فاطمة العبادي&وليزا الجاندي
اضطر المزارع علوي سيف قائد إلى بيع ذهب وحلي بناته؛ حتى يتمكن من شراء منظومة تعمل بالطاقة الشمسية، ليتمكن من سقي أرضه الزراعية الواقعة في منطقة الحسيني بمديرية تبن- محافظة لحج، بحسب حديثه لـ"خيوط"، بعد أن استزرع الليمون والطماطم والمانجو والبصل والبطاطا الحلوة، بدلًا عن محاصيل وأعشاب كانت تزرع في مزرعته أبًا عن جد، وتشكل خصوصية لمحافظة لحج تتفرد بها عن بقية محافظات اليمن، مثل: القطن، والعفص، والجمرك (الديمن)، والجامبو، إلى جانب البن، والبلح، لكن هذه المزروعات تراجعت، بل نستطيع القول إنها تلاشت في السنوات الأخيرة لأسباب عديدة يقف المزارع أمامها عاجزًا.
العم قائد، ليس المزارع الوحيد الذي لم يتمكن من زراعة المحاصيل الزراعية النادرة والنقدية التي كانت تشكّل مصدر دخل قومي للمحافظة وللبلد عمومًا، بل يكاد يكون هذا هو الوضع السائد عند عشرات المزارعين غيره ممن اضطرتهم الظروف إلى استبدال المحاصيل الزراعية النادرة والنقدية بأخرى موسمية واستهلاكية، مثل الخضار، ووصل الحال ببعضهم إلى بيع أرضه وحقوله بعد أن تصحرت تمامًا.
الجنة التي كانت
بساتين الحسيني التي تغنّى بها الشعراء والأدباء، والتي كان لا يكاد المرء أن يرى فيها درب الطريق أثناء السير نحوها من كثرة أشجارها ووفرة محاصيلها وتفردها بثمارٍ عدة ونادرة، أصبحت أشبه بأرض يباب، معظم مساحاتها الزراعية خالية، نتيجة عوامل عدة تآمرت كلها على هذه الأرض التي كانت واحات وارفة؛ على رأس هذه الأسباب: المد العمراني الذي يلتهم الأراضي الزراعية تدريجيًّا حتى كاد يأتي عليها تمامًا، إلى جانب التغيرات المناخية التي ألقت بظلالها على موسم هطول الأمطار الموسمية، وتذبذب منسوبها، إضافة إلى اتجاه عدد كبير من المزارعين لاستبدال المحاصيل الأصيلة، بأخرى أكثر انتشارًا وطلبًا وأقل عمرًا.
الجدير بالذكر أنّ المساحة الإنتاجية لمحاصيل محافظة لحج، تبلغ أكثر من 32168 هكتارًا؛ أي ما نسبته 3.7% من إجمالي إنتاج المحافظات، بحسب بيانات الإحصاء الزراعي لسنة 2009.
وتمتاز أراضي محافظة لحج، بزراعة الحبوب بأنواعها: الذرة، والدُّخن، والشعير، مثل: المانجو، والباباي، والشمام، والجوافة، والبطيخ (الحَبْحَب)، والرُّمان، والموز، إضافة إلى الحمضيات والخضروات، مثل: البطاطا، والبامية، والفلفل الحار، والخيار، إلى جانب البقوليات، مثل: الفاصولياء الخضراء.
ومن المحاصيل النقدية: البن، والقطن، والسمسم، بالإضافة إلى أنواع عدة من الأعلاف، والحشائش، والبرسيم.
نتيجة لافتقار محافظة لحج إلى بنك وراثي يضمن حفظ (السيتوبلازم) لإعادة زراعة الأصناف النقدية التي اشتهرت بها، تسبب ذلك بفقدان لحج لمحصول (كود أربعة) وصنف (متوسط التيلة) بشكل كلي، وعوضًا عن هذه الأصناف تم زراعة مزروعات وأصناف هجينة ومنتشرة، وتنمو خلال فترة زمنية وجيزة لا تتجاوز العام الواحد.
جينات وراثية تموت
وكانت زراعة القطن (الذهب الأبيض) في لحج، أولوية لدى المزارعين، باعتباره المحصول النقدي الأول، مساحةً وإنتاجًا، يليه محصول السمسم، واللوز، وصنف من الذرة البكر، المسمى بـ(الذرة الرفيعة)، لكن نتيجة لافتقار المحافظة إلى بنك وراثي يضمن حفظ (السيتوبلازم) لإعادة زراعة هذه الأصناف التي تشتهر بها المحافظة، تسبب ذلك بفقدان لحج لمحصول (كود أربعة) وصنف (متوسط التيلة) بشكل كلي، وعوضًا عن هذه الأصناف تم زراعة مزروعات وأصناف هجينة ومنتشرة، وتنمو خلال فترة زمنية وجيزة لا تتجاوز العام الواحد.
