في مناسبات معينة كاليوم العالمي للطفل، تتذكر فيه الجهات الفاعلة ومُنظمات المجتمع المدني في اليمن، أنّ هناك أطفالًا يموتون، ويحتاجون للدعم، ولا يخلو الأمر من تدبيج وسائطهم الإعلاميَّة المختلفة بضرورة التأكيد على أهميَّة اتفاقية حقوق الطفل التي تنصّ بشكل عام على حقّ الطفل بالتمتّع بكافة حقوقه، والتي يفتقدها الطفل اليمني.
بينما تتغافل كلُّ هذه الجهات طوال العام، عن معاناة الأطفال في اليمن، خصوصًا في الفترة الماضية من استهداف مباشر بالأفكار المؤدلجة والتي تعتبر بمثابة سموم تنفحها بعض المناهج والوسائل الإعلامية الموجهة، كما هو حاصل في صنعاء ومناطق سيطرة "الحوثيين".
تصفير مقصود للإنتاج
على الصعيد الثقافي في اليمن، يُمكِن الحديث عن الفنون النثرية والشعرية عن الرواية، والقصة، والمهاجل، حتَّى إنّه يُمكن أن نجد نقاشًا يدور بأريحيّة عن التفاهة الإعلامية بمعزل عن شخوصها، لكن عند استعراض وسائط أدب الطفل اليمنيّ، يُقابلنا تصفير ملحوظ ومقصود للإنتاج الأدبي الموجّه للطفل اليمنيّ، وحصره في حُدود المُشاركات الفردية.
خلال سنوات الحرب تناست الحكومة -المعترف بها دوليًّا- أنّ هناك شريحة كان يجب أن تُسخر لها جزءًا من برامجها وقنواتها، كان يجب الاهتمام بالأطفال ودعمهم، كان عليها أن تُعيد إصدار المُجلات التي توقفت، أو تتكفل بإصدار أخرى، باعتبارها إحدى الدول الموقعة على اتفاقية حقوق الطفل.
المضامين الدينيَّة في أدب الطفل
يُعرّف نجيب الكيلاني أدب الطفل دينيًّا بأنّه "التعبير الأدبيّ الجميل، والمؤثّر الصادق في إيحائه ودلالاته، والذي يستلهم قيم الإسلام ومبادئه وعقيدته، ويجعل منه أساسًا لبناء كيان الطفل عقليًّا ونفسيًّا ووجدانيًّا وسلوكيًّا وبدنيًّا، ويُساهم في تنمية مداركه وإطلاق مواهبه الفطرية وقدراته المختلفة وَفقَ الأصول التربوية الإسلامية، وبذلك ينمو ويتدرج الطفل بصورة صحيّة تؤهّله لأداء الرسالة المنوطة به في الأرض".
ووَفقَ هذا التعريف يُقدّم أدب الطفل في الوطن العربي العديدَ من المضامين الدينيّة في بُعدها التربوي المحض، كالحض على العبادات، والدعوة إلى المساواة ونبذ العنصرية.
إلَّا أنّ هذه المضامين تختلّ عندما تُقدَّم للطفل في قالب مذهبيّ مقصود، وهو ما يتناقض مع نصّ المادة 17 من اتفاقية حقوق الطفل، والتي تنصّ على اعتراف "الدول الأطراف بالوظيفة الهامّة التي تؤدّيها وسائط الإعلام، وتضمن إمكانية حصول الطفل على المعلومات والمواد من شتى المصادر الوطنية والدوليَّة، وبخاصة تلك التي تستهدف تعزيز رفاهيته الاجتماعية والروحية والمعنوية، وصحته الجسدية والعقلية، وتحقيقًا لهذه الغاية، تقوم الدول الأطراف بتشجيع وسائط الأعلام على نشر المعلومات والمواد ذات المنفعة الاجتماعية والثقافية للطفل، وَفقًا لروح المادة 23".
