في روايته (الحقل المحترق) يجترح كاتبها (ريان الشيباني) أنموذجًا لافتًا للكتابة، فمنذ الوهلة الأولى يتجلى أنه بنى مشروعه الروائي على معطيات حقبة زمنية تاريخية محددة، متمثلة في العقود الأخيرة لانحسار وسقوط الدولة العثمانية، ونهاية تواجدها في اليمن، إلا أنه يتجنب الوثائقية التي لازمت عديدًا من الأعمال الروائية التاريخية، منحازًا إلى ذلك النوع من الكتابة الذي يحول الخزين التاريخي إلى كتابة إبداعية خلاقة، تجعل من المادة الروائية مدعاة لإعادة النظر في التاريخ واستنطاق نتائج وتفسيرات تأصيلية، وأسئلة وجودية حول منشأ الصراعات، ومغزاها الأبعد وطبيعة الاستبداد.
في البَدء، تنفتح الرواية على مشهد من حياة الوالي العثماني الأخير في اليمن –التي ترد باسم السعيدة- ومن ثَمّ يعيدنا الكاتب إلى سرد تفاصيل نشأته وماضيه وحياته في فرنسا ليشكل صورة واضحة لشخصية الوالي المحورية، والتي تمثل خليطًا ملتبسًا ومعقدًا ينم عن ازدواجية الهُوية، فهذا الكائن المأزوم والمهزوم في آن معًا، نتاجُ زمنه الذي شهد صراع حضارتين، فالإمبراطورية العثمانية تحتضر وتتراجع من واجهة الحياة السياسية لتفسح مكانًا للمنتصر، إنه تحول كبير، سياسي ثقافي واجتماعي وقيمي.
على نحو غير تقليدي تعتمد الرواية على إجرائية مثيرة للاهتمام، حيث يقابل القارئ تلاعبًا حاذقًا بالزمن وبالتقاليد الحكائية، فتقنية السرد تقوم على تبديل وتداخل الأزمنة، مثل أن يذكر الكاتب بعض الحوادث المستبقة، ومن ثَمّ يعود إلى الزمن الحاضر للشخصية، حتى إنه يتم كشف وقائع هامة في منتصف الحكي.
غير أنّ هذا الانتقال تخللَتْه سنواتٌ كثيرة من الحروب والانهيارات والدمار والفوضى؛ لذلك فبطل الرواية الذي ساقته أقداره ممثِّلًا لدولته المستعمِرة في أرض السعيدة، تتجاذبه نوازعه الذاتية المريضة واضطراب الهُوية جنسيًّا وثقافيًّا، ومثلما يسعى لإخفاء نزعته المثلية يكبت ميوله الثقافية وتفضيلاته للفنون كالموسيقى؛ لأن ذلك كفيل بأن يعتبر تنكرًا لثقافته الأم وشكلًا من ضعف الانتماء والغربنة والميوعة، غير أن التربية العسكرية والزي الرسمي لم ينجحا في التخفيف من طابعه الأنثوي والرخاوة التي جعلته محط سخرية أتباعه.
«ظلت أوقاته الباريسية التي قضاها بين قطع غيار الأسلحة تقض مضجعه، ضربًا من ذكرى لجحيم، لا يعرف لماذا كان يجب أن يصطلي به، في تلك الفترة كان قد لجأ إلى مقاربة ذاته بالممارسة المتخفية للمهن التي تستطيبها نزعته المدنية، عزف في العصاري الغسقية على مدخل ممر الفنون الذي يعبر نهر السين»(1).
في رحلة موسومة بالضياع منذ بداياتها الأولى، يقدم بطل الرواية إلى (السعيدة) محصنًا بالتعالي وازدراء أهل البلاد، مسكونًا بالجشع والنهم تجاه المال والنزوات، وقد نجح الراوي في توصيف جوانية الغازي المستلبة بعيدًا عن الاتكاء على السمات الخارجية فحسب، فالوعي بالقامع لا يتجزأ عن الوعي بحركة التاريخ.
بيدَ أن أول الرحلة لا يشبه آخرها، فالغازي المتأنق يشيخ قبل أوانه وتتقوض حياته باضمحلال دولته، وهي مفارقة بائنة، فالرجل الذي دخل السعيدة مستكبرًا مختالًا لم ينهزم في معركة عسكرية، بل يتآكله الإهمال والشيخوخة والعوز إلى أن يهلك على يد شريك الطغيان.
في (الحقل المحترق) يتجسد الحكام مخلوقات شائهة، فالملك الذي يحكم جزءًا من أراضي السعيدة هو أيضًا مسخ بشري قبيح روحًا وصورة، على قدر كبير من عمى البصيرة، مفرط في العنف والصلف مع الرعايا، تقوده شراهته للقتل وللأموال والنساء.
الطاغية الداخلي كما يتراءى لا يقل بشاعة وقبحًا عن المستعمِر، بل إنه أكثر قحة في فرض مشروعيته عبر ذرائع خرافية، واستدعاء توليفات عقائدية استخدمت كوسيلة إكراه وإقناع للعامة، لإشباع أطماعه، وعلى غرار هذا الحاكم يسود في السعيدة نثار من الطغاة تحكمهم شهوة المال والسلطة، ويدير كلٌّ منهم جزءًا منها.
