(2-2)
المدرسة الصوفية الحضرمية
تُعدُّ هذه المدرسة اليومَ من أكثر المدارس الصوفية حضورًا وتأثيرًا، ليس على مستوى اليمن وحسب، بل على مستوى العالم الإسلامي برمته، ومشايخها يُعدون من أبرز دعاة العالم الإسلامي والأكثر حضورًا وتفاعلًا وتأثيرًا في الخطاب الإسلامي الراهن.
لقد اتسمت هذه المدرسة بالوسطية والاعتدال، واكتسبت أهميتها من التطورات والأحداث العالمية المتعلقة بالتطرف وكيفية مواجهته والقضاء عليه، فعملت على ترشيد الخطاب الديني وتصحيح سلوك ومفاهيم الإنسان المسلم وفق الضوابط المعتمدة لديها، وبعيدًا عن الوصاية السياسية أو التدخلات المختلفة التي ظلّت تؤثر على الخطاب الديني وتستخدم مجالات الدعوة والإرشاد، بحسب مقتضيات مصالحها للبقاء والهيمنة.
المدرسة الصوفية الحضرمية بدأت نشاطها في بداية القرن الرابع الهجري، بعد أن انشغل الشيخ أحمد بن عيسى المهاجر، بوظيفة نشر العلوم الشرعية وعلوم التزكية الروحية، وخصص من أجل ذلك مكانًا للعلم في منطقة الحسيسة القريبة من مدينة سيئون، يحضر إليه طلابه وكل من أراد الحصول على تلك العلوم، وأُطلق عليه فيما بعد اسم (رباط الإمام المهاجر)، وعند بعض الصوفية زاوية أو تكية أو ما إلى ذلك من المسميات التي تهدف إلى توضيح أنّ المكان مخصص للعلم والذكر والتزكية. وقد كان لهذه المدرسة الدورُ الأبرز في تشكيل وعي وثقافة وهُوية المجتمع في تلك المناطق وما جاورها ووصولًا إلى العاصمة عدن التي تأثرت كثيرًا بالتصوف الإسلامي وتشكّلت على ثقافته، ولا تزال تحافظ على موروثها الثقافي والديني إلى يومنا هذا.
ونجد هنا أنّ نمط عمل المدرسة الحضرمية يختلف "ظاهريًّا" عن نمط المدرسة الغربية، حيث أخذ التصوف "الشرقي" الحضرمي منهاجًا متسلسلًا ومنتظمًا، وجعل من الشريعة وأحكامها طريقًا للتربية وتلقين المريدين العلمَ وأصول التزكية، وانطلق هذا التسلسل من أسرة الشيخ المهاجر، الذي يصل نسبه إلى جعفر الصادق، أحد أعمدة آل البيت، وتُعرف اليوم هذه الأسرة بآل باعلوي، التي انتقلت فيها مسؤولية نشر العلوم الشرعية وعلوم التزكية الروحية، وفق المذهب السني الشافعي، ولم يعرف أنْ برزَ قطب أو شيخ للتصوف من خارج هذه الأسرة، "إلا فيما ندر".
تعد مدينة تريم بمحافظة حضرموت اليومَ مركزًا أساسيًّا لهذه المدرسة، حيث تحتوي على دار المصطفى الذي يعدّ المقر الرئيسي لنشاطه، ويديره ويشرف عليه الحبيب العلامة عمر بن سالم بن حفيظ.
يُلاحظ اليومَ تأثيرٌ كبير لهذه المدرسة، يتجاوز حدود اليمن والجزيرة العربية ويصل إلى الكثير من دول جنوب شرق آسيا وإفريقيا وأوروبا.
سمات وخصائص
تميزت هذه المدرسة بخصائص كثيرة، نذكر منها:
- انحصار مسؤولية الولاية والقيادة الروحية (نشر الدعوة والتربية الروحية)، في أسرة آل باعلوي التي تنتسب إلى آل البيت.
- اعتماد المذهب الشافعي مرجعية فقهيه في الأحكام والمعاملات الشرعية.
- يغلب عليها الجانب الشرعي، حيث يتقيد مشايخ ومريدو هذه المدرسة بالشرعية، ويلتزمون حدودَها وآدابها.
- لديها نمط موحد في الدعوة والإرشاد ونهج التزكية وأسلوب التربية.
- تأخذ الطابع الرسمي في تشكيلها ونشاطها وإدارتها.
- تنهج الطريقة الشاذلية في أورادها ومجالس أذكارها وتربيتها لطلابها ومريديها.
