بارود وعلاج حصن "اللسي" بذمار

أطلال التاريخ حين تتحول إلى ملاذ للاستشفاء
صقر أبو حسن
July 31, 2024

بارود وعلاج حصن "اللسي" بذمار

أطلال التاريخ حين تتحول إلى ملاذ للاستشفاء
صقر أبو حسن
July 31, 2024
.

قطع الخمسينيّ عبدالرحمن علي الريمي، 13 كيلومترًا، على ظهر دراجة نارية، ليرمي بجسده النحيل في جرف صغير يتصاعد منه بخار الماء؛ لعل ذلك يُنهي معاناته من مرض الروماتيزم الذي أُصيب به قبل بضع سنوات.

كان الريمي، يحمل جالون ماء عبوة 10 لترات، وضعه أمامه في رحلته من أحد أحياء مدينة ذمار حتى جبل "اللسي"، بمديرية ميفعة- عنس، ليقضي ساعات وهو يعرض جسده لبخار الماء الكبريتيّ المتصاعد قبل أن يغتسل ويغادر المكان، مع نجله الذي يقود الدراجة النارية، في رحلة شبه أسبوعية منذ نحو عامين.

يؤكّد لـ"خيوط"، أنّه توقف عن تناول الأدوية، وقرّر التوجه لهذا المكان، والسبب كما يقول بلهجته الريفية: "أنهكني المرض وأغرقني بالديون؛ كل أسبوع أسبوعين أشتري بعشرين إلى ثلاثين ألف أدوية، وأنا كم جهدي؟! لذا استجبت لمن نصحني قبل سنتين بالتوجه إلى حمامات "اللسي"، لعل وعسى أجد فيها حلًّا لأمراض الجلد والروماتيزم، حيث أحرص على زيارتها من وقت لآخر، ووجدت بعض التحسن فيها".

حمام كبريتي جوار حصن اللسي بذمار

حمامات كبريتية

تتميز محافظة ذمار، بوجود عددٍ من الحمامات المعدنية الطبيعية الساخنة التي تُستعمل لأغراض علاجية؛ وهي عبارة عن كهوف، تنبعث منها أبخرة كبريتية حارّة، تُستعمل في علاج الأمراض الجلدية والروماتيزم، وعددٍ آخر من الأمراض الأخرى، لكنها تفتقر إلى أيّ خدمات ومرافق تسهّل للزائرين والقادمين للسياحة العلاجية، التمتعَ بهذه الخصائص الفريدة لهذه الحمامات الطبيعية.

من أهمّ هذه الحمامات الطبيعية: "اللسي" الذي يعتبر جبلًا بركانيًّا خامدًا، ويوجد به حمامات طبيعية. ويحتاج الزائر لهذا الجبل أن يجلب معه كميات من المياه، حتى يستفيد من هذه الحمامات الطبيعية الفريدة.

باحث في جامعة ذمار، يؤكد أنّ السبب الرئيسي لإنشاء الحصن كان لمنع أتباع الإمام القاسم بن محمد من استخراج مادة الكبريت التي كانت تمثل المادة الرئيسية في صناعة البارود المستخدم في ذخيرة البنادق، مشيرًا إلى إنفاق الوزير محمد باشا الأموالَ الكثيرة لبناء الحصن والحامية العسكرية التي رابطت فيه.

يرى مدير مكتب السياحة بمحافظة ذمار، إبراهيم المقدشي، في تصريح لـ"خيوط"، أنّ اللسي مهيَّأ ليكون مزارًا ضمن السياحة الاستشفائية العلاجية، أو السياحة التاريخية والأثرية؛ لِمَا يتميز به المكان من عوامل جذب كبيرة.

لكن المشكلة التي يعاني منها الزائر -وفق المقدشي- هو انعدام الخدمات، مثل: المطاعم، ووجود مصادر جيدة للمياه، وأيّ خدمات إيوائية، إلى جانب وعورة الطريق، مضيفًا أن هذه المنطقة السياحية، تحتاج إلى اهتمام رسمي، ومن القطاع الخاص والمستثمرين ورؤوس الأموال للاستثمار في هذه المنطقة، وفي مثل هذه الأماكن التاريخية والسياحية بشكل عام، والاستفادة من الخصائص الطبيعية لها، ما لم فستقتصر الزيارات على أعداد قليلة ومحدودة من السكان، كما هي الآن. مؤكدًا أنّ الخدمات المتنوعة، تساهم قطعًا في عملية الجذب السياحي، وتحسين الواقع الاقتصادي والمعيشي لسكان المنطقة.

