كانت الحربان الكونيتان: الأولى، والثانية بداية البدايات في مختلف مناحي الحياة، وبالأخص في المشرق العربي؛ فالدولة القطرية نفسها معطى من معطيات الحربين الكونيتين. وإذا كانت الصحافة في مصر تعود إلى مطلع القرن الثامن عشر؛ فإن اليمن قد شهدت -على استحياء– ولادة هذه الصحافة في نهاياته.
«اليمن» 1872، و«صنعاء» 1877، وهما منشوران دوريان يهتمان بالدرجة الأولى بأخبار الوجود التركي.
اللافت أن «الكتيبة الأولى» 1939، تضم كوكبة من طلاب الأزهر الشريف من الشمال والجنوب، وقد ولدت في القاهرة، وصدرت فيها أيضًا «اليمن الخضراء» في العام نفسه، وقد نشأ تعاطف في صحافة الإخوان المسلمين مع تيار الأحرار (حزب الأحرار)، الذي تأسس في عدن عام 1944، ثم الجمعية اليمنية الكبرى عام 1946، التي أصدرت، أو صدر باسمها «صوت اليمن»، وكانت هناك في مصر صحف مستقلة تتعاطف مع اليمن كـ«الصداقة»، و«اليقظة العربية» 1939، وهما الصحيفتان اللتان أصدرهما عبدالغني الرافعي، وقبل ذلك «الشباب»، وصحيفة «الشورى»، و«العلم» اللتان أصدرهما الفلسطيني محمد علي الطاهر في نفس الفترة.
وكانت الأربعينيات والخمسينيات ربيع الصحافة العدنية؛ فقد اعتمد البريطانيون قانون الإخطار لإصدار الصحف، وتشكيل الأحزاب؛ فصدرت عشرات الصحف، وتكونت عدة أحزاب.
صدر العدد الأول من «السلام» في 6 ديسمبر/ كانون الأول 1948، في كارديف ببريطانيا، أي قبل بضعة أيام من صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وقد احتفت الصحيفة أيما احتفاء بهذا الإعلان، ونشرته معلقة عليه، وعمل عبدالله الحكيمي على إسقاط مواده على واقع المتوكلية اليمنية التي تصادر الحق في الحياة، واعتُبرت السلام من أوائل الصحف العربية التي تصدر في أوروبا إن لم تكن الأولى، حسب الدكتور ألفرد هوليدي.
صدرت الصحيفة في ست صفحات، قطع (46×29سم)، ثم تطورت في الأعداد الأخيرة إلى 8 صفحات.
تحتل المقالة الصحفية فيها مواضع الصدارة، ويبدو أن بُعد الصحيفة عن البلاد العربية بعامة واليمن بخاصة قد فرض هذه الأسلوب. والمتتبع لأعداد الصحيفة المهاجرة يلمس الاهتمام الكبير بالقضايا العربية الكبيرة، وبالأخص نكبة فلسطين، والجامعة العربية، وأوضاع البلاد العربية، وبالأخص اليمن ومصر.
في العدد الأول من الصحيفة تحت عنوان «حياتنا الثقافية» يرى الكاتب طاهر خميري عدم التناسب أو عدم التوازن، فهو يرى أن هناك العديد من الأطباء والمحامين والرياضيين والمهندسين والمتخصصين في مختلف فروع المعرفة الطبيعية قد بلغ بعضهم من الشهرة والتفوق ما خولهم حق الانتساب إلى الجمعيات العلمية في أوروبا وأمريكا(1)، ولكن إذا نظرنا إلى علم اللاهوت والفلسفة والأدب نجد أن الأمر يختلف عن ذلك كثيرًا؛ فهو يرى أن في العالم العربي العشرات من المعاهد الدينية كالأزهر في مصر، والزيتونة والقيروان بالمغرب، يعد أساتذتها بالآلاف، ولكنهم كلهم لم يُخرجوا منذ عهد الشيخ محمد عبده سوى كتابين أو ثلاثة، يمكن أن تعتبر ذات قيمة في موضوعها، ويضيف الحكيمي: «لا أظن أن السبب جمود وركود في التفكير؛ فقد حضرت حلقات الدروس في المعاهد المذكورة، ورأيت رجالًا يعدون من كبار اللاهوتيين حسب مقاييس العصر، ولكنهم فيما يظهر قد نسوا عادة الكتابة والتأليف».
ويعيب على الفلاسفة العرب الوقوف عند تخوم الترجمة، وعدم الاجتهاد والتجديد، ويشدد النكير على الأدباء العرب، ويقارن بين الإنتاج الأدبي العربي والأوروبي، فيحيل إلى الفارق الكبير بين الأدب الأوروبي في تطوره وتجدده وازدهاره، وتضاؤل الإنتاج العربي؛ رافضًا الفكرة القائلة بالانقسام بين الفصحى والعامية، ويرى أن هذا التعليل -على براعته- غير صحيح وغير مقنع؛ لأن تلك العوامل لم تؤثر في إنتاج الغزالي وابن خلدون والجاحظ والمعري.
