيئات الشعاب المرجانية تعتبر من أكثر البيئات تنوعًا حيويًا على سطح الأرض، إذ تحتوي على أكثر من 25% من التنوع الحيوي في البحار. ويضيف باعمر في حديث لخيوط: "تلعب المستعمرات المرجانية دورًا أساسيًا في توفير الغذاء والمأوى للعديد من الأسماك واللافقاريات، كما تمثل مكانًا مثاليًا للتزاوج والتكاثر. وبالتالي فإن تأثر الشعاب والمستعمرات المرجانية يهدد الحياة البحرية بشكل عام، ويتسبب بهجرة الأحياء والكائنات البحرية إلى بيئات أخرى بحثًا عن المأوى والغذاء."
رشيدي محمود، اختصاصي أبحاث ودراسات إرشاد سمكي بوزارة الزراعة والري والثروة السمكية، يؤكد أن الشعاب المرجانية توفر هياكل معقدة تعمل مأوى آمنًا لأسماك الشعاب الملونة، وكذلك الأسماك المفترسة الكبيرة على حد سواء، كما تسهم هذه الشعاب في توفير مصدر غذائي غني، لأنها تضم كائنات دقيقة وطحالب تعد مصدرًا مهمًا وأساسيًا لغذاء الأسماك.
ويضيف رشيدي في حديث لخيوط: "تضع الأسماك بيضها في مناطق الشعاب المرجانية، التي تعتبر بيئة هادئة، وآمنة لوضع البيض ونمو الصغار، وتسهم الشعاب المرجانية في تنوع مصادر الثروة السمكية، لأنها تؤوي أكثر من 25% من جميع أنواع الأسماك البحرية، الضرورية لضمان استدامة الثروة السمكية."
وبالرغم من أن الشعاب المرجانية لا تغطي سوى 1% من المساحة البحرية الهائلة، فإنها تُعد موطنًا لأكثر من 25% من التنوع الحيوي في البيئات البحرية، و تقتصر على المياه الضحلة في المناطق الاستوائية و المدارية بين خطي عرض 30 درجة شمالًا و 30 درجة جنوبًا، بحسب تأكيد الدكتور باعمر.
ويشير باعمر إلى أن حيوان المرجان، الذي يبني الشعاب، يعيش في تكافل مع الطحالب وحيدة الخلية المعروفة بـ (الزوكسانثيلا.) فإن المرجان يوفر المأوى للطحلب ويزوده بثاني أكسيد الكربون والفضلات النيتروجينية الناتجة عن عمليات الأيض، بينما يمد الطحلب المرجان بالمواد العضوية الناتجة عن عملية التمثيل الضوئي بصفتها مصدرًا غذائيًا، ويساهم أيضًا في بناء الهيكل الكلسي للمرجان.
وينوه باعمر بحساسية حيوان المرجان للتغيرات البيئية. فهو يعيش ضمن مدى حراري محدد بين 15°م و 36°م، ويحتاج إلى درجة حرارة مثلى تتراوح بين 24°م و28°م للنمو والتكاثر. كما تفضل الشعاب المرجانية المياه النقية قليلة العكورة، وتوجد عادة في عمق يسمح بدخول ضوء الشمس، بعيدًا عن مصبات الأنهار والسيول.
ظاهرة ابيضاض المرجان تحدث عندما يتعرض حيوان المرجان لظروف بيئية قاسية وحرجة، أهمها التغيرات الكبيرة في درجات الحرارة التي تتجاوز نطاق تحمل المرجان.
ظاهرة ابيضاض المرجان
بالنظر لعدم وضوح التأثيرات المناخية على النظام البيئي المحلي بشكل دقيق، فإن علماء أشادوا بقدرة هذه الشعاب على مقاومة التغيرات النسبية في درجة حرارة الماء.
ويستطرد الدكتور باعمر: "ظاهرة ابيضاض المرجان تحدث عندما يتعرض حيوان المرجان لظروف بيئية قاسية وحرجة، أهمها التغيرات الكبيرة في درجات الحرارة التي تتجاوز نطاق تحمل المرجان. هذه التغيرات تؤثر على العلاقة التكافلية مع طحالب الزوكسانثيلا، التي تعطي المرجان لونه الزاهي. عندما تغادر الطحالب المستعمرة المرجانية بسبب الظروف البيئية السيئة، يظهر المرجان بلون أبيض ناصع، ما يؤدي إلى ظاهرة ابيضاض المرجان، ويؤدي في النهاية إلى موت المرجان بسبب نقص الغذاء."
