في لهجة المعافر وتراثها

ذخيرة لغوية لهجية وخزينة ثقافية
د. نجيب الورافي
September 30, 2024

في لهجة المعافر وتراثها

ذخيرة لغوية لهجية وخزينة ثقافية
د. نجيب الورافي
September 30, 2024
.

ربما لا مجال في الدراسات اللغوية يفوق المعاجم من حيث الأهمية الوظيفية، ومن حيث الجهد العلمي المبذول في دراستها، فهي خزائن معرفية لما تداولته، شفاهًا، أممُ الأرض على اختلاف لغاتها وألسنتها، ولولاها لاندثر الإرث اللغوي والثقافي الإنساني، ولطواه النسيان والضياع؛ لذلك انشغل بها البحث اللغوي لكل لغة ناطقة منذ القدم، وتحديدًا من مرحلة بدء التدوين والكتابة، كما حدث بالنسبة إلى اللغة العربية، إذ كانت المعاجم إحدى منجزات عصر التدوين وثمرة من ثماره.

لا أدلّ على صعوبة البحث والجهد المبذول في المعاجم، مما سجّلته المصادر اللغوية من وقائع عن جهد قدامى اللغويين في جمع اللغة العربية من ألسنة البدو، وعمل أنظمة توثيقية لها، ممثلةً بمعجم خاص للفظ، أو لموضوع؛ كمعجم التمر، ومعجم الخيل، ومعجم الأسد، وغير ذلك، فلا شاردة ولا واردة مما ينطق به سكان الرُّبوع إلا وسجّله اللغوي، حتى قيل إن الكسائي حين جمع ما جمعه أنفد ما يقارب 15 ألف قنينة حبر، ليتوج جهد صناعة معجم جامع فيما بعد، كمعجم العين للخليل بن أحمد، ولسان العرب لابن منظور، والقاموس المحيط للفيروز أبادي، وتاج العروس للزبيدي.

لهجة المعافر وتراثها

على الرغم من صعوبة الاشتغال في صناعة المعاجم؛ كونها تعتمد السماعَ طريقةً للبحث، جمعًا وتدوينًا من أفواه الناس، وما يقتضيه من تنقل وكلفة، فإن البحث المعجمي ما زال حيًّا، سواء على مستوى اللغة الأولى أو لغة الثقافة، حيث تستهدف صناعة معجمٍ ما، تسجيل ما يطرأ على اللغة من تحول وتطور بين فترة وأخرى، من حيث اللهجات وفنون الأدب الشعبي والفلكلور، كما هو الحال مع معجمنا الراهن (من اللهجات اليمنية- في معجم لهجة المعافر وتراثها) لمؤلفه أحمد شرف سعيد الحكيمي. 

صدر هذا العمل القيّم حديثًا عن المعهد الأمريكي للدراسات اليمنية- صنعاء 2023، ليمثّل إنجازًا إضافيًّا في خط الامتداد للبحث المعجمي التاريخي، ولكن ضمن حقل جديد ومختلف، هو اللهجة في سياقها الفني الثقافي. فهو رافد هامّ للغة وللثقافة والفنون الشعبية على حدٍّ سواء، كما هو إضافة قيّمة لمكتبة البحث اللغوي في اليمن وخارجها.

تتسع حقول المادة اللهجية في المعجم لتشمل جوانب الحياة المختلفة، الاقتصادية والثقافية ونشاط الإنسان وطبيعة العمل، كما تشمل أيضًا حقل الطبيعة الوجودية، كالأمكنة والأزمنة والمناخ وطقوس المواسم الزراعية، فضلًا عن عرض سياقات التخاطب بإيراد نماذج لخطابات حية متداولة لمجتمع المعافر بفئاته المختلفة.