ويربط حالة التخلف بالفصل بين الحياة العملية، والاتكال على الوحي والإلهام والعبقرية والنبوغ في الجانب الذي نعتبره غير عملي، مع أنه يمثل أخص مميزاتنا.
يبدو أن التسمية «السلام» لها رافد إسلامي صوفي، يؤمن بالحوار والهداية بالتي هي أحسن، ورافد أهم هو إدراك مآسي الحربين الكونيتين، وآثارهما التدميرية الكونية، وبخاصة لعربي يعيش في أوروبا، ويدرك مآسي أمته العربية التي تقاسمها الأوربيون
ويشترط الوصول إلى ما وصل إليه الغرب بالربط بين حياتنا العملية، واللاهوت والفلسفة والأدب، معتبرًا الفصل المطلق بين الحياة العملية والفكرية قلة دين، وقلة عقل، وقلة أدب (هكذا)(2).
ويحدد في العدد الأول، رسالة «السلام»:
ويبدو أن التسمية «السلام» لها رافد إسلامي صوفي، يؤمن بالحوار والهداية بالتي هي أحسن، ورافد أهم هو إدراك مآسي الحربين الكونيتين، وآثارهما التدميرية الكونية، وبخاصة لعربي يعيش في أوروبا، ويدرك مآسي أمته العربية التي تقاسمها الأوربيون بالسنتيمتر، كما يعيش همّ انكسار الثورة الدستورية في صنعاء، التي وأدها الإمام أحمد مؤزرًا من مختلف الأنظمة العربية.
يقدم الشيخ الحكيمي تحليلًا ضافيًا لنتائج الحربين الكونيتين: الأولى، والثانية، وانقسام العالم إلى معسكرين، وينظر بثقة وتفاؤل كبيرين لـ22 من مارس/ آذار 1945، حين اجتمعت بقصر الزعفران بالقاهرة سبع دول عربية لتوقيع ميثاق الجامعة العربية، ويصور الجامعة كوليد يحبو(4).
ويحلل عميقًا أسباب وعوامل سقوط فلسطين؛ معتبرًا أن الحرب جولة خسرها العرب، مذكرًا بعظات التاريخ ودروسه حين استطاع القائد محمود زنكي توحيد القطرين: العراق، وسوريا، ثم تلاه صلاح الدين الأيوبي، ليضم القطرين بمصر؛ فيتوحد العرب، وتكون نهاية الحرب الصليبية.
ويدرس سعيد النجار في العدد الثالث، المستقبل الاقتصادي لجامعة الدول العربية؛ فيرى أن غالبيتها زراعية، ويلحظ انخفاض مستوى المعيشة، كما أنها متخلفة اجتماعيًّا وثقافيًّا، ويرى أن تطورها متقارب يؤدي بها إلى نهايات متقاربة.
وتكون النبوءة العبقرية بتوقع قيام ثورة يوليو/ تموز 1952؛ فهو يقول بالحرف: "أما مصر التي تتزعم دول العرب، والتي تحتضن الجامعة العربية، فغنية بمواردها، ولكنها لا تُستغل على الوجه المرضي، وقد ظلت ترزح تحت عبء الاحتلال البريطاني ونيره قرابة سبعين عامًا، كانت فيها كالبقرة الحلوب تدر اللبن، ولكن يشربه غير أبنائها، وتنتج، ولكن لكي ينتفع قوم دخلاء، واليوم، وقد بلغ الوعي القومي منتهاه، تجتاز مصر مرحلة انتقال خطيرة نرجو ألا يطول أمدها؛ حتى تقوم بدورها في خدمة العروبة خاصة والشرق عامة"(5). والكلام المنصوص يعود إلى 23 ديسمبر/ كانون الأول 1948، ويشيد بموقف دول الجامعة من استقلال سوريا ولبنان، ولكنه يرى أن الحق ضائع ما لم تسنده قوة، وهو ما نعاني منه حتى اليوم. وتتابع الصحيفة نقدها اللاذع للموقف العربي المتخاذل، وينتقد الدعوة للحرب، وإسكات القلم: تكلم يا سيف، اسكت يا قلم. وقد سكت القلم، وتكلم السيف؛ فماذا قال السيف؟ دولة اليهود قائمة، والهجرة مستمرة، وأراضي العرب محتلة، ومصر تحارب وحدها. اللهم وفق العرب، وأرشدهم واجمع كلمتهم(6).