تأثرت هذه المدرسة بمنهاج حجة الإسلام الشيخ أبي حامد الغزالي (وُلد في عام 450 هجرية، وتوفِّي في 505 هجرية)، صاحب كتاب إحياء علوم الدين، وهو أحد أهم الكتب الإسلامية تقيدًا بالشريعة وأحكامها، الذي يدعو إلى "مخاطبة الناس على قدر عقولهم"، ولا يقر بالشطحات الصوفية إلا من وإلى الخواص ممن تعمقوا بالطريق والتزموا الأوراد والأذكار وانشغلوا بالخالق عن المخلوقين، إلى أن دنوا إلى مرتبة القرب، وأصبح لهم شأن مع الله (كرامات)، وهنا تبرز مقولة للإمام أبي حامد الغزالي تدعو إلى الالتزام بالشريعة، وعدم إظهار الكرامات أو الالتفات إليها والانشغال بها: "الاستقامة خيرٌ من ألف كرامة".
تميزت هذه المدرسة بالكثير من الأقطاب والأولياء والمشايخ، وجميعهم من ذوي الحضور الفاعل والمؤثر، ولكلٍّ منهم هيبته ومقامه وكرامته التي يختص بها دون أن يُبديها أو يجاهر بها للعامة.
التأثير الساري
يلاحظ اليوم تأثيرٌ كبير لهذه المدرسة، يتجاوز حدود اليمن والجزيرة العربية، ويصل إلى الكثير من دول جنوب شرق آسيا وإفريقيا وأوروبا، بل ويرى المحقق الكبير عبدالعزيز المنصوب، أنّ الفضل في دخول دول كإندونيسيا وماليزيا وجزر المالديف، يعود بالأساس إلى هذه المدرسة التي كانت تعد العلماء والدعاة، وترسلهم لنشر الدعوة، وأيضا من خلال المعاملات التجارية التي كانت تذهب وتأتي إلى حضرموت ومنها إلى تلك الدول. وبالنظر اليومَ إلى مستوى الخطاب الإعلامي والدعوي لهذه المدرسة، سنجد أنّ الكثير من وسائل الإعلام بأنواعها المختلفة، تعتمد على أسلوب ونهج هذا الخطاب المعتدل، إضافة إلى وجود الكثير من علمائها ومشايخها في دول مختلفة، ويعملون على إنشاء وتأسيس فروع لهذه المدرسة، واستقبال عشرات الطلاب في تلك الدول، لتعليمهم وتربيتهم على منهاج الوسطية والاعتدال وعلوم التزكية، إضافة أيضًا إلى الاستمرار في نشر الدعوة الإسلامية في دول مختلفة من إفريقيا وأوروبا وشرق آسيا.
أقطاب ومشايخ
تميزت هذه المدرسة بالكثير من الأقطاب والأولياء والمشايخ، وجميعهم من ذوي الحضور الفاعل والمؤثر، ولكلٍّ منهم هيبته ومقامه وكرامته التي يختص بها دون أن يُبديها أو يجاهر بها للعامة، وقد حصرهم المفكر الإسلامي الحبيب أبو بكر المشهور في كتابه سلسلة أعلام حضرموت، وأفرد لكلٍّ منهم سيرته وترجمته الخاصة، ونذكر منهم:
- الفقيه المقدم، وهو محمد بن علي باعلوي (574 – 653) هجرية، وقد لُقب بالفقيه المقدم والإمام الأعظم؛ لغزارة علمه وعلو همته وحزمه في التقيد بالشريعة، وتفرد بين أترابه في زمنه وعصره. وقد ذكر الحبيب أبو بكر المشهور، أنّ الإمام الفقيه المقدم هو أول من أسّس مدرسة نظامية في مدينة تريم، المعروفة اليومَ بمكانتها العلمية والثقافية والأدبية، وله يعود الفضل في نشر علوم التصوف في الكثير من المناطق خارج حضرموت، وأول من أعطى هذه المدرسة شكلها الحالي في التنظيم والإدارة والترتيب، بل وعمل على فتح فروع لها في العديد من المناطق، وأقام عليها علماء من طلابه، أجازهم في علوم التربية والتزكية، فكانوا دعاةً رفدوا الحياة العلمية والدينية والأدبية بعشرات الكتب.
عمل المشهور فترةً من الزمن، خطيبًا وإمامًا في أحد مساجد مدينة جدة، ثم تركها وعاد ليستقر في مدينة عدن، بعد أن عانى كثيرًا من المضايقات والاتهامات من عناصر التيار السلفي الوهابي هناك.