عرض المادة اللهجية

يقع المعجم في ثلاثة أجزاء أو مجلدات، يتصدره مقدمة تفصيلية لمؤلفه حول المعافر، وهي المعنية بتخصيص المعجم لها ولتراثها. تتضمن المقدمة عرضًا شارحًا لهذا الجزء الهامّ والحيوي من اليمن، بصفتها جغرافية شاملة للطبيعة والإنسان ونشاطه المهني والثقافي، والتاريخ والحضارة، والثقافة والفنون، أعقبه بإيضاحِ منهجِه في تناول المادة اللغوية وحشوده لشواهد تكتنف محيط التخاطب في مجالات الثقافة والفنون.

لن أعيد هنا ما قد وضّحه المؤلف حول طريقة ترتيب المادة، فقد اتبع النظام الهجائي، موزعًا أقسامه بعدد حروف الهجاء، محتذيًا التقليد المعجمي القديم، وإن لم يلجأ إلى تقسيمه إلى أبواب وفصول بحسب الحرف الأول والأخير، كما هو الشأن في بعض المعاجم القديمة، بل استقل كل حرف هجاء بمادته، مع مراعاة ترتيب الحرف الثاني والثالث بحسب تراتب حروف الهجاء العربية. والمعجم مذيل بفهرس ضمنه النصف الأخير من الجزء الثالث، يشمل الآيات والأحاديث والشعر والأمثال والأغاني وأسماء الأطعمة والأمكنة والأدوية (ج3، ص141).

في شرحه لمعنى المفردة، يضع الحكيمي معايير المعنى من واقع الثقافة الخاصة والخبرة الحياتية، ويقل إجراء الموازنات باللغة الفصحى، وهو ما قد يشكل على القراء والباحثين العرب، خاصة أسماء الأمكنة والحيوان والنبات، حيث كانت بحاجة إلى ربط ما تعنيه، كما أنها تحتاج إلى توصيف خارجي يوضح الماهية، لا سيما الحيوانات أو الألفاظ المحلية الصرفة، مثلًا لفظ "الظهي شارك بثور في ضمد الحراثة... إلخ" (ج2، ص150) كان يحتاج إلى إيضاح أنّ المظاهاة في الأصل عملية مقايضة بالأعمال الزراعية، يتساوى فيها طبيعة العمل ومقدار الساعات المبذولة، وتشمل الأيدي العاملة أيضًا. 

يقيم المؤلف مقارنات مع اللغة اليمنية القديمة مستأنسًا بأهم معاجمها، ولا يكتفي المؤلف بعرض شرح المعنى مفردًا، بل قد يلجأ إلى تفسيره في نسيج جملة خطاب متداول، لا سيما الخطابات الثقافية؛ كما في لفظ "ضمر. ضمار: بمعنى رأس المال، ورد لفظ (ض م ر) في نقوش المسند بمعنى بيع الغائب والمفقود عقد لأجل الوفاء به" (ج2، ص159).

حقول المادة اللهجية

تتسع حقول المادة اللهجية في المعجم لتشمل جوانب الحياة المختلفة، الاقتصادية والثقافية ونشاط الإنسان وطبيعة العمل، كما تشمل أيضًا حقل الطبيعة الوجودية، كالأمكنة والأزمنة والمناخ وطقوس المواسم الزراعية، فضلًا عن عرض سياقات التخاطب بإيراد نماذج لخطابات حية متداولة لمجتمع المعافر بفئاته المختلفة، وهو ما يعني أنّ الفضاء الدلالي في لهجة المعافر لا يقف عند حد المعنى المباشر، بل يتسع ليشمل دلائل ومقاصد سياقية مضمرة، نستكشف معها بنية هذه المنطقة اليمنية، إنسانًا وأنظمة وقيمًا وعادات وتقاليد وأنشطة مهنية، كل ذلك يقع ضمن سياق شرح اللفظ، ليمثل فضاء المعجم خارطة متكاملة تمتد من مستوى الطبيعة الوجودية ليتشكل عبرها النظم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية والدينية والتاريخية الحضارية لمجتمع المعافر.

