"لازم أشتغل عشان أهب بيسو (أحضر نقودًا)"؛ جملة عبرت بها هديل غالب (11 سنة)، عن السبب الذي يدفعها للعمل.
بدأت هديل العمل قبل عامين في بيع الماء، وتنقلت بين أعمال أخرى كان آخرها بائعة في بقالة صغيرة للمواد الغذائية.
تُعرف ظاهرة عمالة الأطفال بأنّها "عمل الطفل دون سن الثامنة عشرة، بأعمال تهدّد سلامته وصحته ورفاهيته، مستغلة ضعفه، وعدم قدرته على الدفاع عن حقوقه، سواء كان هذا العمل قسرًا، أو طواعيّةً، حيث يُعدُّ الطفل في هذا العمر قاصرًا، ولا يمتلك زمام أموره ويحتاج إلى وكيل عنه".
هديل واحدة ضمن عشرات الأطفال الذين حرموا طفولتهم بسبب الظروف المعيشية الصعبة في اليمن، حيث فاقمت الحرب الدائرة منذ ثماني سنوات، من سوئها.
تسكن هديل مع أسرتها في قرية (العليلي) مديرية الخوخة، التابعة لمحافظة الحُديدة (غرب اليمن)، حيث تقضي الفتاة الصغيرة معظم يومها في بيع المواد الغذائية، في بقالة بسيطة بحيٍّ فقير.
تختزل هديل لـ"خيوط"، الصعوبات التي تواجهها بالقول: "تعب!"، فيما تبدو آثار هذه الكلمة واضحة على ملامحها المنهكة والمرهقة.
تترك ظاهرة تشغيل الأطفال في نفوسهم آثارًا سلبية مدمِّرة للغاية، تنعكس هذه الآثار بدورها على المجتمع عمومًا، وعلى الأطفال بشكل خاص، إذ تنحو عمالة الأطفال -غالبًا- منحى الاستغلال من قبل أرباب العمل، حيث يتم تكليف هؤلاء الأطفال بمهام وأعمال تفوق قدراتهم النفسية والبدنية.
آثار نفسية مدمرة
في هذا الصدد، يتحدث لـ"خيوط"، الباحث الاجتماعي والأخصائي النفسي، الدكتور فؤاد أبكر، قائلًا: "ممّا لا شك فيه أنّ ظاهرة تشغيل الأطفال تترك في نفوسهم آثارًا سلبية مدمرة للغاية، تنعكس هذه الآثار بدورها على المجتمع عمومًا، وعلى الأطفال بشكل خاص، إذ تنحو عمالة الأطفال -غالبًا- منحى الاستغلال من قبل أرباب العمل، حيث يتم تكليف هؤلاء الأطفال بمهام وأعمال تفوق قدرتهم النفسية والبدنية، بالرغم من تجريم العديد من الاتفاقيات الدولية لقضية عمالة واستغلال الأطفال على كافة المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وبالرغم من إقرار الدول الموقّعة لهذه الاتفاقيات التي تحمي الأطفال من الاستغلال الذي قد ينجم عنه إعاقة أو ضرر بدني أو عقلي أو روحي وحتى معنوي، إلَّا أنّ الأطفال ما يزالون يتعرّضون لانتهاكات شتّى تضع هذه الدول في مأزقٍ قانوني وأخلاقي".
كفاح متواصل
تحاول هديل إلى جانبِ عملها، أن تكمل تعليمها في الصف الثالث الابتدائي: "أدرس عشان أكون دكتورة، وما أجلس في البقالة، لديّ أب وأمّ وأربع أخوات وأخوَان، جميعهم بحاجتي، وهذا يتطلب أن أبذل جهدًا مضاعفًا".
إنتصار، والدة هديل (40 سنة)، تتحدث لـ"خيوط"، عن سبب اعتماد الأسرة على هديل، قائلة: "بسبب ظروف الحياة الصعبة، كان من الضروري التعاون لتجاوز المعاناة، وتأمين لقمة العيش، ولأنّ هديل هي الأذكى بين إخوانها، أجبرتنا الظروف إلى الدفع بها لسوق العمل، خاصة بعد توقف والدها عن العمل".
تدرك أسرة هديل أهمية التعليم لأطفالها؛ "بالرغم الوضع المعيشي الذي نعانيه، ما نزال نحرص على إلحاق إطفالنا بالمدارس"، تقول إنتصار. وبلهجتها التهامية البسيطة تعبّر عن العجز الذي دفعهم لتشغيل أطفالهم: "نشى نحيدهن (نجعلهم) متعلمين يرفعون رؤوسنا، لكن ما نهب (ما الذي بأيدينا عمله)؟!".
الفقر وعمالة الأطفال
يعتبر الفقر سببًا رئيسًا لعمالة الأطفال، إذ يضطر العديد منهم إلى الخروج للعمل من أجل البقاء على قيد الحياة، إضافة إلى بقية الأعباء الحياتية المتعلقة بتوفير مستلزمات التعليم، خاصة إذا كان عدد الأطفال في الأسرة الواحدة كبيرًا.
في السياق، تقول إشراق عمر، ناشطة حقوقية في مديرية الخوخة التابعة لمحافظة الحُديدة الساحلية، إحدى أكثر المحافظات فقرًا في اليمن، إنّ عمالة الأطفال هي واحدة من الظواهر الاجتماعية المنتشرة في الوطن العربي عمومًا، لكنّها تتسع في اليمن، وتتفاقم يومًا إثر يوم، نظرًا للصراع الدائم وما يترتب عليه من تبعات، حتى أصبح من المعتاد مشاهدة الأطفال في سوق العمل، بعيدًا عن المدارس التي يفترض أن يكونوا ملتحقين بها.
وأردفت عمر، قائلة: "باتت مشاهدة الأطفال في الشوارع والجولات، والبناشر، والمقاهي، يعملون تحت هجير الشمس، وصقيع البرد، تحت الضغط، والاستغلال، وتحت رحمة طبائع الناس المتباينة، أمرًا مألوفًا للغاية، كأنّه هو القاعدة وما سواه استثناء".
وتشير عمر إلى أنّ الأسباب التي تدفع الأطفال في الريف اليمني للعمل، هي ذاتها التي تدفعهم في المدن، وعلى رأسها: انخفاضُ دخل الأسرة إلى جانب عدم تفعيل القوانين الضامنة لحقوق الطفل، لكن انعدام الفرص والبدائل، وتكاثف المهام الزراعية وسوء التعليم، أسبابٌ ينفرد بها الريف عن الحضر، وكلّ هذه العوامل لها تبعاتها المختلفة على الأطفال.
تبين الإحصائيات والبيانات الدولية المختلفة أنّ عمالة الأطفال من القضايا الأكثر خطورة في عالمنا المعاصر، إذ ليست مقتصرة على دولة بعينها، بل تشمل، إضافة إلى البلدان الفقيرة والبلدان التي تشهد صراعات وحروبًا، البلدانَ الصناعية الأكثر تطورًا وتنمية، مع تفاوتٍ في النِّسب والحِدّة، إذ يجد أربابُ العمل في عمل الأطفال فرصةً سانحة لتشغيل عمالة رخيصة في مقابل إنجاز أعمالٍ كان يفترض أن يقوم بها الكبار مقابل أجور أعلى من تلك التي يتقاضاها الأطفال.