في الحادي والعشرين من أغسطس/ آب الجاري 2022، أعلنت وزارة التربية والتعليم في حكومة صنعاء التابعة لأنصار الله (الحوثيين) نتيجة اختبارات الثانوية العامة للعام الدراسي 2021/2022، بنسبة نجاح بلغت 86.91%. لم يكن نهارًا عاديًّا بالنسبة للطالبة الكفيفة أماني صادق شداد، بل يومًا استثنائيًّا كانت تنتظر قدومه طيلة أشهر مضت.
الطالبة المثابرة زُفّ إليها بشرى مختلفة؛ في تحقق أمنية أولى من سلسلة أمانيّ كبيرة تسعى لتحقيقها في مسيرتها التعليمية. لقد وقفت اليوم بكل استحقاق في مقدمة صفوف التتويج العلمي، بتحقيقها المرتبة الأولى في قائمة أوائل القسم الأدبي في الثانوية العامة.
ملهمة أولى
تقول أماني لـ"خيوط"، التي شاركتها فرحتها الغامرة بتحقيقها الإنجاز الذي صنعته بمثابرتها وجِدّها، والأهم بتحديها الكبير للإعاقة، إنها ولدت شبه فاقدة للبصر وشاءت لها الأقدار أن تحجز مكانها إلى جانب أختها الكبرى "منى"، التي سبقتها في مشوار المعاناة مع الحياة بذات الداء، غير أنّ الأقدار ذاتها كانت ترتب لهن خارطة طريق منيرة أضاءت جنبات حياتهن ليرسمن لأنفسهن مسار حياة ثابت، وهن ينشدن الوصول لتحقيق أمانيهن وما يطمحن إليه.
كانت "منى" هي الملهم الأول لأماني، ومثّل حصول منى على الترتيب الأول على مستوى الجمهورية في القسم الأدبي في العام 2016/2017، حافزًا ودافعًا كبيرًا لتمضي قُدمًا على ذات الطريق الذي اختطته أختها الكفيفة في دروب العلم.
تتابع أماني بالإشارة إلى أنها لم تنظر لنفسها يومًا كفتاة من "ذوي الاحتياجات الخاصة"، رغم فقدانها لضوء عينيها، والذي كان يختفي تدريجيًّا منذ طفولتها الأولى لتجد نفسها في عالم جديد من العتمة، تلك العتمة التي داهمت مقلتيها، وذلك النور الذي تسرّب في غمضة عين كان له أن يهبط في شغاف قلبها الصغير ليمنحها الضياء والنور.
الطريق إلى النور
من بلدتها الريفية الواقعة في الحيمة الخارجية (غرب صنعاء)، كانت انطلاقة "أماني" رفقة أختها "منى" وأسرتهن الصغيرة للاستقرار في صنعاء، ذلك أنّ والدهن كان قد اتخذ قرار مغادرة قريته الريفية حين أدرك بأنّ طفلتيه الكفيفتين بحاجة ماسة للكثير من الرعاية والاهتمام الخاص والذي لن يجده في منطقته الريفية.
في صنعاء، كانت جمعية الأمان لرعاية الكفيفات هي وجهتهن الأولى فور استقرارهن فيها، وهناك وجدن الأمان والرعاية والاهتمام، وكانت فاطمة العاقل -أمّ الكفيفات اليمنيات كما تلقب- هي اليد الحانية والقلب الكبير الذي أبوابه مشرعة على الدوام لكلّ من فقدت بصرها.
سريعًا التحقت "أماني" بالمحطة التعليمية الأولى في حياتها لدى جمعية الأمان لرعاية الكفيفات، وخلال عامين فقط كان قلب الطفلة الصغيرة ينهل الكثير من المعارف البسيطة، حينها كانت تضع اللبنة الأولى لأساس تعليمي متين، لتنتقل بعدها للدراسة النظامية في معهد "فضل الحلالي"، والذي أمضت فيه خمس سنوات دراسية منذ التحاقها بالصف الأول وحتى الصف الخامس الأساسي.
