بثلاثةٍ وأربعين عنوانًا وإهداءٍ وحيد، جاء الديوان الأول للشاعر أوراس الأرياني "جلوسًا على العين أو وقوفًا" الصادر عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة في القاهرة، ونشر في بداية هذا العام يناير 2023.
وُلد أوراس الأرياني في مدينة عدن عام 1983، لأم تنتمي لإحدى الأسر المعروفة في مدينة عدن (أسرة حريري)، ولأب من أسرة ذات درجة مرتفعة في سلّمها الاجتماعي والسياسي (بيت الإرياني) في محافظة إب.
عاش أوراس الإرياني طفولته في مدينة عدن، وتعلم في مدارسها حتى عام 2003، حيث انتقل إلى مدينة صنعاء، والتحق بقسم الفلسفة في جامعة المدينة، لكنه لم يكمل دراسته فيها.
أصيب أوراس الأرياني بحمولة الوعي مبكرًا؛ جراء رؤيته لأمه تحترق أمامه وهو طفل، وكذلك عاش عددًا من السنوات حياة تشبه حياة التشرد؛ كل هذا الألم جعله يلجأ إلى الشعر كعزاء وحيد له في هذا العالم يمكّنه من البقاء والاستمرار في الحياة، وكذلك كحلم باستعادة براءة الطفولة؛ ذلك لأنّ الشعر هو فن براءة اللغة، فما حال أي كتابة إن لم تكن شعرًا؟ وما حال اليوم إن لم تكن قصيدة؟
بدأ أوراس يكتب لحظاته أيًّا كانت تعيسة أو سعيدة، مهمة كانت أو غير مهمة، بلغة الحال (اللغة اليومية)؛ وهي لغة صادقة، فبها تَمكَّنَ من مصادقة شوارع مدينة صنعاء، وبها واجهَ فضاء ثقافيًّا لمدينةٍ، لا يهتم بترهات الحياة.
نثر أوراس قارئًا بحميمية لحظاته الشعرية على الأصدقاء أولًا، وبذكاء تلقف ردة الفعل، ليبدأ عام 2007 بنشر بعض قصائده على صفحات الأدب والشعر في الصحف الأسبوعية اليمنية.
ومع هذا لم يذهب أوراس لاتحاد الأدباء والكتاب كي يأخذ صك اعتراف أو عضوية؛ بل بقيَ كما هو "صعلوكًا" وغريبًا في وسط ثقافي ومؤسسات ثقافية ذات طابع سياسي في الغالب.
يأتي ديوان أوراس الإرياني "جلوسًا على العين أو وقوفًا" من بين عدد من الكتابات الأدبية اليمنية الشعرية والروائية والسردية التي صدرت من بعد 2011 ( بعد ما يسمى بالربيع العربي في اليمن)؛ ومن بعد حرب أعلنت رسميًّا في اليمن عام 2015.
وما يلفت الانتباه لهذه الإصدارات، أن معظمها هي الأولى لأصحابها، ومن غير الوسط الأدبي المتعارف عليه، وموقعة بتوقيع شبان وشابات كتبوا ما كتبوا تعبيرًا عن حالة متمردة حتى وإن كانت كتابة خاصة بجيل ما بعد الوحدة، فهي تعبر عن وضع وحال متحول، إنها "كتابة أدب متحول" تبدل منظوم إنتاجه.
ما يميز كتابة أوراس الأدبية أنّها امتداد إبداعي للكتابة الإبداعية المتمردة؛ التي بدأت مع بداية الألفية الثانية (2000) في اليمن؛ في أساليب الكتابة الصحفية والأدبية والشعرية، حيث أتت دفعة واحدة لا لتعبِّر عن أزمة، بل متجاوزة أزمة؛ سواء كانت أزمة سياسية أو ثقافية، فهذه الكتابات المتعددة، والتي بدت مختلفة وجديدة، لم تحظَ بمواكبة نقد موازٍ لإبداعها من قبل النقاد كي يجري بلورة إبداع كتابة وشيجة بنفسها وذاتها؛ مما أدى في النهاية بالكتّاب والنقّاد إلى أن يتحالفوا مع الساسة في 2011، فأهمية هذا الحدث الأخير من الثورة 2011، غير المقروء، ليس بإسقاط نظام بل بتجاوز أزمة منظومة نظام.
لست ناقدًا أدبيًّا كي أكتب في شعرية ديوان "جلوسًا أو وقوفًا على العين" أو أطلق حكمًا أو تصنيفًا لأي شعر تنتمي قصائد الديوان، ومع ذلك قرأت الديوان كأيّ قارئ عادي لديه قليل من ثقافة الشعر والأدب، يقرأ ما يعجبه وما يدهشه فقط؛ فالقارئ لا يقرأ ولا يتوقف إلا أمام ما يَعْبره أو يخترقه.
ولأني من أصدقاء أوراس، فقد قرأت قصائد الديوان بتلك المحبة التي دومًا تسبق الصداقة، فجاءت القراءة مُعلِّقة بما يوازي كتابة النص.
