رحل عنّا، عن دنيانا بصورة فجائية الأربعاء الماضي 8 مايو 2024، المثقفُ والفنّان التشكيلي والمصوّر الجميل أحمد عبدالعزيز، الذي كان إلى أيام قليلة قبل وفاته يصافحنا على صفحته في الفيسبوك بصوره التي يلتقطها بصورة شبه يومية عن البيت والشارع والحي والمدينة وعن الناس والضجيج وعن الفراغ والوحدة والأشياء في وجودها القدري والعبثي، ممزوجة بنشر متقطع للوحاته التشكيلية.
هذه التدوينة شبه اليومية لصوره على الفيسبوك جعلت بعضًا مِن الذين تعرّفوا عليه من خلال صفحته وصوره فيها يعتقدون أنّ الراحل عبدالعزيز يقتصر تعريفه بالمصور.
وإذا بدا لأحد ممّن التقاه أو زاره حاملًا كاميرته، يظن أنّ الرجل مصور مثل أيّ مصور في صحيفة أو شركة أو منظمة... إلخ، فإنّ مثل هذا التوصيف (مصوّر) هو آخر محطة في سباق المسافات الطويلة لرحلة عمره الممتدة من عام 1956، حتى يوم وفاته.
فالراحل أحمد عبدالعزيز أديب ومسرحيّ وفنّان تشكيليّ، يكتب في صدر صفحته في الفيس هذا الاقتباس: "الشعر هو الأهمّ ولا شيء غيره"، وهذا مدخلٌ مهمّ لمعرفة الكينونة الشاعرية لدى هذا الفنّان الجميل.
وهو من حيث التعريف الشخصي، شقيقٌ للمفكر والباحث الكبير د. عمر عبدالعزيز، فإذا كان الثاني قد انطلق في محطات سياسية وإعلامية وبحثية في عدن والشارقة، فإنّ الأول انطوى على ذاته وظلّ رهين محبسَي عشق عدن وعشق الإبداع.
نعرف عن زميلنا الراحل أحمد عبدالعزيز أنّه كأخيه عمر، يعشقان ويمارسان هِواية الرسم، ولكن أحمد استمر في عشق الألوان والرسومات، أما د. عمر فقد غلبت الكتابة والبحوث والدراسات موهبة الرسم إلا ما ندر من نشر رسومات انطباعية.
ولا يخفى على أحد منّا تأثُّر الراحل أحمد عبدالعزيز بقراءات أخيه د. عمر عبدالعزيز في التصوف والروحانيات وفي فلسفة العرفان، وفي فكر المتصوفة كالحلّاج وابن عربي وغيرهما، واهتمامه بفلسفة التأويل في النص الإبداعي.
وهذا ما عكس هذه الثقافة الروحانية على شخصية أحمد عبدالعزيز، التي اتسمت بالصفاء والتنزّه عن ماديات الحياة، والانطواء عن الناس وعن ضوضاء المدينة، والاعتكاف التأملي في المنزل والمجتمع الصغير مع ريشته أو كاميرته، وإلى التسامي الأخلاقي والنزوع الإنساني والتواضع الجم في السيرة والمعاملة، وهو لذلك كان رجل الظلال الذي اختار دغل السكنى في غابة حياته وانشغالاته.
ورغم شظف العيش ومكابدة الحياة التي لاقاها في مجرى حياته، لم نسمع منه شكوى أو توسلًا لحاجة واستصغارًا للنفس، فقد كان منهجه في الحياة أن يعيش لإبداعه وفي كنف قراءاته وأحاديثه الثقافية التي لا تمل عن الشعر والشعراء والأدب والأدباء وعن المسرح، وتكريس حياته ومشاغله للمعنى الإبداعي والثقافي.
اتسمت شخصيته بالصفاء والتنزه عن ماديات الحياة، والانطواء عن الناس وعن ضوضاء المدينة، والاعتكاف التأملي في المنزل والمجتمع الصغير مع ريشته أو كاميرته، وإلى التسامي الأخلاقي والنزوع الإنساني والتواضع الجم في السيرة والمعاملة.
عن جماليات التصوير
لا أستطيع أن أدخل منصة الفيسبوك من دون أن "أشقر" على صفحته وأضع "لايك" على آخر صورة التقطها ونشرَها على صفحته وشاركها معي في صفحتي.
