تطالعك تقارير المنظّمات الدولية، تحذّر من ظهور سلالات جديدة من البكتيريا تقاوم أدوية المضادات الحيوية، وتصفها بأنها من أكبر المخاطر التي تحيق بالصحة العالمية والتنمية، وأنها مشكلة آخذة في الارتفاع إلى مستويات خطيرة في العالم. تقرأ التحذيرات فيصيبك الذعر، تحاول استرجاع معلوماتك المدرسية القليلة في علم الأحياء، ما تعرفه أنه لطالما كانت المضادات تقتل البكتيريا؛ فما الذي حدث؟
تكمل القراءة كي تفهم لماذا أصبحت البكتيريا تقاوم المضادات الحيوية.
عواقب سوء الاستخدام
تُستخدم أدوية المضادات الحيوية في علاج حالات العدوى البكتيرية، يُعطى المريض كمية من تلك الأدوية التي تنجح غالبًا في القضاء على البكتيريا أو منع تكاثرها. لكن، وبسبب الاستخدام المتكرر للمضادات الحيوية، لجأت البكتيريا إلى وسيلة للمقاومة، للتكيف (adaptation) مع تلك العلاجات، وذلك بتغيير حجمها وشكلها، وتعديل تركيبها الجيني لحماية نفسها أمام الهجمة المفرطة من المضادات الحيوية، فكانت النتيجة ظهور نوع من البكتيريا أكثر قوة وشراسة، يطلق عليها اسم "البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية"، لا تستطيع العلاجات المعتادة القضاء عليها، ويؤدي الإصابة بها إلى تدهور صحة المرضى، ويصبح علاج أمراض مثل السلّ أو الالتهاب الرئوي أكثر تعقيدًا وربما مستحيلًا، والإصابات الطفيفة قاتلة، مما يزيد معدّل الوفيات. هذه الطفرة الجينية في بعض أنواع البكتيريا يطلق عليها اسم "مقاومة المضادات الحيوية" (Antibiotic resistance).
بحسب تقارير، فإن 700 ألف إنسان يموت كل عام بسبب البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية. وإذا لم تُتخذ إجراءات عاجلة، فمن المرجّح أن تصل الوفيات إلى 10 ملايين حالة وفاة سنويًّا بحلول عام 2050.
بل إن دراسة ذكرت أن 1.27 مليون حالة وفاة حدثت في العام 2019، في 204 دولة ومنطقة حول العالم، أي بمعدل 3500 حالة وفاة في اليوم بسبب مقاومة المضادات الحيوية. وحذّرت من أن العالم أمام مشكلة صحية قد تفوق في خطورتها الأمراضَ الرئيسية مثل مرض نقص المناعة HIV والملاريا، وأنها أصبحت من ضمن الأسباب الرئيسية للوفاة، وتصيب جميع الأعمار وجميع الاقتصاديات، لكنها تمثل مشكلة أكبر في البلدان منخفضة الدخل، بسبب انعدام البنية التحتية من مياه نظيفة، وشبكات للصرف الصحي، وعدم توفّر الاختبارات الميكرو بيولوجية التي تضبط استخدام المضادات الحيوية، كما أن في الدول الفقيرة يكثر استخدام أنواع علاجات أقل جودة.
خطر مهمَل
عند ذكر الدول الفقيرة والمنخفضة الدخل لا بد أن يأتي ذكر اليمن، وتحديدًا عدن، المدينة التي زارها طبيب التخدير الألماني Götz Gerresheim، في منظمة "أطباء بلا حدود" (MSF)، في العام 2020، وصُدم من نسبة المصابين بالبكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية، وقال إنه على الرغم من أن حالات الإصابة بهذا النوع الخطير من البكتيريا في المستشفى الذي يعمل فيه في ألمانيا لا تتجاوز حالتين في السنة، إلا أنهم يصابون جميعهم بالذعر، في حين أن في عدن، تصل نسبة العدوى إلى 60%.
أسباب انتشار هذه العدوى في مستشفيات عدن، نتيجة عدم توفر الإمكانيات الفنية، إضافة إلى كونها تعاني من قلة المختبرات لزراعة البكتيريا ومعرفة نوع المضاد المناسب لها، إلى جانب عدم توفر فنيين مؤهلين لقراءة نتائج المزارع.
أردت معرفة تقييم المنظمة للوضع الحالي في عدن، والتقديرات الأخيرة لنسب الإصابة، طرحت سؤالي على مسؤولة إعلام منظمة "أطباء بلا حدود" في عدن، لكنني لم أتلقَّ أي جواب. أما في مكتب الصحة بعدن، وعند سؤالي عن النسب والأرقام، كان الجواب: "ليس لدينا هذا النوع من الإحصائيات".
