ما قبل التفاصيل
يبدو أنّ الحُديدة ظهرت على الخارطة اليمنية كمرسى صيد في القرن الثالث عشر الميلادي. هذا ما ذكره ابن بطوطة في رحلته، ص240. وفي القرن الرابع عشر أصبحت قريةً ومرفأً صغيرًا. وهذا الكلام يتعارض مع القائلين بأنّ الحُديدة اسم لامرأة سكنَتْ هذا الموقع ثم توالى حولها الناس بعد ذلك. ويؤكّد الأستاذ عبدالرحمن الحضرمي بأنّ هذه المدينة ظهرت كمرسى لقوارب الصيد عُرف باسم المرسى الحادث؛ أي الحديث، ثم صُحِّفت الكلمة إلى أن أصبحت الحُديدة(1). إذن، مدينة الحُديدة ليست ضاربة في عمق التاريخ اليمنيّ كمدينة زبيد مثلًا. ومع ذلك باتت مع الوجود العثماني والنشاط التجاريّ، محطةً هامّة على اعتبار موقعها الجغرافي الممتاز كمكان يتوسط محافظة الحُديدة وكمرسى للصيد وللنقل التجاري ولتحرك القوات التركية.
والحُديدة مدينة تقع على ساحل البحر الأحمر؛ وتمتد من رأس الكثيب شمالًا إلى منطقة منظر جنوبًا، ويحدّها من الشرق صحراء الزعفران. وأهم أحيائها القديمة ما يلي:
حارة السور، حارة الحشابرة، حارة الهنود، حارة الحوك، حارة المطراق، حارة الترك، حارة المشرع (اليمن)، حارة الصديقية، حارة الشحارية، حارة الدهمية.
أمّا اليومَ فقد توسعت المدينة توسعًا كبيرًا، حيث أضيف إلى الحارات القديمة، الحاراتُ التالية:
حارة مدينة الثورة
حارة القاهرة
حارة العيش والملح
حارة مدينة العمال
حارة التعاون
حارة البستان
حارة البيضاء
حارة الحالي
حارة الحي التجاري
حارة القلعة الجنوبية
حارة الكورنيش
حارة الشيخ زايد
حارة كوكبان
حارة غليل
حارة الصبالية
حارة الربصة
حارة الزرانيق
حارة المغتربين
حارة صدام
على أنّ هذه الحارات تتوزع إداريًّا إلى ثلاث مديريات، هي:
مديرية الحوك
مديرية الميناء
مديرية الحالي
تدل المؤشرات على أنّ النشاط الموسيقيّ في الحُديدة تأثّر بشكل ملحوظ بمجريات الحياة الموسيقية في المناطق التهامية الجنوبية والوسطى والشمالية، وقد يكون ذلك ناتجًا عن التداخل السكاني بين الحُديدة وهذه المناطق، حيث تتوفر في الحُديدة أغانٍ شعبية ذات امتدادات جنوبية وشمالية ووسطى.
وتجدر الإشارة إلى أنّ مدينة الحُديدة قابلة للتمدّد، ما جعلها محطَّ اهتمامِ كثيرٍ من اليمنيين، خاصة أولئك الذين تمتلئ أخيلتهم بالفتوحات التجارية الكبيرة. وتجدر الإشارة إلى أنّ الحُديدة باتت مدينة مفتوحة للهجرات الداخلية والخارجية. ويمكن الإشارة هنا إلى أنّ للأتراك والهنود والأفارقة تواجدًا ملحوظًا تشهد عليه الحارات التي تطلق عليها، وهي (حارة الترك)، و(حارة الهنود)، و(حارة الدهمية). وإذا كان تواجد الأتراك في الحُديدة مرتبطًا بالنفوذ السياسي التركي، فإنّ الهندوسيين استوطنوا الحديدة لأغراض تجارية. أمّا الأفارقة فيعودُ انتشارُهم في تهامة عمومًا إلى الدولة النجاحية في القرن الخامس الهجري. وهناك من يعيد وجودهم في اليمن إلى الممالك اليمنية القديمة، وبالذات أثناء الغزو الحبشي لليمن (525م).
الحالة الموسيقية في الحديدة
بدايةً، تدلُّ المؤشرات على أنّ النشاط الموسيقيّ في الحُديدة تأثّر بشكلٍ ملحوظ بمجريات الحياة الموسيقية في المناطق التهامية الجنوبية والوسطى والشمالية، وقد يكون ذلك ناتجًا عن التداخل السكاني بين الحُديدة وهذه المناطق، حيث تتوفر في الحُديدة أغانٍ شعبية ذات امتدادات جنوبية وشمالية ووسطى.
