"الدّيَنَّا" وتسريد متخيل الألم

رواية تحمل آثار الحرب وأوجاعها
د.عبدالحكيم باقيس
June 29, 2024

"الدّيَنَّا" وتسريد متخيل الألم

رواية تحمل آثار الحرب وأوجاعها
د.عبدالحكيم باقيس
June 29, 2024
.

كيف للرواية في اليمن أن تحيط بكل أوجاع النزاعات والحرب؟! وكيف للتخييل أن يؤدي لعبة الإيهام الواقعي بما هو مثخن في واقعيته أصلًا؟! وكيف للكُتّاب أن تتخيّروا زوايا المقاربة، وخصوصًا من عايشوا أحداثها أو كانوا جزءًا من تفاصيلها؟ أليس في هذه الحرب المزيد من القصص والمواقف التي تشكّل مادة خصبة للكتابة والتناول في مختلف أشكال الكتابة السردية؟! أسئلةٌ كثيرة يطرحها متخيل الحرب في الرواية في اليمن، في ظل عنفها وأحداثها وآثارها الممتدة منذ عشر سنوات، التي باتت تتخذ أوجهًا عديدة في ذميميتها وضرامها على حياة الناس! وفي هذه المدة كذلك، بات حصادها في الرواية يغري بالمزيد من البحث والتأمل، ولم يزل مداد المتخيل المُراق على بياض الكتابة يحاول أن يلمّ بتفاصيل الدم، المسكوبة على تراب الواقع، ويؤسس للذاكرة السردية للحرب، التي يمكنها أن تحمي نفسها من ثقوب التاريخ.

البحث عن الأصول القديمة

من أحدث المكتوب عن الحرب اليمنية وآثارها، رواية (الدِّينَّا) لنهى الكازمي 2024، (صدرت قبل أشهر عن مؤسسة أروقة للدراسات والنشر في القاهرة)، وهي الرواية الأولى للكاتبة التي تخيّرت الولوج إلى عالم الرواية من نافذة تطل إلى ما أحدثته الحرب من خراب وآثار نفسية واجتماعية.

وتحكي الرواية حياة أسرة عدنية وجدت نفسها في بين فكَّي رحى الحرب، وعانت كل تفاصيلها المرعبة؛ القصف والخوف وخطر الموت، والنزوح والمرض والفقد، واختلال حياتها في ظل الصراعات، التي هدّدت وجودها، ودفعت بها إلى هجرة قسرية بعيدًا عن اليمن. ولأنّ تفاصيل الأحداث كثيرة، وشيطان السرد يستطيع أن ينتزع منها ما يجعله حدثًا مركزيًّا ومحركًا للسرد، ثم يستقطب إلى هامشه بقية التفاصيل الأخرى؛ فقد ركّزت الرواية على حادثة ترحيل بعض الشماليين إلى خارج عدن فوق سيارات النقل الثقيلة (الدينّات)، في ظل موجة التوجس والارتياب التي شهدتها السنة الأولى من الحرب اليمنية، ولحظة زمانية قصيرة في زمن الحرب الطويلة، تتخيرها الرواية لما نتج عن هذه الحادثة من تداعيات تتصل بخطابات الحرب نفسها، كالاعتماد على فكرة الأصول القبَلية والاجتماعية والمناطقية التي يعاني منها الجميع، وهو ما استثمرته الرواية في إنتاج خطابها، بدايةً بالإهداء الذي جعلته للضحايا الذين "قضوا بفعل المناطقية والعنصرية في اليمن"، وتناولها صدمات الحرب واختلال مفهوم الهُوية والمواطنة في ظل هستيريا الحرب وأخلاقياتها التي أصبحت تعيد تفسير الأشياء والولاءات والهويات بناء على منطق الحرب ودعائيته، من خلال العديد من المشاهد الحافلة بالدلالة، منها: مشهد شباب عشرينيّين ملثّمين يصوِّبون بنادقهم ولعناتهم على آخرين تم حشرهم فوق سيارات الترحيل، ومشهد انتزاع (محمد) من أمام بيته في أحد أحياء عدن، ووضعه فوق سيارات الترحيل بناءً على أصوله القديمة إلى خارج المدينة، ومشهد الجنود في الطرف الآخر من الحرب في "الراهدة" وهم يكررون السؤال عن هُوية المرحلين إليهم، وأعينهم تفيض بالسخرية والتشفي والاتهام.

