تعيش لغتنا العربية واقعًا معاصرًا وذاكرة، وبينهما تتجلى معادلة امتدادنا التاريخي والحضاري في الماضي، كما تتجلى الفاعلية التواصلية والديمومة في الحاضر. ما تزال هذه اللغة هي الخطاب اليومي الحي لمئات الملايين من الناطقين بها، وتستهوي كثرة كثيرة من غير الناطقين بها من الأمم الأخرى. أما في الماضي فإنها قد مثلت سجلّنا التاريخي ومدونتنا الحضارية عبر الحقب المتعاقبة، فكانت هي اللسان العربي المبين، مثلما كانت لغة الفلسفة والعلوم ولغة الأدب منذ نشأته الأولى وحتى الآن!
نحن أحوج ما نكون إلى تعلم لغتنا، وفي المقابل إلى السعي ما أمكن في تعلم لغة الآخر، وحين تكون هذه الأخيرة هي مجال اهتمامنا، فإنه لا بد أن يؤسس هذا الاهتمام على فهم اللغة الأم والإلمام بها. تعلم اللغة العربية والاهتمام بها ينبغي أن يقوم على السؤال عما يحيط بها من إشكالات، وما يكتنفها من عثرات تعيقها عن التقدم والمواكبة للعصر وتطوره لا النظر إليها من زاوية الكمال والمثالية والتغني بمجدها السالف وشأوها التليد ثم التوقف وتسمير خطانا ورؤانا عند هذا الحد، وإنما باستقصاء مواطن القصور والتواصل مع الآخر في الشأن اللغوي العلمي والتخاطبي.
تواجه كل لغة -مهما كانت- صعوبات جمة، وهي بحاجة إلى البحث المتجرد والتعلم الخلاق الذي يقيل كبواتها ويمنح خطابها البعد المعرفي والقيمي والإنساني، ويفتح أفقها باتجاه التفاعل والتواصل مع لغات الأمم وآدابها. نحن نتعلم اللغة العربية لنجيد التحدث بخطابها كما يجب، ونبحث في نقاط قوتها وضعفها معًا لنجد سبل النهوض المعرفي لعلومها والاتساع في الفهم وفي وجهات النظر حولها، حتى تحقق أهدافها في التقدم والمواكبة.
نعم، لا تكفي النظرة المثالية للغة العرب، لكن ذلك لا يعني إغماط قدرها، ولا الغض من شأنها، فهي محيط من الأسرار وكنز من البدائع، وهو ما يطابق ويمثل أوصافها لدى عشاقها ومتعشقيها من أرباب اللسان والبيان، كهذا الوصف في قول شاعر النيل حافظ إبراهيم معبِّرًا بلسان اللغة ذاتها:
أَنَا البَحْرُ فِي أَحشَائِهِ الدُّرُّ كَامِنٌ *** فَهَل سَأَلُوا الغَوَّاصَ عَن صَدَفَاتِي
إذن فلا بد من الغوص للبحث والسؤال عن كل ما يكتنف تلك اللغة من أسرار، وهنا لا يظن ظانٌّ أن القصد بالأسرار مجرد بعث بدائع جاهزة سلفت وانقضت مخبوءة وساكنة بين أعطاف اللغة، كما تخفى الكنوز في باطن الأرض، وإنما باكتشاف ما للغة -قاعدةً وخطابًا- من طاقات ممكنة للتحول مع متغيرات عصرنا وتحولاته، ومن قدرات خلاقة في مجاراة لغات العالَمِين في استيعاب ما يستجد ويطرأ من مفاهيم ونظم ومن مسارات تطور صناعي وتكنولوجي راهن.
إن العناء في فتح الأصداف التي أشار إليها شاعر النيل أعلاه، والكشف عما في جوفها من درّ كامن، إنما هو في إطلاق الطاقات الخلاقة للغة، لا في تكرار التعريف بالأنساق الساكنة لها، من معجم وقاعدة ثابتة ودرس محدود؛ فذلك من الأوليات الأساس التي يسهل معرفتها دون حاجة إلى عناء الغوص في قاع المحيط.
النهوض الحق باللغة العربية يكمن في البحث عما هو جديد في خطابها، وعما يمكن أن تخلقه تلك الجدة على مستوى اللسان والسياق من أنساق تحول في المجال المعرفي للغة، بحيث يسهم في خلق إضافي جديد في مجال المعجم وقاعدة التخاطب والمقاصد، وهو تجديد نجد صداه ومعناه في قول شاعر، كالمتنبي:
أَنَامُ مِلءَ جُفُونِي عَن شَوَارِدِهَا *** ويسْهرُ الخلقُ جَرَّاهَا وَيَختَصِمُ
اللغات عمومًا كالكائنات الحية، وهي تخضع في تطورها للظروف الموضوعية الاجتماعية والثقافية والتأريخية والتفاعلية للأمة الناطقة بها، وعن ذلك تكون النتيجة لصالح اللغة المعنية أو ضد ديمومتها وتطورها، وهو ما نراه بدهيًّا وماثلًا للعيان في تأريخ اللغات الإنسانية، فقد ازدهرت لغات وسادت، وفي المقابل ماتت لغات أخرى وبادت.
ولأن اللغة أشبه بكائن حي، فقد جرى تقسيم اللغات وفقًا لتقسيم فصائل النوع في الكائنات الحية، وكان للغتنا مكانها المعلوم بين اللغات السامية، كما كان لها فيما مضى حظ لا بأس به في الحياة، ثم بالتطور والازدهار -وذلك حدث بفضل عوامل دينية وسياسية واجتماعية وثقافية- كان لها عظيم الأثر في إكساب لغتنا الديمومة والبقاء.