المذهب في مجلة جهاد
نَشْر الخطاب الطائفي العدائي، يُمكن قراءته بوضوح في النصوص القصصية المصوّرة التي تقع بين دفتَي مجلتي جهاد وأوسان التي أصدرتهما جماعة الحوثي بعد حرب 2015.
تسعى جماعة أنصار الله (الحوثيين) إلى تسخير كُلّ الإمكانيّات لتفكيك البُنية الثقافيّة الوسطيّة التي يقوم عليها المجتمع اليمني، لا سيما في تلك المناطق التي تقع تحت سيطرتها، وذلك من خلال توجيه الأطفال إلى قراءة الملازم التي تحتوي على فكرها المؤدلج، وتغيير المناهج الدراسية، وأخذهم إلى المخيمات الصيفية، وإمعانًا في توطينهم لفكر الجماعة وتوجهاتها السياسيَّة اهتمّ "الحوثيون" بإصدار المجلات الموجهة للطفل.
تنشر الجماعة في مجلة أوسان، الموضوعات التاريخية وَفقًا لقراءات مُحرّفة للتاريخ اليمنيّ، ويعملون على قولبة التاريخ؛ ليتناسب مع قياس الفكر الضيّق للجماعة، والنيل من الدولة الرسوليَّة، وفي هذا التوجّه المدروس من قبلهم ربطوا بين تقديم التاريخ -المُعاد أدلجته- ليتناسب مع رسالتهم الحاليَّة التي ينشروها في مجلات الأطفال، ومناهجهم الدراسيَّة، وفي كل برامجهم الموجّهة للطفل، والهدف من كل ذلك هو تهيئة جيل يقوم على مذهبيّة طائفيّة تنظر للآخر من فوهة البندقية، لا تحمل هُوية متفردة، ولا يمكن أن تنتقد الجماعة المُسيطرة؛ لأنّها تؤمن بها.
السوبرمان الأخضر (جهاد)
تُقدّم مُجلة "جهاد" المُقاتل الحوثي بكونه نموذجًا مثاليًّا لشخصية البطل العربي المنشود، وأطلقوا على هذا البطل اسم (جهاد)، والاسم في دلالته يُمعن في ترسيخ الصورة المنشودة التي يجب أن يكون عليها الطفل اليمني.
إن تضمين المذاهب الدينيَّة في نصوص الأطفال، يُسهم في تمزيق بُنية المُجتمع الواحد، كما يؤدّي إلى بروز أيديولوجيات مُتناحرة، وبقدر ما يبدو هذا الأثر محدودًا اليوم، لكنه واقع لا محالة.
فلا بُدّ أن يُقاتل الآخر ويذود عن أرضه ووطنه، وهو وطني فقط إذا كان حوثيًّا، أمّا الآخر المختلف فهو العدو دائمًا، وهذا الطرح يتناسب تمامًا مع واقع ما تقوم به الجماعة من انتهاكات ضدّ الأطفال والتي رصدها التقرير الأُممي في (2021)، الذي أكّد على استخدام جماعة الحوثي للأطفال في الحرب، ويمكن الإشارة إلى بعض القصص المُتسلسلة في مجلة جهاد، والتي تتعرّض إلى دفع الأطفال لتبني أفكار الجماعة، التي لا تتناسب مع أدب الطفل بشكل عام.
تتركز قصة: (جهاد في أرخبيل)، للمعترك السياسي والعسكري الدائر حول جزيرة سُقطرى، وتحدّد القصة بشكل صريح أنّ الإمارات العربية المتحدة هي العدوّ والمُحتلّ للجزيرة اليمنية، والذي تقوم باستنزاف الجزيرة وسرقتها، كما تعمل على تجريف تراثها الثقافي، وهو ما يتفق تمامًا مع الخطاب الإعلامي الذي يصاحب تواجد الإماراتيين في الجزيرة، والذي يُعدّ مثار جدلٍ إعلاميّ مُستمرّ بين معارض ومؤيد، وبمعزل عن كل ذلك، تتبنّى السلسلة القصصيّة الدعوة الصريحة للفكر الديني المُتطرف، وتدعو الأطفال إلى مُحاربة العدو. وتختزل السلسلة القصصية المصورة العدوَّ بحسب ما تُعرّفه الجماعة في وسائطها الإعلامية المختلفة، فيوجّه جهاد حديثه للمتلقي الصغير بالهدف الأساسي لحربه التي يشنّها ضدّ المحتل- بحسب ما يرد في القصة:
- "أصدقائي، تعرّضَت هذه الجزيرة الفريدة لإرهاب هؤلاء اللصوص وحقدهم".