تعدُّ رواية الدِّينَّا من أهم المكتوب في متخيل الحرب في الرواية اليمنية، في لغة سردية باذخة الدلالة، وفي جرأتها في مناوشة ما هو مسكوت عنه في البعدين الاجتماعي والسياسي، حيث خطابات إعادة بناء الهويات وصياغة مفهوم الوطن والانتماء.

تسريد متخيل الحرب

يجري تسريد متخيل الحرب من خلال تأطير زماني يذهب به إلى المستقبل، إلى أكثر من عشرين سنة من بداية الحرب، في نحو 2035، حيث تعيش أسرة عدنية ظروف الهجرة في بلد أجنبي لم تحدّد الرواية اسمه، عدا الإشارة إليه بـ(هنا)، بوصفه بلد الاستقرار والحياة والحريات، مقابل الحديث عن اليمن بوصفها (هناك) التي لم تزل تعيش واقعها المرعب والمخيف.

وتدير الرواية خطابها حول الهُوية والجذور وفكرة الوطن بين هذين القطبين، حيث تتقاطع المشاعر بين الخوف والحنين، خوف الأم (تماضر) من الماضي وكابوس الحرب وكل ما يتصل بها من أوجاع، ما دفعها إلى رفض كل ما له صلة باليمن، بما في ذلك اسم ابنتها (بلقيس)، وحنين الأب (محمد) إلى اليمن وجذوره وكل ما يذكره بها. وتبدأ الحبكة عندما تقرر (بلقيس) الزواج بشاب يمني ينتمي إلى غير منطقتها، ترفض الأم زواجها خشية تكرار مشكلتها القديمة مع أبيها، كما ترفض عودتها لليمن، ومن أجل تفسير ذلك الموقف، تطلب منها قراءة المدونة التي تغطي ذكريات الأم والأب عن فترة وجودهما في عدن، ومعاناتهما في ظل الحرب قبل عشرين سنة، وهنا تصبح قراءة المدونة استعادة سرية للماضي (الحاضر الآن)، ولحظة لإعادة اكتشاف بلقيس لماضٍ لم تعرف عنه جيدًا. ومن خلال قراءة مدونة المذكرات التي كتبها الأبوان، ينمو السرد باتجاه استعادة أحداث غائرة في الماضي، وتكتشف المعاناة والمأساة التي حلّت بأسرتها قبل ولادتها، تتعرف على قصة ترحيل أبيها (محمد) عن مدينته بسبب أصوله وجذوره الاجتماعية القديمة، ومحاولته تجاوز النقاط المسلحة من أجل العودة إلى أسرته في عدن وإلى طفله الذي يحتضر حتى الموت في غيابه، وتتعرف على معاناة والدتها (تماضر) وحياة الخوف والحزن والفقد والقلق التي عاشتها بسبب موت شقيقها الطفل (يوسف) الذي لم يجد الرعاية، وفتك به المرض، وأُلقي به في جب الموت والحرب، تتعرف في مدونة المذكرات المكتوبة على أوجاع الحرب وتأثيراتها المدمرة، وعلى العديد من التفاصيل التي دوّنها الأبوان عن ضحايا آخرين عاشوا معاناة الحرب ومأساتها، عن يوميات القصف والموت والطرق المقطوعة وانقطاع المياه والكهرباء والهرب والنزوح، وعن أوقات تتحول فيها الحرب من صراع سياسي إلى تمييز عنصري وكراهية متبادلة، في ظل السؤال الذي يطارد الناس (من أين أنت؟!)، وعن كل مشاهد الحرب التي يتم تضفيرها في قصة أبويها المكتوبة في المذكرات.