ما يميز الكتابة الشعرية في ديوان "جلوسًا على العين أو وقوفًا" أن قصيدته "قصيدة اللحظة"، أي: حال لحظة متجاوزة، حتى وإن كانت حالة خاصة بالشاعر فهي لحظة حال عابرة أزمة وحرب أقرب إلى القتل منها إلى الحرب؛ لذلك تتناوب اللحظات في الديوان وتدور، بأسلوب حكي شائع أقرب إلى لغة يومية متوجسة.
"طالت مكالمة صديقي
مثل حرب
أحببت فيها الانتظار،
والصمت".
ولكن، لِمَ التوجس من هذه الحرب؟
ربما هذه الحرب مقدمة "للكائن الفارغ" أو حسب تعبير الكاتب الروماني سيوران "الكائن الأضحوكة"؛ أي "إنسان المستقبل"؛ حيث الإنسان وتاريخه في نهاية المطاف يغدو أخيرًا مجرد أضحوكة.
ومع ذلك هذه الحرب -حسب الشاعر- معقودة بِعَقدِ ضغينة يجمع الجميع، بمن فيهم "الكتّاب الفارغون".
"في هذه الحرب،
لدينا كتّاب فارغون يتمادحون ليل نهار،
وكل واحد يحمل للآخر الكثير من الضغينة والكره، تستطيع رؤيته
كما تستطيع أن تشمه أيضًا
في علامات الترقيم!".
تبدو هذه الحرب مشبوهة ليس في علامة ترقيم كتّابها الفارغين، بل أيضًا في فضاء إعلامها المؤدي إلى قتل أصابع الكتابة.
"مللت القراءة عن الحرب
وأخبارها... حتى الكتابة عنها
قتلت أصابعي".
وكي يواجه الشاعر هذه الحرب يصبح مسيحًا دون صليب. ولكن، مسيح من؟
- مسيح الموتى:
"بضحكاتِ أصدقاء فارقوا الحياة
سحبت منديلًا
من قلبي
ومسحت دموعهم!".
يطلب مسيح الموتى (الشاعر) –وإن بدا طلبًا سالبًا- من أصدقائه الضحكَ والفرح.
"اضحك يا صديقي
الحرب أنهكتنا...
اليمن متحدة بالوجع فقط.
لدي معلومة عن الكلاب، أنها حين تهز ذيلها
تكون فرحانة".
لحظات عالقة
"ما إن أنهيت قراءة مجموعة أوراس حتى صَمَتّ"؛ هذه الجملة الأولى العالقة والتي كتبتها من خلال القراءة الأولى لنص الديوان.
يتكرر لفظ الطفل والحزن مرات عدة في نصوص المجموعة؛ حيث تتسلل لحظة الطفل إلى الذاكرة لا لتمنع تدفق حزن، بل لتجعله يتدفق دون ضجيج؛ حيث يتكلم الحزن كما يتكلم طفل؛ يسكن الكلمات دون حراك.
"جلوسًا على العين أو وقوفًا": الحزن أبدي، ومسكن طفل يتأمل ولا يفعل شيئًا؛ فقط يرى لعنة وجوده، كي يحيا ويعيش بهدوء.
"اهدأ يا قلبي
إنها قصيدة طويلة
وأنا رجل
قصير ولدي ما يكفي
من الأحزان لأقول لك:
اصمت".
ما ترميه لحظات الشاعر لتقوله لنا، قليل من الاهتمام بالعالم أو بالأصح قليل من اللعب مع العالم، حتى يُبَاغت المرء بحب ساكن.
تَنْعشنا ذكريات الطفولة؛ حيث نبتغي أن نختفي ونغيب.
"جدتي... كانت تنام وتحت وسادتها سكين"؛ مفارقة، هكذا كانت الجدات يطردن الكوابيس من أحلامهن.
"البحر وسادة تحت رأسي"، حيث تطفو أطياف الضياع وننام أخيرًا.
التاريخ لا يكرر سوى المقبرة، وما يتبقَّى من ذاكرة حرب؛ طفل يجهل الحرب، لكنه يعرف مدلولها: إنها قبر.
"الطفل لا يعرف ما هي الحرب، لكنه سيدلك على قبر أبيه".
"قبر
قبران
ثلاثة
مقبرة".
كذلك القبر هو الشاهد الوحيد على هوية وحيدة للشاعر دون نزاع.
"قبر أمي
في جنوب الوطن،
وقبر أبي في شمال الوطن،
آه.. كم أشعر بالوحدة!".
يَقْرَأ أوراس اليوم كامتداد داخل الزمن من خلال عين تقرأ حال، لا عين ترصد أو تخبر، فيكتب اللحظة المنفلتة من عقل الزمن؛ فاللحظة القارئة تأمل قصير، وسيان عندها وضعية القراءة جلوسًا أو وقوفًا.
كل قصيدة من قصائد الديوان هي لحظة مجنونة. ولهذا ينفذ الشعر مباشرة إلى داخل الدماغ: من يقرأ الشعر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) كل الجمل التي بين الأقواس (علامة التنصيص)، مقتطفة أو مقتبسة من نصوص مجموعة الشاعر.