لنقف مثلًا عند بعض الأغاني الشعبية:
أغاني الهدهدة (المداباة والملالاة)، وتؤدّى لتنويم الطفل في الهندول. من هذه الأغاني:
وا ليل وا ليل وا روح امليل
يالله بنوم لابني يرقد
ديديه واديديه ديديه واني فديه
ديديه واديديه ديديه ذبحنا جديه
من أغاني الختان:
لالالالا
لالالالالاه وأقول للحكيم داوه
مطعونة في جنبي وأقول للحكيم داوه
ومن أغاني تدريب الطفل على الجلوس:
أغنية (جلس جلس)
جلس جلس جلاسه وابن الأمير والباشَه
جلس جلس جلاسه وعمتي امعباسه
ومن أغاني ألعاب الأطفال:
جلاجل
جلاجل وا جلاجل ما قل ابوك تعاجل
من امضحي لباجل رمن ابوك رصاصه
وامه وامه
وامه وامه منتش امّنا
تحبن زوجك أكثر منّنا
واجده سلام
واجده سلام عيريني امزمام
شالعبه قليل مابيت الخليل
واجهني امرباح في يده مسبحةْ
يقرا الفاتحةْ وحريمه ثمان
ويشاني امتاسعةْ
صابينا
صابينا من امعلامةْ
لا سيف ولا سلامةْ
صابينا من قرية اليمن
لا شرقن ولا غربن
وا مطر يمطر
وامطر يمطر واني بردةْ
عيشنا نَي هاتي امحوتةْ
وإذا خرجنا من أغاني الأطفال، فسنجد أنفسنا أمام تصنيفات غنائية شعبية، يمكن حصرها في:
- أغاني الزواج.
- أغاني العمل.
- أغاني النساء.
- أغاني الجوالة.
- أغاني الزار.
أغاني المناسبات الدينية
وكلُّ عنوانٍ يحتوي على طائفة من الأغاني ذات العلاقة بالمناسبة، وهي في عمومها أغانٍ جماعية وصفيّة وتتضمن صيغًا غنائية بسيطة وتؤدّى جماعيًّا، وبعضها تؤدّى فرديًّا وجماعيًّا، باستثناء أغاني الهدهدة وأغاني الجوالة وأغاني الزار وأغاني النساء، حيث تؤدّى معظمها أداء فرديًّا.
فالأغاني الشعبية إذن، تحتل مساحة واسعة في التكوين الوجداني لأبناء الحُديدة المنحدرين من مناطق جنوب ووسط وشمال الحديدة. ومن المعلوم أنّ هذه الأغاني ظهرت كامتداد روحي لنشاط الجماعات والأفراد في المهن والمناسبات المختلفة. وأتذكر أنّ عاملات تنقية البُنّ اللاتي ينتسبن إلى حارة الدهمية، كُنّ يردّدن أثناء العمل في الأماكن المخصصة لهن في حارة السور هذه الأغنية:
- العاقلة(2): بنات بنات هموا في عملكن قال الشريف(3) شيبدل بدلكن
- العاملات: لمهْ لمهْ شيبدل بدلنا واحنا الذي هامين في عملنا
كان ذلك في ستينيات القرن المنصرم. وقد توقفت عند هذا المثل لأبيّن العلاقة العضوية بين الأغنية والطقس الخاص بها. وللأغاني الشعبية في الحديدة نفس الموازين الموسيقية للأغاني الشعبية في عموم تهامة.
وتجدر الإشارة إلى أنّ الموازين الثلاثية والسداسية والتساعية، إلى جانب الموازين البسيطة كالموازين الثنائية والثلاثية والرباعية البسيطة، منتشرة في الصياغات اللحنية للأغاني الشعبية في الحديدة.
وفيما يتعلق بالنسيج النغمي، فمن الجليّ أنّ معظم الأغاني الشعبية لا يتعدى عدد نغمات الجنس الواحد (أربع درجات موسيقية)، بل وبعضها لا تتعدى النغمة الواحدة، مثل أغنية (يا بركة):
يا بركة ايتي بمولد
يا بركة ادفعي بمولد
يا بركة اتبعي بمولد
ولكن بعض الأغاني تستغرق نغمات المقام، مثل أغنية (بالسلامة):
بالسلامة بالسلامة نزل الساحل أمان أمان
والله الحبيب بايسافر زاد قلبي شوق
يا معلم صب لي حجلي يا معلم صب لي حجلي
تلك هي إحدى أغنيات البحر التي اعتاد البحارةُ في الحُديدة غناءَها أثناء الإبحار أو عند السمر الذي تؤدّى فيه هذه الأغنية بمصاحبة الآلات التالية:
السمسمية، طبل الموج، المرواس، طبل المرد، الملاعق، القوارير، التصفيق بالأيدي.