باعمر يؤكد وجود ست سلالات جينية من طحالب الزوكسانثيلا التي تعيش تكافليًا مع المرجان، وتختلف درجة تحمل كل سلالة للظروف البيئية الحرجة. وبناءً على ذلك، تتفاوت قدرة المرجان على تحمل التغيرات في درجات الحرارة حسب السلالة الجينية للطحلب الموجود معه.
ويضيف باعمر: "إن بيئات الشعاب المرجانية شهدت انخفاضًا ملحوظًا في المستعمرات المرجانية، فقد انخفضت بنسبة 14% خلال العقد الأخير بسبب ظاهرة ابيضاض المرجان. ومع ذلك، تُعتبر شعاب البحر الأحمر من بين الأكثر تحملًا للتغيرات البيئية، رغم ارتفاع الملوحة ودرجة الحرارة في فصل الصيف. فنسبة حدوث ابيضاض المرجان في البحر الأحمر تُعد أقل بكثير مقارنة بالبحار الأخرى. وهذا أدى إلى اهتمام متزايد بمسألة كون شعاب البحر الأحمر قد تكون ملاذًا لإنقاذ الشعاب المرجانية في البحار الأخرى، في حال استمرار تدهور البيئات المرجانية العالمية."
تجدر الإشارة إلى دراسة أجرتها المنظمة الإقليمية لحماية البيئة البحرية تحت عنوان "تكيف الشعاب المرجانية مع التغير المناخي لعام 2023،" التي أكدت أن زيادة درجة الحرارة في المناطق البحرية الداخلية الضحلة تشكل تهديدًا متزايدًا للشعاب المرجانية، بسبب زيادة احتمالية تعرضها لموجات ابيضاض. كما أن قدرة المرجان على التحمل تتأثر سلبًا بسبب الضغوط المحلية الناتجة عن أنشطة تحلية المياه، وتصريف المياه العادمة، والبناء على الشريط الساحلي، ما يؤدي إلى تفاقم الإجهاد الحراري، وتدني جودة المياه الساحلية وزيادة العكارة.
تذكر الدراسة أيضًا أن المناطق البحرية الوسطى والخارجية تواجه تغيرات متزايدة بسبب تأثيرات الرياح الموسمية، والتيارات المائية الصاعدة، وزيادة وتيرة الأعاصير، التي تؤثر على قدرة المرجان على الصمود، إذ تتسبب الأضرار المادية الناتجة عن زيادة قوة الرياح والأمواج، ونقص الأكسجين المذاب في المياه، وارتفاع درجة الحموضة، وانتشار الطحالب الضارة، في تهديد كبير لهذه البيئات المرجانية.
إلقاء مياه الصرف الصحي والصناعي، بما في ذلك النفايات والمخلفات الكيميائية مثل الفحم، الطلاء المضاد للاصطدام، والمركبات الكيميائية الأخرى في البحر، من العوامل التي تؤثر بشكل خطير على الشعاب المرجانية.
ضغوط بشرية أخرى
وتشير الدراسة إلى أن الشعاب المرجانية تتأثر بتأثيرات التغير المناخي، بالإضافة إلى الضغوط البشرية الأخرى التي تتزامن معها. هذه الضغوط تؤدي إلى فقدان مباشر للشعاب المرجانية وتقلل من قدرتها على التكيف مع آثار التغير المناخي.
الدكتور يحيى فلوس، الأستاذ المشارك بكلية العلوم البحرية والبيئة، قسم الأحياء البحرية والمصائد بجامعة الحديدة، يقول إن هناك عدة عوامل تؤثر بشكل خطير على الشعاب المرجانية نتيجة للتطور السريع واتساع المدن. ومن أبرز هذه العوامل إلقاء مياه الصرف الصحي والصناعي، بما في ذلك النفايات والمخلفات الكيميائية، مثل الفحم والطلاء المضاد للاصطدام، والمركَّبات الكيميائية الأخرى في البحر.