شواهد فنية وثقافية وفلكُلور

على طريقة معالجة المادة اللغوية في المعاجم، سار الحكيمي في التدليل على معنى اللفظ والاستدلال الدقيق عليه، فحشد شواهد تمثل وعي مجتمع المعافر وتلخص نظم البناء المجتمعي، كالمثل الشعبي والأغاني والمهاجل والمهايد والملالاة وشعر الغناء التراثي والمعاصر، لكنا لن نقف عند حد إيضاح العلاقة بين دلالة اللفظ اللهجي المستعمل وبين استعماله في خطاب ثقافي مجتمعي، إلا من حيث هو نقطة انطلاق تبدأ منها علاقة الانعكاس بين منطوق اللفظ واستعماله في خطاب مجتمعي عام، كل ذلك هو انعكاس لواقع البنية الاجتماعية ونظامها وعلاقة أفرادها والنظام الطبقي وأشكال العمل وما يعتمل من حراك اجتماعي اقتصادي سياسي أفضى إلى تشكيل اللفظ وخطابه الاجتماعي والثقافي.

مثلًا، تبدو دلالة لفظ "ثعل" ناتجة عن الخبرة المباشرة لحقيقته الوجودية من حيث هو محتال ويتسم باللؤم، فالمنظور القيمي الاجتماعي هو المهيمن الاستدلالي للشرح الدلالي على حساب ماهية الثعل بصفته الحيوانية الظاهرة، وهو ما يؤخذ على المعجم، فقد اكتفى الشارح بأن الثعل من الفصيلة الكلبية، وساق الشاهد الاستدلالي من خلال المثل "بيد الأسد ولا بيد الثعل" في إيلاء مجتمع المعافر للأنبل من القيم، لكن الشاهد وإن قدم استدلالًا على معنى المفردة فهو بحد ذاته انعكاس لواقع سياسي وصراع، كما في شاهد البشاري عن الثعل أيضًا (ج1، ص187): 

أشكي عليك سد مأرب قد عثر 

ومعبد الشمس يلعب فيه ثعيل

يعد هذا المعجم ذخيرة لغوية لهجية وخزينة ثقافية، في يد الباحثين والمهتمين بالموروث الشعبي، كما يمثل متنًا توثيقيًّا ودليلًا تعريفيًّا لواحدة من أهم مناطق اليمن، يمكن أن يضيء فنونًا إبداعية مختلفة كالقصة والرواية والمسرح والسينما، ولا بد أن يتجه إليه النظر البحثي العلمي بالبحث والدراسة.

متنٌ توثيقيّ ودليلٌ تعريفيّ 

الشعر المعاصر هو ما يغلب على ذخيرة المادة الثقافية والفنية للمعجم، وربما كان ذلك بدافع إقامة شاهد حي ينتمي إلى عصر المفردة اللهجية المشروحة، يليه المثل الشعبي كونه يمثل الذاكرة الجمعية ويحظى بالحد الأقصى من الإجماع والمواضعة لدى مجتمع المعافر. أما الملالاة فهي أهم الفنون الأدبية خصوصية واتصالًا بالمنطقة، كما في شرح مفردة هاون (ج3، ص165):

شاهواك بلاش ما شاش قروش ولا انصاص

شاعمل هوان للحاسدين والانجاس 

وتسهم الأغنية المعاصرة أيضًا، في التفسير؛ لِمَا لها من شهرة وسعة انتشار، كاستعمال أغنية وادي الضباب لأيوب طارش في شرح معنى الضباب (ج2، ص151):

وادي الضباب ماءك غزير سكاب 

وفي الأخير، يعدّ هذا المعجم ذخيرة لغوية لهجية وخزينة ثقافية في يد الباحثين والمهتمين بالموروث الشعبي، لهجة وفنونًا وثقافة وفلكلورًا شعبيًّا، كما يمثّل متنًا توثيقيًّا ودليلًا تعريفيًّا لواحدة من أهم مناطق اليمن، يمكن أن يضيء فنونًا إبداعية مختلفة كالقصة والرواية والمسرح والسينما، ولا بد أن يتجه إليه النظر البحثي العلمي بالبحث والدراسة، وهي توصية هذه المقالة المقتضبة اليسيرة حوله.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English