الدراسات التي تناولت مقاومة المضادات الحيوية في عدن قليلة، لا تتلاءم مع خطورة المشكلة. أحدث دراسة كانت في العام 2020، وشملت ثلاث مستشفيات: الجمهورية، وخليفة، والصداقة، لتحديد نوع البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية المنتشرة في مستشفيات عدن. جُمعت العينة عن طريق أخذ مسحة من 120 من المرضى الذين خضعوا لعمليات جراحية، ثم نُقلت العينات لزراعتها في بيئة خاصة لتحديد نوع البكتيريا، ولإجراء اختبارات عن مدى مقاومتها لأنواع من المضادات الحيوية الأكثر تداولًا في السوق اليمنية. وكانت النتائج أنه من بين 120 عينة أظهرت 56.6٪ منها نموًّا بكتيريًّا إيجابيًّا، وهذه، كما تذكر الدراسة، نسبة عالية تنذر بالخطر. كما أظهرت النتيجة أن أربعة أنواع من البكتيريا هي الأكثر عزلة، وجميعها كانت شديدة المقاومة لمعظم المضادات الحيوية التي تم اختبارها.
د. خالد سعيد السويدي عميد كلية الصيدلة بجامعة عدن، الذي أشرف على الرسالة، قال إن مشكلة مقاومة المضادات الحيوية من أهم التهديدات الصحية التي تواجه المرضى في دولة نامية مثل اليمن. كما يذكر أن من ضمن أسباب انتشار البكتيريا المقاومة في اليمن هو نقص المعامل التشخيصية؛ "عند إدخال المريض إلى المستشفى يصف له الأطباء العلاج بناءً على الكشف السريري الأولي، دون الاستعانة بمختبرات الأحياء الدقيقة للكشف عن البكتيريا الممرضة، وتحديد نوع المضاد المناسب لها". ويبقى الإفراط في صرف المضادات الحيوية المشكلة الرئيسية؛ "مشكلتنا في اليمن أن الطبيب يتعجّل في وصف المضاد الحيوي للمريض، ويستخدم دائمًا الجيل القوي من المضادات حتى يحقق العلاج نجاحه".
أما الحلول التي يمكن أن تحد من انتشار البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية، يقول د. خالد: "الاعتدال في استخدام أدوية المضادات الحيوية، أيضًا من الضروري وضع معايير خاصة بشأن التخلص من نفايات التصنيع، ونفايات المستشفيات، بطريقة لا تسبب تلوثًا في البيئة؛ الأمر الذي يخلق سلالات بكتيرية جديدة مقاومة للمضادات. ولا بد من العمل على تطوير أدوية بديلة للمضادات الحيوية".
عوامل تزيد من تفاقم المشكلة
مشكلة الإفراط في وصف المضادات الحيوية من قبل الأطباء التي ذكرها د. خالد، أثبتتها دراسة أجريت في العام 2015، لمعرفة النمط الذي يتّبعه الأطباء في وصف المضادات الحيوية للمرضى في مستشفيات عدن، كشفت النتيجة أن من بين 400 وصفة طبية كانت هناك 337 وصفة بالمضادات الحيوية، أي ما نسبته 84.2٪، وهي نسبة، بحسب ما ذكرت الدراسة، تتجاوز المقاييس التي وضعتها منظمة الصحة العالمية.
سألت د. محمد با بكري، أستاذ المسالك البولية بكلية الطب والعلوم الصحية بجامعة عدن، وأحد الذين شاركوا في الدراسة، عما إذا كانت هناك دراسات حديثة لتقييم الوضع الحالي، قال: "لا توجد دراسات حديثة، ولكن الملاحظ أن الأمور تتجه نحو الأسوأ لعدم وجود سياسة صحية محددة تلزم الممارسين الصحيين بالتقيّد بها".
كما يرى أن المرضى يتحملون جزءًا من الخطأ في الاستخدام العشوائي للمضادات الحيوية؛ "كثيرًا ما يلجأ المريض إلى تعاطي المضادات الحيوية عند شعوره بأي عارض صحي دون استشارة الطبيب، وربما كان يعاني حينها من التهابات الجهاز التنفسي العلوي، مثل: نزلات البرد، والتهاب الجيوب الأنفية، التي تسببها العدوى الفيروسية لا البكتيرية، ولا تعالج بأدوية المضاد الحيوي، في هذه الحالة، عند تناول المريض جرعات من تلك العلاجات، تصبح النتائج كارثية".
عامل آخر، تذكر منظمة الصحة العالمية أنه من ضمن أسباب انتشار البكتيريا المقاومة، وهو استخدام أدوية المضادات الحيوية في الحيوانات. د. سالم ناصر نائب عميد كلية ناصر للعلوم الزراعية لشؤون الدراسات العليا والبحث العلمي، يؤكد هذا النوع من الاستخدامات في اليمن؛ "تُستخدم المضادات الحيوية في علاج الحيوانات من العدوى وقتل البكتيريا، كما تستخدم في أعلاف الدواجن وفي ماء الشرب لتحفيز النمو، غير معلوم كم هي النسبة التي تُعطى لهم، لكن تكرار استخدامها مضر على المدى البعيد، حتى لو كانت الجرعات قليلة".