- "يجب تنظيف هذه الأرض الطاهرة من رجسهم".
- "ننطلق بإذن الله، في عملية (العصف المأكول)".
وتُبيّن هذه القصة أنواعَ القيادات والتشكيلات العسكرية، ومهمة ودور كل قيادة منها:
"الشباب ينقسمون إلى ثلاث مجموعات: قوات بحرية بقيادة (جهاد)، وقوات برية بقيادة (أحمد السقطري)، وقوات دعم ومساندة ورصد بقيادة (أحد الأصدقاء)".
يُوزع جهاد الخُطّة العسكرية على المقاتلين، والخطاب هنا للمتلقي القارئ للقصة، فيقول له:
"ستتولى المجموعة الأولى القضاءَ على الأُسطول البحري وقطع إمداد العدو، فيما تتولى مجموعة السُقطري إخراج السجناء وتدمير السجن وتطهير المطار، وتتولى المجموعة الثالثة إنقاذ الحيوانات والنباتات التي تمّت سرقتها ...".
- "توكلنا على الله، سأتولى قطع الإمداد عن العدو وتدمير التعزيزات".
إنّ استعراض الخُطّة العسكرية في مضامينها التفصيليَّة، واختيار أسماء الشخصيات، وتسمية العمليّة نفسه، كل ذلك يحمل دلالات مشحونة بخطاب عدائي، يجب ألَّا يُقدّم للأطفال تحت أيّ مسوغ كان.
تصنع القصة أمام المتلقي الصغير مفهومًا واحدًا لصورة البطل، وتوحد دلالات العدو، ليشمل كل ما يُعارض الأنا النرجسيَّة لجماعة الحوثي، وهو ما تؤكّده الجماعة في كل مقاطع القصص المصورة التي تحفل بها المُجلة، حتّى إنّ الأحياء البحرية في جزيرة سقطرى تقف معهم في قتالهم، ضد العدوان- كما يطلقون عليه:
"وبينما جهاد وأصدقاؤه في وسط البحر، ظهرت أمامهم مجموعة من أسماك القرش".
- "لا تخافوا يا أصدقائي، هذا سمك القرش وأصدقاؤه جاؤوا لمساعدتنا".
وانتقل جهاد وأصدقاؤه بأسلحتهم المتنوعة، إلى ظهور أسماك القرش.
- "سنتقدم مع أسماك القرش، ونهجم بالقذائف على سفن وتشكيلات العدوّ والألغام ثم تنقسمون بالقوارب، ويتم إغراقهم بإذن الله".
وفي الجزء الرابع من سلسلة جهاد في أرخبيل سقطرى، يُشار إلى موضوع السرقات التي وقعت في الجزيرة، ويوظف هذا الموضوع؛ لبيان دور الأطفال في استعادة ما يُسرق من الجزيرة:
- "جهاد، تم رصد سفينة مجهولة في مكان منعزل تحمل عدة أعلام".
- "راقبوها جيدًا، سوف أحضر فورًا".
- "اذهب أنت يا جهاد، وتحقّق من هذه السفينة، وأنا سأذهب ومعي كل المواطنين لتعزيز المجموعة 3".
حاصر أصدقاء جهاد سفينة المحتلين، وآخرون يتسلقون للصعود إليها.
- "عليهم اللعنة هؤلاء اللصوص".