تواصل الصحيفة نقدها للمسؤولين عن نكبة فلسطين، وتغمز من قناة الجامعة، التي بدأ الخلاف يدب بين أطرافها المختلفة، ثم يقول: "إن الجامعة تكونت بوحي هبط من خارج البلاد العربية، وإن خلافات أعضائها قد تسببت في استقالة حكومة الوفد
وفي قراءة لأهداف السياسة العربية، يدرس الكاتب الفلسطيني منير شماء حالة العرب المزرية، وخيبة أملهم في الحرب إلى جانب الحلفاء، وخروجهم من الحرب بكارثة قومية: احتلال فلسطين، وضياع الاستقلال.
وتدين «السلام» حادثة اغتيال النقراشي باشا على يد شاب من الإخوان المسلمين، وتعرب عن الأسف لوصول الحزبية في البلاد العربية حد سفك الدماء(7).
ويحمل الحكام العرب بتخاذلهم وخلافاتهم وشكوكهم في بعضهم مسؤولية نكبة فلسطين(8).
تواصل الصحيفة نقدها للمسؤولين عن نكبة فلسطين، وتغمز من قناة الجامعة، التي بدأ الخلاف يدب بين أطرافها المختلفة، ثم يقول: "إن الجامعة تكونت بوحي هبط من خارج البلاد العربية، وإن خلافات أعضائها قد تسببت في استقالة حكومة الوفد"(9).
ويتساءل بحرقة: بعد أربع سنوات من تأسيس الجامعة العربية، ماذا صنعت بشأن فلسطين وليبيا واليمن التي تناشدها وتناديها الغوث والنجدة؟
لقد صرخت الأمة اليمانية إلى الجامعة، وأنذرتها سوء العاقبة، ولكن الجامعة لم تعر القضية اليمانية اهتمامها(10).
وينتقد وضع اللاجئين في البلدان العربية كلها(11)، وتنقل الصحيفة عن «آخر ساعة» مقالًا بعنوان «الرد الخالص»؛ فقد أشارت المجلة إلى أن مندوب اليمن في المؤتمر الآسيوي المنعقد في دلهي يناير 1949، انتقد الطريقة التي عولجت بها قضية فلسطين العربية، فطلب إسماعيل كامل بك - سفير مصر- الكلام، وسأل مندوب اليمن عن عدد الجنود اليمنيين الذين بعثت بهم حكومة اليمن إلى ميادين القتال، خصوصًا وأن اليمن قد قطعت عهدًا على نفسها في السير جنبًا إلى جنب مع البلاد العربية. ويعقب المحرر منتقدًا السفير المصري، ومعترفًا بواقع اليمن حينها، وملقيًا التبعة على سياسة الحكومة المصرية التي كانت من أهم العوامل التي تضافرت على تحطيم مستقبل اليمن(12).
واضح أن المحرر يشير إلى الموقف من حركة 48. وتحت عنوان «غضبة شباب لأمتهم» تنقل السلام عن جريدة «العلم العربي» مقالة نارية: "قد علمتم أن كلام ملوككم...، وقد علمتم قبيل الهجمة الأولى أنه لولا صولتكم، وإضراب شبابكم المثقف عن الطعام في بغداد وبيروت ودمشق والقاهرة؛ احتجاجًا على ذل سياساتكم، وإحجامها لما كان ذلك الزحف الرائع، والذي -ووا أسفاه! ووا ذلاه!- عاد بالهدنة شجًا ناشبًا في حلق العروبة لا ينقذها منه إلا ثورتكم الكبرى الوشيكة إن شاء الله. إني لأحس الدمدمة في جوف بركانها الهادئ إلى حين(13). وهو تنبؤ آخر بالثورة.
وتترصد الصحيفة، وبتحليل عميق، الموقف الأمريكي، والإمدادات الفرنسية بالسلاح(14).
وتحت عنوان «السلام تنشر ما لا تنشره المصري» كتب حسين المقبلي، وهو معارض يمني ينتمي إلى الأحرار، وطالب أزهري، متناولًا بعض قرارات اللجنة الثقافية بمجلس الجامعة التي اتخذت قرارات منها: تعليم الكبار، والعميان، وموافقة الأعضاء وبالإجماع.
يقول المقبلي: "إن هذه الخطوة مباركة، وعمل مشكور لو لم يبقَ أمام اللجنة الثقافية إلا الكبار والعميان، أو لو كان تعليم الكبار والعميان فرعًا من فروع التعليم الذي نشرته أو تنشره اللجنة الثقافية في العالم العربي، والذي تعاونت أو تتعاون فيه الدول العربية والشعوب مع اللجنة، أما ونسبة التعليم لا يكاد يكون في الألف واحد من المبصرين الصغار في بعض دول الجامعة العربية. يعلم هذا جميع أعضاء اللجنة الثقافية أو بعض أعضائها، ثم لا نسمع حتى ولا اقتراحًا واحدًا في كيفية معالجة هذه المشكلة - مشكلة التعليم".