في حضن الجبل البركاني الخامد، يجد المئات من المواطنين ضالتهم في الاستشفاء من أمراض جلدية، وأمراض الروماتيزم، التي تهاجم أجساد اليمنيين المنهكة، بين الفينة والأخرى، ويعجزون عن الذهاب إلى المرافق الصحية المثقلة بفواتير مكلفة للعلاجات والأدوية، تفوق قدراتهم. 

وشهدت منطقة جبل "اللسي" قبل سنوات، وبمبادرات فردية من شخصيات وجمعيات، إنشاءَ بعض الكهوف التي يصدر منها بخار الماء، وغرف صغيرة بالأحجار أو الطوب، لكنها لا تكفي في حال كان الإقبال من النساء؛ حيث يضطر الكثير للانتظار ساعات قبل أن تفرغ من الزوّار. كما كانت هناك مبادرات فردية من أهالي المنطقة في تخصيص بعض المنازل المهجورة أسفل الجبل لاستخدامها، كمساكن للأسر القادمة من مناطق بعيدة.

حصن تاريخي

يتموضع شرقي مدينة ذمار، جبل "اللسي" كحارس أمين على منطقة ميفعة عنس بمحافظة ذمار، يرتفع بشموخ وكبرياء، فقد كان موقعًا استراتيجيًّا للدول اليمنية القديمة، وما تزال بقايا الآثار تكشف جزءًا من ذلك التاريخ.

رحلةٌ صعبة امتدت إلى نحو ساعة من أسفل الجبل للوصول إلى قمته في طريق جبلي شديد الوعورة، شُقّ في نهاية سبعينيات القرن الماضي، عندما وُضعت على قمة الجبل محطات الإرسال الإذاعي والتلفزيوني الحكومي. كانت سيارة الدفع الرباعي التي تُقِلُّنا، تتوقف أكثر من مرة بسبب وعورة الطريق، لكن الشاب الذي كان يقودها يُصِرّ على أن ننهي الرحلة إلى قمة الجبل.

يشير محمد علي القيسي، أحد أعيان منطقة "اللسي"، بيده إلى سورٍ في قمة الجبل البركاني، ما يزال قائمًا حتى اليوم، ويتحدث لـ"خيوط": "هذا السور من عهد الأتراك، فقد كانوا يسيطرون بالتمركز عليه، على مناطق في إب والبيضاء وذمار".

يضيف القيسي: "قبل الوجود العثماني، كان موقعًا استراتيجيًّا حصينًا، يطل على وديان وقيعان زراعية كبيرة، وما يزال الطريق المرصوف بالأحجار من أسفل الجبل حتى قمته بطريقة هندسية فريدة، شاهدًا على ذلك الحضور التاريخي".

في السياق، ذكر الباحث في قسم الآثار والمتاحف بجامعة ذمار، مبروك الذماري، في بحث حمل عنوان "حصن الكبريت (اللسي) العثماني"، نُشر في العام 2016، في مجلة "منبر التراث والآثار" من جامعة تلمسان بالجزائر، أنّ الوالي العثماني محمد باشا أمرَ ببناء حصن على قمة جبل "اللسي" في العام (1026هـ/ 1616م)، في الفترة الأخيرة من حكم العثمانيين الأول لليمن. وأعاد الباحث سبب بناء الحصن إلى أنّه كان بهدف "منع عناصر المقاومة اليمنية من الاستيلاء على الجبل".

كما أنّ السبب الرئيسي لإنشاء الحصن -بحسب الذماري- هو منع أتباع الإمام القاسم بن محمد، من استخراج مادة الكبريت التي كانت تمثّل المادّة الرئيسية في صناعة البارود المستخدم في ذخيرة البنادق، مشيرًا إلى إنفاق الوزير محمد باشا الأموالَ الكثيرة لبناء الحصن والحامية العسكرية التي رابطت فيه.

أطلال للاستشفاء

اليومَ، لم يعُد الحصن إلا أطلالًا، منها السور والحامية وبركة لتجميع المياه، وبعض أبراج الاتصالات والبثّ الإذاعي والتلفزيوني الأرضي، وأرض قاسية بتضاريس صعبة.

الجدير بالذكر أنّ استخدام حمامات "اللسي" للاستشفاء، ليس ظاهرة حديثة بل قديمة، أكّدها المؤرخ الهمداني (ق. 4هـ) عندما قال في كتابه "صفة جزيرة العرب": "أسي -اللسي- ما بين إسبيل وذمار: أكمةٌ سوداء تسمى حَمّة، بها جرف يسمى حمام سليمان، والناس يستشفون به من الأوصاب والجرب وغير ذلك". منذ قرون لم تتغير وظيفة المكان، وأيضًا لم يتغير شكله البدائي في الوقت الراهن.

•••
صقر أبو حسن

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English