في صباحات الشتاء الباردة أو في صباحات الصيف الماطرة، يذهب الأطفال "المبزِّغون" في كثير من قرى اليمن إلى مزارع القات لقطف أغصان القات ورصِّها في حزم دائرية أو وضعها في أكياس بلاستيكية؛ وذلك لتصديرها إلى أسواق القات المختلفة، وبيعها لملايين اليمنيين الذين يتعاطون نبتة القات كل يوم.
تعدّ نبتة القات واحدةً من النباتات المخدِّرة، الموجودة في اليمن وشرق إفريقيا؛ إذ تحتوي على مينوامين شبه قلوي يدعى الكاثينون، وهو شبيه بأفيتامين منشط، ويتسبّب بانعدام الشهية وحالة النشاط الزائدة.
إدمان
لم يكن والد عرفات حسن (13عامًا)، يعلم أنّ طفله، الذي امتهن قطف أغصان القات في مزرعته الواقعة بمديرية دمت بمحافظة الضالع ومزارع آخرين في القرية، سيصير مدمنًا على تعاطي القات في هذه السن المبكرة. يقول والد الطفل لـ"خيوط": "كان وقت القطف يأخذ أغصان القات ويخزّن بها، وكنت أسمح له بهذا من أجل أن يزداد نشاطه ويقطف قاتًا أكثر، ولكني فوجِئت بأنه يخزن بكمية قات كبيرة مثلما يفعل الكبار".
تسبّبت الحرب التي نشبت في البلاد منذ تسع سنوات، بتفاقم سوء الأوضاع المعيشية، وحالة ركود في أوساط العمّال الذين كانوا يقطفون أغصان القات لملاك المزارع؛ إذ وجد الملاك أنفسهم غير قادرين على إعطاء العمّال أجورهم؛ ما دفع كثيرين منهم إلى تشغيل أطفالهم في هذه المهنة الشاقة، وأخذهم إلى الأودية، ليتحولوا إلى "مبزِّغين"، وهكذا تبدأ مسيرة المعاناة لهؤلاء الأطفال.
بحسب الاختصاصي في أمراض الجهاز التنفسي والصدر، محمود التركي، فإنّ كثيرًا من الأطفال العاملين في قطف القات "المبزِّغين"، معرضون للإصابة بالربو والتحسس؛ وذلك بسبب تأثيرات المبيدات الحشرية شديدة السُّمِّيّة، والأتربة العالقة في شجرة القات بشكل دائم، وكذلك البرد القارس في الصباحات الشتوية التي يعمل بها الأطفال.
سُمِّيَّة
تُرش نبتة القات بالعديد من المبيدات الحشرية شديدة السُّمِّيّة، بل إنّ بعضها مهربة إلى البلاد ومنتهية الصلاحية، ورغم هذا يذهب الأطفال "المبزغون" كلَّ صباح لقطف أغصان القات، وهو ما ينذر بكارثة صحية ستلحق بهم، إذ لاحت تلك الكارثة في أفق الكثيرين، وهنالك من صار منهم مريضًا بعدة أمراض، جلّها متعلقة بالجهاز التنفسي.
انتشار ظاهرة الأطفال "المبزغين" لا تقتصر على محافظة يمنية واحدة من المحافظات التي تُزرع فيها نبتة القات، بل يمكن ملاحظتها في كل مكان، حيث تسبّبت العديد من العوامل في حشر الأطفال في هذه المهنة، وكان أبرزها سوء الوضع المعيشي للأُسَر، وعدم قدرتها على الاستعانة بعمّال آخرين لعملية القطف.
في البدء كان "مبزِّغًا" قاطفًا لأغصان القات، ثم انتقل إلى سوق في مدينة رداع بمحافظة البيضاء، للبيع والشراء في نبتة القات. هذه ليست القصة الوحيدة للطفل أسامة أحمد (14 عامًا)، بل هنالك الكثير من الأحداث المشابهة لأطفال يعملون في القطف بمزارع القات، وهو ما يتسبب لهم في ضياعٍ وانخراطٍ في عوالم ضارة ولا تقدم للطفولة إلا المعاناة والأخطار.
تحمل مهنة "المبزغين" خطورةً كبيرة على الأطفال، تبتدِئ بإصاباتهم بعدة أمراض تنفسية، وتمر بحرمانهم من التعليم واللعب والرفاهية، وتنتهي بجعلهم مدمنين على تعاطي القات، وعلى الرغم من كل هذا، لا نجد أولياء أمور ولا جهات متخصصة تحد أو تمنع من توسع هذه المهنة الضارة في أوساط الطفولة المهدورة.
مُخدِّر
تُصنِّف منظمة الصحة العالمية نبتة القات بالمُخدرة، ويمنع تعاطيها في أغلب دول العالم، بينما يكثُر استهلاكها في اليمن؛ وذلك لكونها النبتة التي تشغل الحيز الأكبر في حياة المزارع اليمني، وتدر له الربح الأكثر والأسرع؛ الأمر الذي ينعكس سلبًا على زراعة المحاصيل النقدية من فواكه وخضروات وحبوب.
ونظرًا لاحتوائها على مادتي نوربسيدو فيدرين والكاثين، المشابهتين في تأثيرهما للأمفيتامينات، كانت منظمة الصحة العالمية قد أدرجت نبتة القات في العام 1973، في قائمة المواد المخدرة، وذلك بعد أبحاث استمرّت ست سنوات، كما وصفت المنظمة النبتةَ بعقار ضارّ من الممكن أن يتسبب في حالة إدمان خفيف أو متوسط (أقل من الكحوليات والتبغ).
رغم عدم وجود إحصائية لعدد الأطفال العاملين في قطف أغصان القات "المبزغين"، فإنه بمقدور الملاحظ رؤية الآلاف في مزارع وأودية المحافظات التي تنتشر بها هذه النبتة، كمحافظات الضالع، وإب، والبيضاء، وعمران، وصنعاء، وغيرها. ومعظم هؤلاء الأطفال إن لم يكونوا كلهم، تركوا التعليم، ليس لأنّ مهنة القطف تتزامن مع أوقات حصصهم الدراسية في الصباح وحسب، بل لأنّهم صاروا مدمنين على تعاطي القات، ولأنّ كثيرًا من الأسر تعتمد عليهم في كسب المال من هذه المهنة.
تحمل مهنة "المبزغين" خطورة كبيرة على الأطفال، تبتدِئ بإصاباتهم بعدة أمراض تنفسية، وتمر بحرمانهم من التعليم واللعب والرفاهية، وتنتهي بجعلهم مدمنين على تعاطي القات، وعلى الرغم من كل هذا، لا نجد أولياء أمور ولا جهات متخصصة تحد أو تمنع من توسع هذه المهنة الضارّة في أوساط الطفولة المهدورة.