ويؤكد، ومعه كل الحق، أن بعض الدول لا توجد فيها مدرسة ابتدائية واحدة على النظام الحديث تؤهل الطالب أن يلتحق بثانوية مصرية. وواضح أنه يشير إلى اليمن، كما يذكر أن بعض الدول لا توجد بها ثانوية تؤهل الطالب للالتحاق بجامعة من جامعات بعض الدول العربية، ثم تراهم يوافقون بالإجماع على ضرورة تعليم الكبار والعميان، كأنهم قد فرغوا من تعليم الصغار، أو كأن نسبة من بقي من الصغار لا يلتفت إليها، والواقع أن نسبة الأمية في الوطن العربي الكبير كبيرة حتى اليوم بعد مضي أكثر من نصف قرن.
في العدد (61) يحلل رئيس التحرير حالة اليمن، وانقسام الأمراء سيوف الإسلام الذين يتوزعون البلاد، ويدعي كل واحد منهم أحقيته بالإمامة، ويتبعها بخطاب مفتوح إلى أقطاب العالم العربي وزعمائه مذكرًا فيها بوضع فلسطين واليمنيين.
ويسخر المقبلي من قرار الاحتفال بذكرى ابن سينا، الذي وإن كان عظيمًا إلا أن الأولوية يجب أن تكون احتفالًا بافتتاح جامعة ثالثة في مصر، وجامعة في بيروت، وجامعة ثانية في دمشق، وجامعة ثانية في بغداد، وعدة مدارس ابتدائية وثانوية في اليمن والسعودية والأردن. ويرى أن الناس عندما يسمعون مثل هذه القرارات يهزون رؤوسهم استهزاء بهذه الخيالات الخصبة، "أما عدونا الذي ربض في قلب بلادنا، وراح ينشئ المدارس والمستعمرات، ويجبر العرب على تعلم لغته العبرية، فما ندري كيف كان سروره بهذه القرارات التي لا تسمن ولا تغني من جهل". ويضيف: "إننا نحارب أربعة أعداء: الجهل، والفقر، والمرض، والصهيونية"(15). والحقيقة أن الأربعة الأعداء ما يزالون الخطر الحقيقي القائم حتى اليوم.
ويلاحظ احتفاء بالجامعة العربية، وتتبع أخبارها والتعليق على نشاطها، والأهم تحول رؤية الصحيفة، والإدراك العميق لأوضاعها مبكرًا، وتكون قضية فلسطين واليمن تحديدًا، وقضايا البلدان العربية الأخرى هي العناوين البارزة في أخبار وتعليقات ومواضيع «السلام»؛ ففي العدد (61) يوجه رسالة في الصفحة الأولى إلى أمين جامعة الدول العربية وزعماء الجامعة، داعيًا إلى العمل على تسوية الخلافات العربية التي أسهمت في سقوط فلسطين لقمة سائغة في أيدي العصابات الصهيونية، كما يتطرق إلى وضع اليمن مشخصًا حالة اليمن الممزق والمدمر، ويحلل رئيس التحرير حالة اليمن، وانقسام الأمراء سيوف الإسلام الذين يتوزعون البلاد، ويدعي كل واحد منهم أحقيته بالإمامة، ويتبعها بخطاب مفتوح إلى أقطاب العالم العربي وزعمائه مذكرًا فيها بوضع فلسطين واليمنيين.
والواقع أن الحكيمي كان شديد الربط بين مأساة فلسطين ووضع اليمن، كما كان شديد التعويل، خصوصًا في المراحل الأولى، على تدخل الجامعة العربية لإنقاذ اليمن.
(جزء من بحث الآثار المتبادلة للهجرة اليمنية في القرن العشرين).
الهوامش:
([1]) صحيفة السلام، عدد (1)، 5 صفر 1368هـ/ 6ديسمبر1948م.
([2]) المصدر السابق، العدد (1)، ص4.
([3]) المصدر السابق.
([4]) المصدر السابق، العدد (1)، ص2.
([5]) المصدر السابق، العدد (1)، ص2.
([6]) المصدر السابق، العدد (5)، ص2.
([7]) المصدر السابق، العدد (5)، ص2.
([8]) المصدر السابق، العدد (11)، ص1.
([9]) المصدر السابق، العدد (18)، ص2.
([10]) المصدر السابق، العدد (19)، ص3.
([11]) المصدر السابق، العدد (20)، ص5.
([12]) المصدر السابق، العدد (21)، ص2.
([13]) المصدر السابق، العدد (29)، ص4.
([14]) المصدر السابق، العدد (3)، ص3.
([15]) المصدر السابق، العدد (45)، ص6.