ويضيف فلوس في حديث لخيوط :"يشكل الصيد الجائر تهديدًا كبيرًا آخر، فهو يؤدي إلى إزالة الأنواع الرئيسة من النظام البيئي، فيؤدي ذلك إلى اختلال التوازن البيئي، ما يضر بالشعاب المرجانية. كما أن الصيد العشوائي للكائنات البحرية دون اعتبار للأضرار التي قد تلحق بالشعاب المرجانية يمكن أن يؤدي إلى تدهورها."
"تتسبب أساليب الصيد غير المستدامة، مثل استخدام الديناميت وسيانيد الصوديوم (عامل مميت سريع التأثير، يثبط التنفس الهوائي على مستوى الخلايا، ويمنع الخلايا من استخدام الأكسجين،) بأضرار مباشرة على الشعاب المرجانية، إذ يعتبر من أخطر الممارسات التي تهدد البيئة البحرية، لأنه لا يضر الأسماك فحسب، بل يقتل أيضًا المرجان، ويرقات الأسماك، واللافقاريات الأخرى. وكان قد استُخدِم من سيانيد الصوديوم خلال العشرين سنة الماضية أكثر من مليون كيلوغرام (1100 طن،) وهو ما يكفي لقتل حوالي 500 مليون شخص على سطح الأرض،" حسب فلوس
الجدير بالذكر أن الشعاب المرجانية المبيضة ليست ميتة تمامًا، لكنها تكون معرضة للأمراض والمجاعة، وفي حال عادت درجات حرارة الماء إلى مستوياتها الطبيعية بسرعة، فإنها قد تتعافى من خلال استعادة الطحالب التكافلية التي تعيش في أنسجتها، إلا إذا طالت فترة الابيضاض وتكررت.
و يُعزى موت الشعاب المرجانية في البحر الأحمر إلى ظاهرة التعكير، وتأثيرات عمليات الصيد. فالكثير من القوارب التي تعمل في المنطقة تساهم في تكسير الشعاب المرجانية بسبب استخدام المراسي لتثبيت القوارب، بالإضافة إلى تجمع القوارب في أماكن الشعاب، ما يؤدي إلى تدميرها وموتها.
ابيضاض الشعاب المرجانية يشكل تهديدًا خطيرًا لسبل عيش المجتمعات الساحلية، خاصة الصيادين الذين يتأثر دخلهم نتيجة اضطرارهم قطع مسافات كبيرة للعثور على الأسماك.
تهديدًا للمجتمعات الساحلية
تواجه البيئة البحرية في البحر الأحمر خطرًا متزايدًا. فالشعاب المرجانية هناك يتم تشبيهها بالغابات الاستوائية الممطرة، نظرًا لتنوعها البيولوجي المذهل. وابيضاض المرجان معناه القضاء على هذا التنوع، وفقدان المساحات التي تشكل موطنًا لعدد لا يحصى من الأحياء، بينها أنواع كثيرة من الأسماك، مثل الهامور وسمك النهاش، واللافقاريات، مثل الجمبري وسرطان البحر وقنافذ البحر والسلاحف.
انعكاسات هذا التهديد تفاقم الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها اليمن، "ابيضاض الشعاب المرجانية يشكل تهديدًا خطيرًا لسبل عيش المجتمعات الساحلية، خاصة الصيادين الذين يتأثر دخلهم نتيجة اضطرارهم قطع مسافات كبيرة للعثور على الأسماك، وبالتالي زيادة في تكاليف الوقود والعمالة، إضافة لخطورته على الصناعات التي تعتمد على الشعاب المرجانية،" يقول حفلوس.
وفي سبيل الحفاظ على التنوع البيولوجي، وعلى الشعاب المرجانية في البحر الأحمر، يقترح أساتذة البيئة والإرشاد، ومختصون في هذا الشأن، ضرورةَ تقليل مسببات التغير المناخي، بالإضافة إلى تعزيز جهود زراعة سلالات من الشعاب المرجانية تتحمل درجة الحرارة العالية، إضافة لإعادة تأهيل البيئات البحرية المتدهورة، وتحسين نوعية المياه وممارسات الصيد المستدامة عبر التخطيط الدقيق وتقسيم المناطق لتقليل التأثيرات السلبية، وإدارة المناطق البحرية المحمية بشكل فعال للسماح لمجموعات المرجان بالتعافي، إلى جانب استخدام تقنيات مثل البستنة المرجانية وزراعتها لتعزيز تعافي الشعاب.