(للرازحي، عبدالكريم) عينٌ لاقطة، وحسٌّ مرهف، وقدرة على الغوص في المرئي وتكوينه بما يليق به جماليًّا. وله في هذا حضوره الإبداعي، لوحاته أو لقطاته التي يختارها بتبصُّر ودراية وشغف وتعلّق، يفضي بنا إلى التكوين الدلاليّ والجماليّ، بذائقته التي تتفتّح على عوالم مرئية ولا مرئية. هو بهذا يقدّم فنًّا يسمو بنا، يكاشفنا عن معنى هذا التنوع في الطبيعة، في الإنسان والشجر والحجر والماء، في الهُوية بِبُعدها (الأنطولوجي) وحضورها التاريخي. بهذا المعنى يجعل من الصورة ثقافة جوانية وإدراكية في آن، يحثّنا لأن نرى ما هو نقيّ وجميل، ويأخذنا إلى أبعد من اليومي المتكلس أو الاستاتيكيّ.
الرازحي يشتغل على الحرف بحرفية ماهر مجرب مبدع فنّان، وينتقل من الحرف بالقدر ذاته إلى الصورة. كأنه عاش زمنًا غير قصير في عالمها، لينتقيها ويستحدثها ويخلع عنها الجمود، يجعلها نابضة وفاعلة، ويجعلنا نحن منفعلين. لـ(الرازحي، عبدالكريم) ذائقة متوقدة، نجدها في القصة والشعر وفي السرديات الأخرى، وفي الصورة أيضًا. يجعل الكل في حركية قوية وشعور سخيّ متدفّق ورؤية قادرة على أن تفصح بالكثير من الأسرار. إنّه يكاشف الواقع وتمظهراته، ويأتيه وقد قبض على الفكرة ومنتجَها وأخرجها كما يريدها، وكما يحلو لنا. نحن هنا أمام شاعرية غزيرة تتخلل نتاجاته، تزيدها أناقة وجمالًا، تزيل عنها الكثير من الغبار، لكأنها جوهرة مصقولة. بهذا المعنى يتشكّل فنّه، يضيف معنى على المعنى، ويثري الساحة، يشكّل ذاتًا متفردة جوّابة عوالم ورحالة لا تستقر إلا على الأجمل والأنقى.
أينما يمّم تراه يتحسّس برفق الأشياءَ، يتداخل معها، يبوح لها وتبوح له بأسرارها. قليلون هم الذين يدركون نبض الشيء، فيصعدون به إلى الكلم، إلى أن يبوح وأن يلقي بظلاله على عوالم كنّا لا نراها، ولكنها بحرفية الرازحي تباغتنا، تضيء مساحات من اللامرئي، الذي لم نكن لنأتيه وندرك أبعاده وغزارة الرؤيا، لولا العين اللاقطة المتبصرة التي يمتلكها "كريم". لكأنّ ثمّةَ تآزُرًا حميميًّا بين الشاعر والعالم المرئي والميتا مرئي، وبين السرديات التي يأتي عليها وهذا التشكُّل الجمالي الذي يولد من كل هذه الاتجاهات التي تتدفق بغزارة إلينا فتوقعنا فيها، ونجوب أرجاءها، ونتداخل معها بذائقتنا، وقد جذبتنا عنوة إليها.
الرازحي فضاء واسع من الجمال، من الرؤية الاحترافية للعالم، المتمظهر والجواني أو اللامرئي. إنّه جذّاب لدرجة نقول عنه إنه محترف. في حين أنه لم يمضِ عليه وقت طويل في صناعة الصورة بما فيها من أسرار ومكاشفات قوية. إنّها جغرافيا تكوين لعالم الإنسان وحضارته، نراها في بيت مهجور، أو تل، أو بركة ماء، أو دابة مسافر، أو حيوان أليف. الرازحي عالمه بيئتنا، يتناولها ونكتشف ذواتنا بعد أن نرى لقطته، حينها نفطن إلى الجمالي فينا وبيننا. إنه يوزعنا على ألحان جميلة ومعانٍ متعددة، ورؤيا إنسانية غزيرة بالحب والسلام، وما هو نبيل وطيب.
للرازحي مجالاته المتعددة إبداعيًّا، وأينما حلَّ أو رحل نكتشف روعته في كلِّ فضاء يأتي إليه أو يتنفس منه، محِبًّا أو ساخرًا أو متأوّهًا أو قابلًا للاندغام مع البيئة ذاتها وصب روحه فيها، لنتأثر نحن ببراعة اللقطة وحرفية إتقان المعنى وتجويد السرديات من البَدْء حتى المفاجأة الختام. هو يعرف جيدًا مخططه إلى النهاية، وكيف يختم سردياته بقوة وذكاء، كما هي الصورة أيضًا، الرازحي يغرق في الجمال ويغرقنا معه.