- الشيخ أبو بكر بن عبدالله العيدروس "العدني"، الذي وُلد في مدينة تريم (851 – 915) هجرية، ونشأ بها وتلقى فيها العلوم الشرعية والروحية إلى أن ذاع صيته واشتهر بعلمه وزهده، فخرج من تريم يقصد الحج، وبعد انتهاء موسم الحج توجّه إلى زبيد بمحافظة الحديدة، ومكث فيها مدة، ثم إلى بيت الفقيه ثم إلى تعز في عام 888 هجرية، وحل فيها بعد أن بلغه خبر وفاة أمه، والتقى في تعز بالشيخ عبدالهادي السودي، وأقام معه فترة ثم ارتحل إلى عدن، التي استطاب له المقام بها، وأسّس فيها مدرسة ومسجدًا وسكنًا لطلابه، وهو ما يعرف اليوم برباط العيدروس وجامع العيدروس بمدينة كريتر من العاصمة عدن، حيث تقام له زيارة سنوية، يتخللها العديد من الأنشطة الثقافية والعلمية والأدبية التي تنظمها الإدارة القائمة على الرباط (رباط العيدروس).
- المفكر والداعية الإسلامي، الحبيب أبو بكر المشهور، صاحب كتاب سلسلة أعلام حضرموت، الذي وُلد في مدينة أحور، محافظة أبين، وانتقل منها إلى مدينة تريم، التي تلقى فيها علومَه الشرعية والروحية، وله العديد من المؤلفات التي ينتفع بها المسلمون إلى يومنا هذا منها: إحياء لغة الإسلام العالمية، دوائر الإعادة ومراتب الإفادة، المناصرة والمؤازرة، التليد والطارف، وغيرها من الكتب التي انشغل بها طوال حياته (رحمه الله).
وقد عمل الحبيب فترةً من الزمن، خطيبًا وإمامًا في أحد مساجد مدينة جدة، ثم تركها وعاد ليستقر في مدينة عدن بعد أن عانى كثيرًا من المضايقات والاتهامات من عناصر التيار السلفي الوهابي هناك، وفي مدينة عدن استقر وعمل على تنشيط وتفعيل رباط العيدروس، وأحيا فيه روح العلم والعمل والتنوير والإبداع، وأشرف على إدارته، وأدخل عليه وسائل الدعوة والإرشاد الجديدة، وطوّر من أداء القائمين عليه إلى أن أصبح الرباط أشبه بخلية نحل تتعلم طوال العام، ويكاد يصل مستوى الرباط اليوم إلى مستوى الكلية الشرعية ذات العلوم المختلفة.
وكانت وفاة الحبيب المشهور في عام 2022 ميلادية، بالعاصمة الأردنية عمّان، وتم مواراة جثمانه في مدينة تريم بحضرموت.
- الداعية الإسلامي، الحبيب عمر بن حفيظ، عميد دار المصطفى بمدينة تريم، وأحد أبرز الدعاة في هذه المرحلة، بلغ صيته الآفاق، وتنقّل بين البلدان، يدعو إلى الإسلام، وينشر قيم المحبة والتسامح بين الأمم والشعوب، وقد عمل بجهد ومثابرة، وفتح فروعًا كثيرة لدار المصطفى في ماليزيا، وسنغافورة، وبنجلادش، وإندونيسيا، ومصر، والسودان، وعدد من الدول الإفريقية، وله العديد من الدروس والمحاضرات الدينية والشرعية، تبثّ في الكثير من القنوات الفضائية العربية والإسلامية، ولا يزال الحبيب عمر بن حفيظ، يتصدر المشهد الدعوي بخطابه العقلاني المتزن، ويعد اليوم المرجعية الأولى للمدرسة الصوفية الحضرمية والكثير من الطرق والمدارس الصوفية في العالم الإسلامي، ومن أبرز طلابه الذين تربوا عليه يديه: الداعية المعروف الحبيب علي زين العابدين الجفري، والحبيب عبدالرحمن السقاف.
_______________
المراجع التي اعتمد عليها الكاتب لإنتاج هذه المادة:
- السلوك في طبقات الأولياء والعلماء والملوك، الشيخ محمد بن يوسف الجندي اليمني.
- طبقات الخواص لأهل الصدق والإخلاص، الشيخ عبداللطيف الشرجي الزبيدي.
- جامع كرامات الأولياء، النبهاني.
- تهامة في التاريخ، عبدالرحمن الحضرمي.
- تاريخ التصوف الإسلامي، الدكتور عبدالرحمن بدوي.
- سلسلة أعلام حضرموت، الحبيب المشهور.