وبعض الأغاني البحرية تقدّم نفسها من خلال التمازج الغنائي البحري الذي يجمع بعض مدن ساحل البحر الأحمر. ويتجلى ذلك في العناصر المكونة لهذه الأغنية، حيث إنّ الضرب الإيقاعي هو مصمودي صغير، كما أنّ الصياغة اللحنية جاءت متماهية مع التقسيم الداخلي لهذا الضرب الذي تبدو علاقته واضحة بأغاني بحارة السويس في مصر.
ومن الأشكال الغنائية التي يردّدها بحارة الحُديدة شكّل الموال الذي كانت تنظم له أماسيَ خاصة يستمع فيها البحارة إلى مجيدي هذا النوع من الغناء الذي تنسج أنغامه على قصائد من البحر البسيط، كما هو معمول به عند متذوقي هذا الشكل في بعض مدن ساحل البحر الأحمر كالحُديدة والسويس وجده. ويلاحظ أنّ هذه القصائد، رغم انضباطها العروضي، مفردُاتها مزيج من الفصيح والعامية التهامية إلى جانب تطعيمات من اللهجة المصرية وأحيانًا الحجازية. إليكم هذا النموذج:
نفسي التي علمتني اليوم واجبها أن تحفظ النفس ترفع في الورى جبها
تأخذ مرامك وما تمنع حواجبها
كل ما يقول مرحبا بك في مرابعنا عزيت عالعين وانت اليوم حاجبها
إليكم نموذج آخر:
يا دار فيك الشجن سكانك أحبابي لمّن نووا بالسفر تموا الوصية بي
وباطني جرح في وسط الحشى غابي البيه أخذني بعكس الجو ورمى بي
قال لي تفوت الرفاقة قلت يبقى عيبي والله لامضي زماني يابهم يابي
تؤدّى هذه الأبيات مساجلة في الأماسي التي يتفق على تنظيمها بعضٌ من محبّي هذا اللون، وهم في الغالب من البحارة ومن منتسبي مهن أخرى ممّن يجدون في هذا الطقس فسحة وجدانية مثالية. وأتذكر أنّني في صغري كان يأخذني أخي عمر علي أحمد (رحمه الله) إلى هذه الجلسات التي يتراوح عددها بين الخمسة والعشرة. وتتم المساجلة على النحو التالي:
يبدأ أحد الجالسين بقول مقطعٍ شعري من محفوظاته، وبعد انتهائه يأخذ الدور عضو آخر، وهكذا. وليس بالضرورة مشاركة كل الحاضرين في هذه المساجلة، إذ إنّ ذلك يقتصر فقط على الحافظين. على أنّ الجميع يستمتع بمجريات هذا الحوار الجميل. وعندما يحضر الطقس من يُجيد غناء الموال، يفوز الجميع بلحظات شائقة.
ذلك وجهٌ من اللوحة الغنائية في مدينة الحُديدة. أمّا الوجهُ الآخر فمرتبط بنشاط المسامعة وممارسي الغناء من المحترفين والهواه الجادّين. وتدل المؤشرات على أنّ القرن التاسع عشر شهد حراكًا فنيًّا تصدرته فرق وشخصيات مرموقة. أبرز هذه الأسماء:
- أسرة بني الزواك التي اشتهر فيها أحمد بن عبدالرحمن (صائم الدهر)، وعبدالله بن طاهر (صائم الدهر).
- أسرة بني الدوم التي اشتهر منها المسمع عبدالله بن أبكر بن أحمد الدوم الأهدل، الذي لُقِّب بالدوم الكبير.
ومن ممارسي الغناء في هذه الفترة: الشيخ محمد القاسمي، الشيخ مصطفى أحمد مصطفى، إلى جانب فنّانِين آخرين لم يكتسبوا ذات شهرة الشيخين أعلاه.
وغالبًا ما كان الفنّانون يكتسبون أوسع سمعة بتوفر ما يلي:
- الكمّ الذي يحفظونه من موشحات وقصائد بألحانها، ما يجعلهم محطَّ الاهتمام.
- جمال الصوت والتجويد النغمي.
- السيطرة على الجماليات التقليدية للأداء، مثل:
- المبالغة في العُرَب، بما لا يخل بسياق اللحن.
- التقطيع الصوتي الذي لا يتعارض مع وضوح الكلمة.
بعض الأغاني البحرية تُقدِّم نفسها من خلال التمازج الغنائي البحري الذي يجمع بعض مدن ساحل البحر الأحمر. ويتجلى ذلك في العناصر المكونة لهذه الأغنية، حيث إنّ الضرب الإيقاعي هو مصمودي صغير، كما أنّ الصياغة اللحنية جاءت متماهية مع التقسيم الداخلي لهذا الضرب الذي تبدو علاقته واضحة بأغاني بحارة السويس في مصر.