إنّ (السعيدة) تكاد تكون الحامل الفعلي المضمر لكل الحوادث والشخوص، حتى وإن برزوا إلى واجهة الرواية، لكن القص ينبني على هذا الحيز الدلالي.
يطرح الراوي سيرة الأرض وتغول الطغيان وانحطاط الغازي دون مغالاة أو خطابية، فالفعل الروائي جنح إلى التقاط الحكاية من زاوية جذابة متمثلة في متابعة رحلة المحتل العثماني منذ البَدء حتى الختام، ومن خلال الخيط الدرامي الواحد تبلورت بقية الحكاية.
ثمة تقاطع وأوجه شبه بين الطاغية الداخلي ومثيله الأجنبي، فكلاهما مسخ بشري، رجولة منقوصة تقابلها رجولة مشوهة، لا يتمايزان ولا أفضلية لأيٍّ منهما، يفتقران إلى كافة القيم الروحية والخُلقية، لا يؤمنان بشيء ولا يثقان بأحد، عقيدتهما المال والغرائز، لكنهما ينجحان في فرض النفوذ وإخضاع الرعايا بفضل القمع وأدوات الفتك، ويحدث أن يتحالفا ويتبادلا الخبرة عندما يستدعي الأمر الإيغال في الأذى والاضطهاد وفي تقاسم أموال الجبايات والضرائب وتنظيم آليات النهب للاستحواذ على أكبر قدر من ثروات الأرض التي أفقروها، وغالبًا ذاك يقبل بضحالة الملك وتخلفه ورثاثته وبدائية حاجاته وانغلاقه، والآخر يتغاضى عن تعالي الغريب وغرائبية تقاليده القادمة من عالم بعيد.
في تضاعيف الرواية، لا توجد بطولات شعبية أو حضور بارز لشخوص فاعلين باستثناء (دهرة الحلبة) المرأة التي تقود تمردًا للفلاحين انتصافًا للحقل المحترق، فالفضاء الشعبي يستحيل هامشًا، جموع من الحفاة الجوعى المؤمنين بمقولات دينية تلزمهم بطاعة ولي الأمر، تضاعف أدواتُ التنكيل والإفقار من انكفائهم، يحجمون عن مجابهة جلاديهم مخافة المزيد من التنكيل، هذا حال أهل السعيدة. يصف الراوي تجمهر العامة لاستقبال الوالي الجديد: «صفوف المداحين بالدفوف التي تصدر جلودها نتانة مقبضة، طلاب العلم أنبياء المستقبل يركضون حفاة بأكياس الخبز وألواح درسهم، وقد أرسلهم الفقهاء العميان للتبرك بالوالي، وهناك ثمة نسوة شاردات مسدلات على رؤوسهن أوشحة مأتمية، ويستدللن على طرقهن بالبداهة نفسها التي قررت بها التقاليد أنهن عمياوات»(2).
وكما هو واضح، عمد الحكام إلى تقسيم الرعايا إلى جنود وفلاحين، مسلطين بعض الشعب على بعضه، ووسط حياة تنضح بالشح الشديد والمجاعات وسيادة الخرافة، أوصلت السعيدة إلى أدنى درك من السقوط، لم يبقَ لهذا البلد سوى أن ينتقم أهله من أهله.
إن رواية (الحقل المحترق) تتقصد المزاج السوداوي والمرارة، وتخلع على التاريخ حزنًا كثيفًا، وتحكي عن القتل المعمم والاستبداد وفداحة الظلم وتناسل الخراب وتراجيديا المصائر والنفوس المشوهة لشخوص يسكنهم دنس مقيم.
على نحو غير تقليدي، تعتمد الرواية على إجرائية مثيرة للاهتمام، حيث يقابل القارئ تلاعبًا حاذقًا بالزمن وبالتقاليد الحكائية، فتقنية السرد تقوم على تبديل وتداخل الأزمنة، مثل أن يذكر الكاتب بعض الحوادث المستبقة ومن ثَمّ يعود إلى الزمن الحاضر للشخصية حتى إنه يتم كشف وقائع هامة في منتصف الحكي، مثل مصائر الأشخاص المحوريين، لكن تداخل الأنساق الزمنية لا يفسد متعة القارئ في المتابعة ولا يخل بتماسك البنية الروائية، أو التنامي السردي، بل إنه يمنح الفضاء السردي مداه الكامل في تحرير القص من تراتبية الأحداث وكسر أنطقة التوقع، فقصدية الكاتب تكمن في خوض مغامرة محسوبة وتجنب الركون على فجائية الوقائع، والتماس المتعة في تأمل التحولات والحكايا الصغيرة التي ينثرها في مفاصل الرواية، وكذلك التقاط الثراء الدلالي للحالة التاريخية ذاتها، ولعل ذلك من أبرز مميزات العمل، فاستغلال خصيصة مرونة البناء السردي كان متحققًا في كل طيات الرواية بصورة مدهشة.
في رواية (ريان الشيباني) لا تتخلى اللغة عن فتنتها، فهو يتعامل مع اللغة كمفهوم متحرك ومتجدد، ويُؤْثِر استثمار الطاقة السحرية للكلمات ومعانيها الخفية المضمرة، لينجز في النهاية نصًّا خلّاقًا على كافة الصعد.
الهوامش:
1 * ريان الشيباني، الحقل المحترق، دار خطوط وظلال، عمان - الأردن، 2021، ص 20.
2 * المصدر نفسه، ص 76.