بالإضافة إلى ذلك، تميزت لحج بزراعة (العاط)؛ نوع من القشطة أو ما يعرف محليًّا بالخرمش، لكنه يتميز بوجود أشواك، ولذلك يسمى بالقشطة الشائكة، وهو نوع غير النوع المنتشر في مناطق كثيرة من اليمن (العاط النباتي). إضافة إلى نبات (العباسي) الذي جلبه سلاطين لحج منتصف خمسينيات القرن الماضي من الهند، ويعرف أيضًا بفاكهة السابوتا، التي يتراوح سعر السلة الواحدة منها بين50 و60 ألف ريال يمني، بحسب سعر صرف الريال اليمني في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة المعترف بها دوليًّا، وكذلك (القرنبيط) و(الكوبيش) -الملفوف- و(البقدونس)، وعدد من المحاصيل البستانية الرئيسية؛ كـالمانجو، والعنب، والموز، والبرتقال، إلى جانب أشجار نادرة، مثل (العناب) -نوع النبات التي تنتمي للفصيلة السدرية- إضافة إلى أشجار (الجمرك) أو ما يسمى (الديمن) -اللوز الهندي- أو (البيذان) الذي كان منتشرًا في بساتين لحج ويمتاز بفوائده الصحية الكثيرة، لكنه هو الآخر بات من النباتات المهدَّدة بالانقراض، في ظل يأس عام أجبر مزارعي المحافظة على التخلي عن الأراضي والحقول أو التوجه نحو زراعة الخضروات والفواكه الاستهلاكية وسريعة النمو، على حساب هذه الأنواع النادرة والنقدية.
اختفاء تدريجي للنباتات
تأثرت الزراعة في محافظة لحج سلبًا، تبعًا للتغيرات المناخية التي بدأت منذ 1975، العام الذي تنبأ فيه العديد من العلماء بحدوث كوارث طبيعية، مثل الفيضانات وارتفاع درجات الحرارة، التي أثرت على الزراعة، خاصة تلك المحاصيل التي تمتاز بها محافظة لحج.
نجيب أحمد سلام، أستاذ وقائية النبات بجامعة لحج ونائب عميد كلية ناصر للعلوم الزراعية، تحدث لـ"خيوط" بالقول: "الانقراض أثر بيئي طويل المدى، يأتي لحدوث تغيرات بيئية كبيرة، أو لظهور آفات مفاجئة كتلك التي حدثت في الخمسينيات والستينيات عقب غزو (الغراب المهاجر) لمحافظة لحج، مؤثرًا على مساحات واسعة وعلى محاصيل عديدة، لكن بالمجمل انقراض أنواع بعينها في محافظة لحج لن يطال إلا قلة قليلة من هذه المحاصيل، لكنه سيستمر تدريجيًّا في القضاء على هذه المحاصيل، إذا لم تتخذ الجهات المعنية الإجراءات اللازمة للحفاظ على الزراعة والمحاصيل الزراعية في المحافظة".
شكّل العمل التعاوني والتربة الخصبة حجر الأساس في جعل محافظة لحج تبدو كواحة زراعية غنية بمختلف أنواع المزروعات، إذ اعتمد العمل الزراعي في سبعينيات القرن الماضي على العمل التعاوني المنظم الذي ترعاه الدولة وتتبناه مختلف النقابات والفعاليات المجتمعية آنذاك.
الحنين للجمعيات التعاونية
وأشار سلام إلى جوهر التقهقر الذي تشهده محافظة لحج في الجانب الزراعي، بالقول: "شكّل العمل التعاوني والتربة الخصبة حجر الأساس في جعل محافظة لحج تبدو كواحة زراعية غنية بمختلف أنواع المزروعات، إذ اعتمد العمل الزراعي في سبعينيات القرن الماضي على العمل التعاوني المنظم الذي ترعاه الدولة وتتبناه مختلف النقابات والفعاليات المجتمعية آنذاك".
ويتابع: "أتذكر أن السيد حامد السقاف، دشن أول مشتل لأشجار الفاكهة، حيث ضمّ أصنافًا متنوعة من العنب والفراولة، وغير ذلك من الأنواع التي شكلت مشتل الحوطة الشهير، إلى جانب حرصه على تحسين الأصناف المتوافرة حينها، مثل المانجو".
وأضاف: "لحج أرض زراعية، دائمة الخضرة، زاخرة بأنواع شتى من النباتات المحصولية والغاباتية، وأشجار الفاكهة، إذ كان للأمير الشاعر أحمد فضل القمندان وغيره من الأشخاص من عِلية القوم وعامّتهم في (الصمصام) دور بارز، مطلع القرن العشرين في استيراد النباتات من الخارج، وتجريبها ورعايتها في بساتين (الحسيني) و(السركال) و(الجيل) حتى النجاح في البيئة المحلية".
توقف مصنع الغزل
توقفت زراعة القطن مدة 15 سنة، بسبب توقف مصنع الغزل والنسيج، ما أدّى إلى هدم وإنهاء محلج القطن في لحج، الذي كان يغطي حاجة أبناء محافظة لحج من الملابس ويوفر عائدًا اقتصاديًّا وفيرًا لأبناء المحافظة، إلا أنّ جهودًا مبذولة مؤخرًا، تسعى للاهتمام بإعادة زراعته، حيث بدأ مركز أبحاث الكود ووزارة الزراعة في إعادة زراعة المحصول بصنفيه؛ طويل التيلة، ومتوسط التيلة.