مهارة الارتجالات
وفي هذا المناخ، ظهر الشيخ جابر أحمد رزق (توفِّي 1905م) في الحُديدة التي جاء إليها بعد أن سبقته شهرته كأحد أساطين الغناء التقليدي اليمني، حيث عاصر في صنعاء الشيخ سعد عبدالله الذي يقال بأنه كان يحفظ ثلاثة آلاف مقطوعة شعرية. والجدير ذكره أنّ الشيخين كانا من مرتادي جلسات الغناء في بيت الحاكم التركي في صنعاء، ما يدل على طول باع الشيخ جابر في عالم الغناء. على أنّ شيخنا الذي جاء إلى الحُديدة هربًا من انتقام الإمام المنصور الذي باتت قوّاته تهدّد صنعاء، تبرعمت لديه نزعة رافضة لذلك النهج، الأمر الذي عزّز ميله إلى التماهي مع مجريات الحياة الفنّية في الحُديدة. لقد أصبح الشيخ جابر رزق في هذه المدينة عَلَمًا صوفيًّا يشار إليه بالبنان، بل واكتسب شهرة يمنية واسعة، حيث كان يتلقى الدعوات من حضرموت وعدن ولحج للمشاركة في المناسبات الدينية والحلقات الصوفية في تلك المناطق. والحُديدة من خلال تلك اللوحة تُقدّم نفسها كمدينة تفاعلت مع مجريات الحياة الفنية في بعض البلاد العربية التي شهدت في القرن التاسع عشر بداية النهضة الموسيقية العربية الحديثة.
ومنذ ذلك التاريخ، تأصّلت في هذه المدينة تقاليد غنائية ذات ملمحين متمايزين:
تقاليد الغناء الصوفي الذي يتمحور في (فنّ السماع)، وتقاليد غناء المحترفين والهواة الجادّين الذين حافظوا على تقاليد غناء الطرب.
وفيما يتعلق بفنّ السماع، فيمكن الإشارة إلى مسامعة ظهروا كامتداد لفترة الشيخ جابر رزق، مثل:
- الشيخ حسن صديق، الذي سكن في بيت يتوسط حارتَي الهنود والحوك. وتؤكّد الحكايات الشفهية بأنه ابتكر ألحانًا لقصائد ما زالت تُردَّد إلى يومنا هذا، مثل: "لي شذا تحرّك من هواه"، للقاضي ابن المفتي الإبِّي، وقصيدة "نفس على برحاء الشوق" لابن الأمير.
- الشيخ محمد نوح، الذي عُرِف باقتفاء أثر تجربة الشيخ جابر رزق.
- الشيخ عبدالله سليمان، الذي تتلمذ على يديه بعض المسامعة.
- الشيخ عمر بركات، الذي نال شهرة واسعة في تهامة كمسمعٍ تمتع بمميزات فنّية استثنائية.
- الشيخ حسن عمر.
- الشيخ عبدالرحمن بكيرة.
- الشيخ علي الجمالي.
- الشيخ عبدالإله بابيس.
- الشيخ عبدالقادر عطار، الذي ما زال يواصل رحلته في هذا الفنّ العظيم، على الصعيدين العملي والنظري.
وفي الوقت الحالي، ظهر شباب في الحُديدة يتفاوتون في إجادة فنّ السماع، منهم:
- يحيى العمري.
- محمد شنب.
- أيمن ضحوي.
- محمود عمر بركات.
- سليمان حضرمي.
- أحمد عبدالرحيم.
وإذا انتقلنا إلى محترفي الغناء وجهابذة الهواة، فيمكن القول بأنه إذا كان القرن التاسع عشر قد شهد حضورًا قويًّا للشيخين محمد القاسمي، ومصطفى أحمد مصطفى، فإنّ القرن العشرين سجّل لبعض الأسماء في الحُديدة تواجدًا لافتًا. من هذه الأسماء:
- موسى محمد بورجي.
- عايش حقاري.
- محمود عبدالودود.
- محمد طبيشي.
- أحمد على أحمد.
- محمد عياني.
وابتداء من النصف الثاني للقرن العشرين إلى الوقت الحاضر، ظهرت أسماء لامعة. أذكر منها:
- يحيى إسماعيل محمود.
- يحيى الشلال.
- عبدالودود محمود عبدالودود.
- أحمد فتحي.
- جابر علي أحمد.
- عبدالملك موسى جيلان.
- سليمان سعيد مسلماني.
- علي عبادة حسن.
- محمد أحمد اليتيم.
وعند الحديث عن الفرق الموسيقية، سيكون لبعض تلك الأسماء أدوار نوعية في تحريك الحياة الموسيقية في الحُديدة.
(يتبع...)
رابط الحقة الثانية:
https://www.khuyut.com/blog/alhudyadah-songs2