ولهذا فإنّ هناك توجهًا لاستخدام بدائل طبيعية من مواد نباتية. يتابع د. سالم: "نعمل حاليًّا على تجارب لإنتاج مواد طبيعية من صمغ النحل، أو الحبة السوداء لاستخدامها في تحفيز نمو الدواجن، لتحل محل المضادات الحيوية الضارة". كما يذكر أنه بصدد إعداد دراسة بهذا الشأن ستُنشر قريبًا.
إضافة إلى هذا، فإن الأدوية المهربة والمغشوشة تعد من العوامل التي تسهم في انتشار البكتيريا المقاومة. آخر إحصائية -وكانت قبل سنوات- ذكرت أن ما يقرب من 80% من الأدوية المتوفرة في اليمن دخلت البلاد عن طريق التهريب، و40٪ كانت مغشوشة أو تحتوي على مكوّنات غير فعّالة. وبحسب د. مروان الشرجبي، نائب مدير الرقابة الطبية بمكتب الصحة بعدن، فإن الوضع لم يتغير؛ "لا تقل نسبة الأدوية المهربة عن 70%، كما أن ارتفاع سعر صرف الدولار ساعد في رواج المهربات".
كابوس الجراحين
يصف د. رامي رشاد، استشاري الجراحة العامة وجراحة الصدر في مستشفى الجمهورية العام بعدن، مشكلة مقاومة المضادات الحيوية بالكابوس: "عدوى البكتيريا المقاومة هي من أكبر التحديات التي تواجهنا، كما أنها السبب الأكبر للوفيات في الحقل الجراحي، وهذا كابوس حقيقي بالنسبة للجراحين، ليس لدينا سياسة طبية لمحاربتها، نعاني الشحّ المعرفي في هذا الجانب، الجهات المعنية لا تشجّع الدراسات الأكاديمية والطبية على الرغم من خطورة المشكلة، الكل مهدَّد بلا استثناء، حتى الأطفال حديثي الولادة".
وتظل الوقاية هي أفضل الحلول للمشكلة؛ "يمكن الحد من تفشي العدوى بهذه البكتيريا بعمل التعقيم اللازم أثناء إجراء العمليات الجراحية، والحذر عند التعامل مع الأعضاء الداخلية مثل الأمعاء، وتعقيم الأدوات المستخدمة في العملية الجراحية وفق معايير منظمة الصحة العالمية".
وعن تقديرات الإصابة يؤكد د. رامي أنها تسجل من 70-80٪ من إجمالي عدوى البكتيريا. ويرى أن من أسباب انتشارها في مستشفيات عدن، عدم توفر الإمكانيات الفنية؛ "نعاني قلة المختبرات لزراعة البكتيريا ومعرفة نوع المضاد المناسب لها، إضافة إلى عدم توفر فنيين مؤهلين لقراءة نتائج المزارع". أيضًا الاستخدام الخاطئ للمضادات الحيوية من قبل الأطباء، نتيجة تجرد بعضهم من أخلاقيات المهنة؛ "بعض من الأطباء أصبحوا وسطاء لشركات الأدوية، يجربون على المرضى أنواع المضادات الحيوية الجديدة بغرض الحصول على امتيازات من شركات الأدوية".
يتابع د. رامي: "مضادات الدرجة الرابعة دخلت إلى اليمن دون رقابة، وهي باهظة الثمن، يتجاوز سعر الحقنة الواحدة 6000 ريال يمني، وقد يحتاج المريض إلى 14 حقنة. إضافة إلى كونها علاجات قوية للغاية، وتأثيراتها الجانبية قد تتسبب في تضرر الأعضاء الحيوية مثل الكلى والكبد، بالمختصر خراب ديار".
بالفعل، يشكّل ارتفاع نسبة الإصابة بعدوى البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية في بلد مثل اليمن، خرابًا حقيقيًّا. يحتاج المصاب بالعدوى البكتيرية للبقاء لمدة أطول في المستشفى للتعافي، ما يعني زيادة العبء على المستشفيات وزيادة الإنفاق على الرعاية الصحية، في ظل انهيار القطاع الصحي، وتدهور الوضع الاقتصادي. إضافة إلى زيادة أعداد الوفيات في بلد فيه من أسباب الموت ما يكفي.
يمكن عمل الكثير للتصدي لهذا الخطر المقبل، والبداية أن يدرك المسؤولون حجم المشكلة، بالعمل على تنظيم حملات التوعية في المستشفيات لوقف انتشار العوامل المعدية، والرقابة على أداء الممارسين الصحيين، وضبط صرف المضادات إلا بوصفة طبية، وتشديد الرقابة للحد من دخول الأدوية المهربة. لكن واقع الحال يقول، أنه في الوقت الذي ينتفض فيه العالم ذعرًا، ويتأهب لمجابهة الخطر، لا يبدو على اليمن أنه يشارك العالم ذعره، وكأنه غير معني بالتهديد، رغم توفر كل المسببات التي تجعل من مشكلة مقاومة المضادات الحيوية في اليمن كارثة جديدة.
*هذا التقرير نشر كجزء من مشاركة الكاتب/ة في ورشة الصحافة العلمية ومن خلال مشروع "الصحافة والعلوم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، وهو أحد مشروعات معهد جوته الممولة من قبل وزارة الخارجية الألمانية.