وهكذا تصبح قراءة المذكرات شرطًا من الأبوين لموافقتهم على سفرها من الـ(هنا) البلد الأجنبي الذي يجب أن تنتمي إليه، إلى اليمن حيث الـ(هناك) الذي لا تعرفه جيدًا، بلد الأبوين المخيف الخطر، الذي يجب التحصن عند التفكير في العودة إليه، حتى لو كانت تلك العودة يمكن أن تتم بعيني سائح لا قلب مواطن. وبذلك تصبح الرواية ذاكرةً سردية متخيلة للأسى الذي يمكن أن يُروَى للأبناء عمّا تصنعه الحروب بالناس من مأساة تترك آثارها في الذاكرة الفردية والجماعية.

الرواية وظاهرة السرد الذاتي

تنطوي الرواية المكتوبة في لغة سردية شديدة التكثيف والمشهدية، على تعدد في الرواة: (الراوي الإطاري الاستهلالي)؛ الحفيدة التي تقرأ المدونة بعد أن تحولت إلى رواية، ما يوحي بالميتاسردي، و(الراوي الداخلي بضمير المتكلم)؛ الابنة بلقيس التي تتحدث عن أسرتها ومدونة المذكرات وتعلق على أحداثها، والأم والأب بوصفهما راويين لقصتهما في المذكرات. وهذا الأسلوب السردي يرتبط بانتشار ظاهرة السرد الذاتي في الرواية اليمنية المكتوبة عن الحرب، حيث جماعية المأساة، ووفرة القصص التي يجب أن تروى بأصوات أصحابها، فضلًا عن تعدّد الشخصيات الأخرى وقصصها في الرواية، ما أتاح تعدّد المنظورات السردية والأيديولوجية، وتمرير الخطابات والحوارية والتعدد الصوتي. كما تنطوي الرواية على ذكاء بالغ في تخير أسماء الشخصيات وتوظيف شفراتها، مثل: (تماضر، محمد، يوسف، بلقيس، ...)، ولكل واحد من هذه الأسماء قصته في المرجعية التاريخية والتراثية، الموزعة بين قصص الحزن والألم الدائم، الإخراج والأذى في الموطن، الفقد والغياب، والمكان والأرض والهوية، كما لبعضها مفارقتها وسخريتها، مثل: (غاندي، تشيخوف،...).

من وجهة نظري، تعدُّ رواية الدِّينَّا لنهى الكازمي، من أهم المكتوب في متخيل الحرب في الرواية اليمنية، في لغة سردية باذخة الدلالة، وفي جرأتها في مناوشة ما هو مسكوت عنه في البعدَين الاجتماعي والسياسي، حيث خطابات إعادة بناء الهُويات وصياغة مفهوم الوطن والانتماء. وما كان لهذه الخطابات التي أنتجتها وقائع الحرب ألّا أن تجد طريقها إلى التمثيل السردي، وأحسب أنها ستطرح نفسها بقوة في العديد من الأشكال السردية إلى جانب ما أحدثته الحرب من بطولات ومآسٍ وانتصارات وهزائم وتعدّد أوجه الحرب ومفهوماتها، وذلك وفق نبوءة ترتبط بطبيعة سوسيولوجيا الأدب، أكان في إطار ما يطلق عليه بالكتابة الاستعجالية أو الكتابة من المسافة صفر، إذا ما استعرنا تعبير المسافة الذي أنتجته حرب أخرى أكثر دمارًا ووحشية، أم كان على مستوى الكتابة التأملية في مشهد الحرب بعد جلاء غبارها وتلاشي أدخنتها، وبما يسمح لنوع خاص من الكتابة، لها رؤيتها وخصوصيتها وخطاباتها.

•••
د.عبدالحكيم باقيس

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English