- "يجب التعامل بحذر، حتى لا تتعرّض هذه الأشجار لأيّ ضرر".
- "يجب القبض على هؤلاء المجرمين وإجبارهم على الاستسلام، سنستخدم مسدسات الكهرباء".
- "فكرة جيدة، يا جهاد".
وهاجم جهاد وأصدقاؤه القيادة.
- "سامحونا أرجوكم، نحن مجرد موظفين".
أعاد الأبطال أشجار دم الأخوين للجزيرة وعادت الأسماك للسباحة بسعادة.
- "سيتم تنظيف الجزيرة من مخلفات هؤلاء الأوغاد".
- "يجب تنظيف كل اليمن من هؤلاء اللصوص".
مع أنّ الخطاب السائد في النص هو خطاب ديني، إلَّا أنّ الألفاظ النابية كـ: أوغاد، ولصوص، واللعن، بالإضافة إلى تعريف الطفل بأنواع الأسلحة كالقذائف ومسدسات الكهرباء والألغام، يكشف العقلية التي تتعامل بها الجماعة في حربها مع الآخرين حتَّى اليمنيّين منهم، فكل يوم يُقتل أو يُصاب طفلٌ في اليمن؛ بسبب الألغام.
الهويّة المذهبيّة في أدب الطفل
يستميت الحوثيّون في محاولة ترسيخ عقيدتهم الطائفية في عقول الأطفال، باعتبارها مُسلّمة وبديهية، بل وحقيقية، وهم بذلك يؤكّدون أنّ إشكالية الهُوية الدينية تتوقف عند حدود صاحب السلطة الفعلي، فهو الذي يحدّد الهُوية الدينية دائمًا.
ويُطلق الحوثيون على هُويتهم بـ(الهويَّة الإيمانية)، وهو شعار هذه الجماعة الذي تكرّره للأطفال في مجلة جهاد، نثرًا وشعرًا؛ قُدِّم في مجلة جهاد نظمًا، بعنوان: (أمريكا الشيطان الأكبر)، يُحدّد فيه ماهيَّة الهويَّة الإيمانية، ويتضمن تعريفًا للآخر العدوّ المُتمثّل بأمريكا، واليهود، والتحالف العربي.
"بِهويتنا الإيمانية
وَثقافَتنا القرآنية
وبمعرفة الله تعالى
نَهزم أمريَكا الهَمجيّة
من تسعى في الأرض فسادًا
بِمشاريع إجرامية
والحربُ على شعبي جاءتْ
بِقرارات أمريكيَّة
أعلنَها (كيري) نفذها
أعرابُ النَّفط الغَربيَّة!
فيها تَهيئةٌ واضحةٌ
للهيمنةِ الصُهيُونيِّة (...)
ثقةٌ بالرحمنُ قَويِّة
بسلاح الإيمان هَزَمنَا
عاصفة الحِقد الأممية
وبـ(بوَلَّاعَتنَا) تَتلاشى
أسلحَةُ الفَتَكِ النَوعِيَّة"!!!
دائمًا ما يُكرر "الحوثيّون" خطابًا هوياتيًّا يتبنّى نظرية المؤامرة، وعلى الرغم من السخرية اللاذعة لما يصدر من جانبهم من خطابات، إلَّا أنّ أنّهم يوثّقون ذلك في نصوصهم الموجّهة للطفل.
إنّ تضمين المذاهب الدينيَّة في نصوص الأطفال، يُسهِم في تمزيق بُنية المُجتمع الواحد، كما يؤدّي إلى بروز أيديولوجيات مُتناحرة، وبقدر ما يبدو هذا الأثر محدودًا اليوم، لكنه واقع لا محالة.
وعلى اليمنيين الانتباه لهذه الكارثة التي تتعاظم والتي قد تمتد إلى عقود، وذلك من خلال وضع حلولٍ عاجلة كمشاريع السلام، والتوافقات، وتحييد الأطفال وإبعادهم عن هذا التوجّه الذي تزرعه الجماعات الدينية في ذهنهم.