ومن التحديات التي تواجه المزارعين في لحج، ما يسرده لـ"خيوط"، المزارع عبده سالم، الذي يعمل في الحسيني، أنه بعد أن اشترى أرضًا قاحلة قبل أربع سنوات، استصلحها، ليُفاجَأ بعد ذلك بأنه غير قادر على تصدير منتجات مزرعته؛ بسبب ارتفاع أسعار الديزل والبنزين، علاوة على التنافس الذي تشهده المنتجات أمام المنتجات القادمة من المحافظات الأخرى.
التنظيم كحل للمشكلات
وبالرغم من الوضع المتدهور للزراعة في محافظة لحج، فإن المزارع سعيد مبروك القادم من محافظة أبين، يرى أن فرص العمل الزراعي ما يزال الأفضل مقارنة ببقية المحافظات، وتحدث مبروك لـ"خيوط"، أنه يعمل في مزارع الحسيني منذ أربع سنوات، مضيفًا: "العمالة في لحج أفضل من حيث الفرص، خاصة بعد أن زرعت: المانجو، والجوافة، والباباي، إلى جانب البصل والبطاطا الحلوة، فالتربة في لحج خصبة ولا تخذل من اهتمّ بها، وأسباب فشل بعض المشاريع يتعلق بتحديات ثانوية متعلقة بالعجز العام عمومًا".
كثير من المزارعين يتفقون مع مبروك، ويرون أن البحث عن حلول بديلة قد يساهم في حل بعض المشكلات التي يواجهونها، من بينها: الري بالتقطير لمواجهة شح المياه، وإنشاء بنوك عديدة للمحاصيل في سبيل حفظ الجينات الوراثية للمحاصيل، إضافة إلى تنظيم عملية الزراعة في أراضي الحسيني، وتنظيم عملية السقي من مياه السيل، في سبيل تحقيق العدالة بين المزارعين.
مكتب الزراعة بالمحافظة، حمّل المزارعين مسؤوليةَ الوضع الذي وصلت إليه العملية الزراعية في المحافظة، وأرجع المكتب ذلك إلى عدم اهتمام المزارعين بالزراعة المحلية، علاوة على اتجاه المزارعين نحو الأعلاف التي يعتقدون أنها مربحة أكثر من البذور.
تقاذُف مسؤولية التدهور
في سياق معرفة دور الجهات الحكومية في إعادة المحاصيل النادرة في لحج، وسبل الحفاظ على المحاصيل المهدَّدة بالانقراض، طرقت "خيوط" باب مكتب الزراعة في المحافظة، الذي حمّل المزارعين مسؤولية الوضع الذي وصلت إليه العملية الزراعية في المحافظة، وأرجع المكتب ذلك إلى عدم اهتمام المزارعين بالزراعة المحلية، علاوة على اتجاه المزارعين نحو الأعلاف التي يعتقدون أنها مربحة أكثر من البذور.
من جانبه، تحدث لـ"خيوط"، مدير إدارة التخطيط بمكتب الزراعة بالمحافظة، المهندس أحمد طيرم، عن جهود يبذلونها في سبيل عودة الزراعة لسابق عهدها، وإنقاذ المحاصيل المهدَّدة بالانقراض، إذ يقول: "لقد أعددنا دراسات عدة لإعادة محلج القطن في المحافظة، ومصنع الطماطم، لكن ما يجدر أن أذكره لكم، أنه لم يعُد للدولة مزارع كما كان في السابق، وما تبقى فقط هو مزرعة (إكثار البذور) فقط، وتبلغ مساحتها 360 فدانًا".
وأضاف طيرم: "نعمل حاليًّا في المكتب على مشروع (مكون السمسم) الذي يستهدف 400 مزارع للسمسم، وذلك بدعم من الصندوق الاجتماعي للتنمية، حيث تم استهداف المناطق العليا لوفرة المياه فيها، وسيقدم الدعم بـ10 كيلوجرامات من المحصول لكل مُزارِع، إضافة إلى تقديم (طرابيل) -أغطية أو سواتر من القماش أو البلاستيك- لحماية السمسم، وللحفاظ عليه، إضافة إلى توفير زيت الليمون، وبعض أدوات الرش وغيرها".
وينهي طيرم حديثه بالقول: "مؤخرًا، قام مكتب الزراعة في لحج بإنشاء بنكين لحفظ البذور؛ أحدهما في مديرية الحوطة، والآخر في مديرية تبن، إضافة إلى المشتل الزراعي. أحد هذين البنكين يغطي مناطق (العند، وزايدة، والشقعة)، والآخر للمدينة، وهما مجهزان بتجهيز عالٍ حديث للحفاظ على البذور وحفظها، وتم تشكيل لجنة مختصة للبيع والشراء، ويخصص 20 كيلو للبذور لكل مزارع؛ وذلك لحفظ البذور من الكوارث الطبيعية ودرجات الحرارة، وتشجيع المزارعين على استعادتها في أي وقت، وتبادل المنفعة وحفظ الصفات الوراثية.