تؤكّد أماني أنّ النظام الدراسي في المعهد لا يختلف عن المعمول به في المدارس العامة، من حيث نوعية المقررات الدراسية، والاختلاف فقط في طريقة التعلم للكفيفات، حيث لهن نظام تعليمي خاص يتمثل باستخدام طريقة "برايل" والتي تتكون من ستة خلايا، وكل حرف له شكل وتختلف الحروف على حسب الخلايا.
لا تؤمن "أماني" بالنظرة القاصرة تجاه الشخص الكفيف من "ذوي الاحتياجات الخاصة" على وجه خاص بقدر ما تؤمن وبيقين كبير أنّ الشخص الكفيف ليس طاقة معطلة، وليس شخصًا فاقد القدرات أو عالة على غيره يستحق الشفقة.
تتذكر أنّها تعلمت طريقة "برايل" بكل سهولة ويسر منذ الصف الدراسي الأول، وكانت متفوقة في التعلم بهذه الطريقة وتتلقى إشادات وتعليمات من معلماتها اللواتي هن خليط من مبصرات وكفيفات، تغمرها السعادة وهي تسترجع ذكرياتها الاستثنائية المطرزة بالتميز والتفرد منذ بداية تكوينها المدرسي، وهو ما قادها لتكون دائمًا رئيسة الفصل الذي تلتحق به.
بعد إنهائها سنتها الدراسية الخامسة بتفوق كبير، انتقلت أماني لخوض تجربة جديدة في مشوار حياتها التعليمي، الانتقال صوب محطة تعليمية جديدة، وَفقَ نظام خاص يعتمد دمج الكفيفات في مدارس التعليم العام.
اندماج سلس
تتذكر أماني أنّها حظيَت باهتمام خاص عند انتقالها للدراسة في مدرسة "مؤتة" في صنعاء، حيث كان جلوسها في المقعد الأول بالقرب من (السبورة) ليسهل عليها الاستماع إلى شرح المعلمات؛ هكذا كانت تخوض تجربتها الجديدة بعزم وثبات، ما جعلها تشارك وتتفاعل مع معلماتها وزميلاتها بكل ثقة وجدارة، والاستمرار بعد ذلك في التقدم بثبات وإيمان للمُضيّ قُدُمًا نحو تحقيق أهدافها وصوب مستقبلها الذي رسمته بأمانيّ عريضة.
تتحدث أماني أنّ عملية الدمج في النظام التعليمي الحكومي تمت بسلاسة، ولم يكن ثمة عوائق أمام الكفيفات، حيث كانت جمعية الأمان تقوم بتزويدهن بالكتب الدراسية، وخلال أيام الاختبارات يتم تخصيص "كاتبة" تتولى كتابة أجوبة الطالبة الكفيفة، بحسب ما تمليه عليها.
سريعًا، غادرت أماني مدرسة مؤتة، والتي مكثت فيها مدة عام دراسي واحد، لتلتحق بعدها بالدراسة في مدرسة القدس من الصف السابع الأساسي، وفي مدرستها الجديدة أمضت أماني سنواتها الدراسية الست، والتي تُوِّجت بحصولها على المرتبة الأولى بين أوائل الجمهورية في القسم الأدبي.
الكفيف ليس طاقة معطلة
لم تكن مدرسة القدس محطة تعليمية عادية في مشوارها التعليمي بل مرحلة فارقة في مشوارها التعليمي، بسبب كفاءة المدرسة الجديدة التي التحقت بها، كما تؤكّد أماني، وقدرات كادرها التدريسي، إذ حظيت بمكانة خاصة لدى إدارة المدرسة ومعلماتها، وبمعاملة استثنائية، نظير تميزها العلمي في دراستها، ما جعلها محطّ فخر المدرسة واهتمام المعلمين والذين يسارعون بالدفع بها لتكون في المقدمة في أي سباق تعليمي بين مدارس العاصمة، وجاءت مشاركتها الأخيرة في سنتها الأخيرة في مدرسة القدس لتكون على رأس الفريق الذي مثّل المدرسة في المسابقة المنهجية بين مدارس العاصمة صنعاء.