أصبحت العربية لغة رقمية محوسبة، وهو ما يعني قابليتها الذاتية المرنة -كأي لغة- لاستيعاب متغيرات العصر ومواكبة قفزاته الهائلة في مجال التقنية والذكاء الاصطناعي، ومن ثم أصبح من اللازم توسيع مجال البحث العلمي في اللغة وآدابها في هذا الاتجاه
وفي مقام هذا العصر لنا أن نتساءل: هل ثمة من هوة بين لغتنا العربية وبين الحاضر، وإن كانت فهل هي أزمة لغة أم أزمة إنسان وأمة ووعي وتقنية؟ وقبل أن نستعرض الجواب -نقاشًا لا حكمًا قطعيًّا- فإنه لا بد من تشخيص تقييم أحكام الراهن عن واقع حال اللغة؛ أي وجهات النظر الحالية حولها. ويمكن تقسيمها إلى الاتجاهات الآتية:
-الاتجاه الأول: ينظر إلى لغته بمثالية، ويحيطها بهالة قداسة؛ انطلاقًا من دوافع قومية وروحية دينية، فهي لغة مصطفاة لا تشوبها شائبة، كونها لغة النص القرآني والنبوي، ولارتباطها بالهُوية الحضارية للأمة العربية بإرثها المعرفي والثقافي والمجتمعي. ويغلب على هؤلاء اعتماد الأدلة النصية النقلية، كما ينزعون إلى الاصطفاء والاختيار انسجامًا مع توجه أصولي يؤمن بنسق الاصطفاء على مستوى القوم والدين.
-بينما الاتجاه الثاني يميل إلى النظر بعين العلم ومعايير البحث فيه، فيربط بين اللغة والشرط الموضوعي لمتغيرات الظاهرة اللغوية في مساراتها المختلفة، ويشمل ذلك الإمكانات الذاتية الخاصة باللغة ذاتها، كما يشمل الإنسان والأمة الناطقة ومستوى الوعي العلمي وما يشهده عصرنا الحالي من زخم صناعي تقني إلكتروني، ولا يستبعد هؤلاء افتراضات أزمة اللغة وكبوتها، وفي المقابل يؤكدون إمكانية الحلول والمعالجة، لما قد يشكل في اللغة ويعيق حركتها.
-الاتجاه الثالث: يمثله خطاب هجومي على اللغة وتنديد بها أصلًا وقاعدةً وخطابًا، كما قد يشمل هذا التوجه الهجومي هوية الإنسان الناطق بالعربية وإرثه الحضاري العلمي واللغوي والأدبي، ويمثل هذا الاتجاه -للأسف- لفيف كبير من الناطقين بالعربية أنفسهم كلغة أمّ تحت دعاوى مختلفة؛ إما الانتصار للعصر وللتحديث أو مشايعة الآخر المضاغن لسبب ما، وقد يغلب على نظرة هؤلاء الجهل باللغة وبعلومها، ولا تخلو أحكامهم عليها من السذاجة والسطحية؛ أما الآخر الذي يقف خارج اللغة فثمة دوائر أيضًا ومراكز قوى يُصدر عنها الأحكام ذاتها؛ إما انطلاقًا من مواقف سجالية صراعية تشمل الهوية بمكوناتها كافة لا باللغة وحدها، وإما بدوافع عنصرية ضيقة.
نحن أمة من بين أمم كثيرة، نتشاطر العيش على هذا الكوكب كما نتشاطر التواصل مع غيرنا، ونتبادل الحوار والفهم، ومادامت اللغات هي جسور التواصل بيننا وبين الآخر المؤتلف والمختلف معنا، فلا غرو -بل ومن الضرورة بمكان- أن تكون لغتنا هي حلقة الوصل المبينة والخلاقة لتواصل إنساني ثقافي ومعرفي وأدبي وقيمي بيننا وبين الآخرين. قد يكون لكبوة الإنسان العربي ولهزيمته المادية والرمزية الراهنة تأثير سلبي، لكن ذلك لا يعيبه في لغته ولا يجعلها عرضة لتقييم سجالي مبطن بصراعات حضارية وسياسية تدور ومحورها ووقودها هو نحن.
أصبحت العربية لغة رقمية محوسبة، وهو ما يعني قابليتها الذاتية المرنة -كأي لغة- لاستيعاب متغيرات العصر ومواكبة قفزاته الهائلة في مجال التقنية والذكاء الاصطناعي، ومن ثم أصبح من اللازم توسيع مجال البحث العلمي في اللغة وآدابها في هذا الاتجاه، وربط مخرجاته بحقول معرفية أخرى كعلم النفس المعرفي والحاسوب والبرمجة الإلكترونية.
لا يعيب لغتنا عجز مجامعها المتخصصة عن إيجاد تسمية مناسبة لجهاز ما أنتجه عصر التقنية، بل يعيبنا نحن أننا عجزنا عن السبق في صناعة ذلك الجهاز؛ فمن يلد الشيء ويبتكره هو الأدرى بأسراره والأقدر على تسميته كما يجب، وليس ذلك -في نظري- هو أُسّ المشكلة في اللغة بقدر ما هو نتاج لكبوة في العقل المعرفي للمتحدثين بها، فحين أنتج العقل العربي علوم المنطق والفلسفة والطب والفلك، كانت لغته هي القالب الذي استوعب كل ذلك.
نحن من يجب أن نتغير إلى الأفضل، وفي حال حدث ذلك، سنجد لغتنا أداة طيعة لاستيعاب ذلك التغيير، وحين يلامس التغيير بنية الوعي فينا، سيتغير خطابنا عن الذات والآخر وسنمتلك القدرة على الفهم والإقناع والتعبير بلغة العصر لا التغريد خارج العصر!