لا تؤمن "أماني" بالنظرة القاصرة تجاه الشخص الكفيف من "ذوي الاحتياجات الخاصة"، على وجه خاص بقدر ما تؤمن وبيقين كبير، أنّ الشخص الكفيف ليس طاقة معطلة، وليس شخصًا فاقد القدرات أو عالة على غيره يستحق الشفقة، وترى أنّ الكفيف يمتلك القدرة الكاملة في الاعتماد على نفسه، ولديه ما يؤهله لإثبات ذاته كما ينبغي، وأنّ بإمكانه المشاركة في أية أعمال تناسب وضعه، شأنه شأن بقية الأشخاص الأصحاء.
تقول أماني، إنّها تعيش حياة طبيعية في إطار أسرتها، وتقوم بمساعدة والدتها بحدود الإمكان، وتشيد بالدور الكبير لوالديها، اللذَين وفّروا لها ولأختها منى الوقت والهدوء والتشجيع.
ثقة عالية وقدرة على التمييز
تعلل أماني أنّ فقدان حاسة النظر يقابله زيادة فائقة في حاسة اللمس والشمّ إلى جانب السمع والإدراك، إذ تتحدث بسعادة بالغة عن قدراتها وإدراكها في تمييز الأشياء ونوعية السلعة من لونها وجودتها وشكلها؛ ذلك أنّ لها طريقة خاصة في إدراك ذلك، تعتمد على الملمس الخارجي، وتفحص حجمها، وسؤال البائع عن لونها. وتشرح عن قيامها بعملية التسوق صحبة والدتها، وكيف أنّ ذوقهن هي وشقيقتها الكفيفة يكون أفضل من "المبصرين"، وكيف انعكس هذا الأمر على ثقتهن العالية بأنفسهن واعتمادهن على ذواتهن.
في جعبة "أماني"، الكثيرُ من الأحلام وهي تخطو اليوم بثقة واقتدار صوب هدفها الواضح في أن تحقق طموحها وحلمها في الحياة وتكون فخرًا لوطنها وأسرتها؛ هكذا تلخص ما يختلج في قلبها الصغير اليوم والفرحة تغمرها من كل جانب.
الهدف الكبير
لها اليوم هدف مرحلي وتسعى لتحقيقه في القريب، وقبل أن تبدأ مشوار رحلتها الجامعية، وهو تعلم اللغة الإنجليزية والحصول على الرخصة الدولية للحاسوب، لتستطيع المضيّ قُدُمًا نحو التأهيل العالي والدراسات المتقدمة.
تفصح أماني عن رغبها في دراسة إدارة المشاريع أو القانون الدولي، وتعزو ذلك إلى إحساسها الكبير بأنّ هذين التخصصين قريبين منها، ومن قدراتها وقد اطلعت وأخذت لمحة عنهما بعد اختبارات الثانوية العامة.
وعن مشوارها الجامعي القادم، تقول أماني إنّ الأمر سيختلف نوعًا ما على الطالبة الكفيفة؛ ذلك أنه لم يعد بالإمكان استخدام طريقة "برايل"، ولا يتوفر المنهج بهذه الطريقة في الجامعة، وأنّ لكلّ أستاذ جامعي مقرره الخاص، ولتجاوز هذه المشكلة توضح أنها ستعتمد على استخدام "آلة بركينز"، والمكونة من ست خلايا، وعن طريقها ستتمكن من كتابة الحروف والفواصل، فالكتابة بهذه الوسيلة تكون أسرع وأسهل.