ولأنني كسول في التعليق على المنشورات بالإعجاب أو بـ"أحببته"، فإنني في تصفحي العابر على المنشورات أو الصور أو الفيديوهات لا أجد معنى جماليًّا ومعرفيًّا ينتمي أشدّ الانتماء إلى رؤية ثقافية في العين والقلب والعقل إلا حين أرى لقطات الفنّان التشكيليّ والمصوّر الفنان أحمد عبدالعزيز.
كل صور أحمد عبدالعزيز على بساطتها واختياراتها ذات البعد الحياتي والشعبي والإنساني، إنسانًا أو حيوانًا أو جمادًا، لا تنتمي إلى التصوير الطبيعي والفوتوغرافي للحيوات والأشياء، بل إلى تلك التي تبدو قليلة الأهمية ولكنها معرفيًّا تعبّر عن فرادة في اختيار المستهدف في الالتقاط وحواشيه المجايلة له وزمن اصطياد الصورة.
ربما ينتمي مصطلح (الاصطياد) للصورة في لحظة زمنية ومكانية مختطفة إبداعيًّا ورؤيويًّا تعبر عن مدى اقتناصها في لحظة فرادة يراها المصور أحمد عبدالعزيز أهلًا للتصوير في التقاطاتها زمنيًّا ومكانيًّا، ملونة أو رمادية.
الفرادة والاختلاف في موضوع التصوير تجعل من الصورة التي يأخذها المصوِّر أحمد عبدالعزيز شكلًا أقرب إلى القراءة التعبيرية، مثلها مثل النص الشعري أو النثري أو اللوحة التشكيلية، وهذا مراد المصور أحمد؛ أن تقرأ الصورة ببساطتها وجماليتها والتعبير الذي تحمله، وهنا تكمن فرادة امتهان الراحل للتصوير، رغم أننا لا نعرفه مصوِّرًا فوتوغرافيًّا لجريدة أو شركة أو عميلًا ما، بل حمل عبدالعزيز على نفسه احتراف مهنة التصوير بوصفها أحد أشكال القراءة التعبيرية وهو المثقف والشاعر والأديب والقاصّ المختفي وراء هذه المعارف التعبيرية دون أن يقولها.
الصورة لدى عبدالعزيز حالةٌ ما أو زاوية نظر إلى الحياة والطبيعة والأشياء الثابتة والمتحركة، تحركها رؤيةٌ ما فردانية تريد أن تقول موقفًا أو تعبّر عن حالة وجودية أو شاعرية في بعض المرات، أن تعكس رؤية المثقف والمبدع عبدالعزيز الذي يجعل من اختطاف لحظة من الزمن أثناء توقيفها في العدسة والفلاش مادةً لإظهار كل الرصيد الثقافي والإبداعي الذي يكتنزه المصور.
أحمد عبدالعزيز في الحقيقة وفي سلسلة حياته الظلالية والمتخفية في اقتراف التواضع والصمت البليغ والثقافة الصوفية الروحانية والقراءات المتعددة والنوعية والميول الشاعرية، مثقفٌ ومبدع عضوي كرسته حياة الفقر والضنك وشظف العيش للابتعاد عن الاختلاط الاستهلاكي والاكتفاء بالنظر عن بعد للحياة وأشيائها والعالم من حوله، من فلسفة (زاوية النظر) التي تميز مبدعًا عن آخر.
ترك أحمد عبدالعزيز وراءَه الشاعرَ والكاتب والمثقف التقليدي، واختار الصورة؛ لغة العصر، لتكون أداته في التعبير الإبداعي والثقافي، وما يميزه عن عالم الصورة الاستهلاكي اختيارُ الصورة ذات البعد التعبيري الرؤيوي.
بين اللوحة والصورة
وبين الرسم والتصوير، كانت مسافة تعبيراته الرؤيوية تتفاوت في لغة الإيصال، ويبدو أنه في المفاضلة بين الاثنتين، في ظل جفاف الريشة بسبب ضغوطات الحياة، جعل من التصوير مهنة احترافية، ومن الصورة الملتقطة مادته التعبيرية، ربما كان عليه الأسهل أن يحمل الكاميرا؛ لأن عالم اليوم هو عالم الصورة، وليس عالم اللوحة أو الكتابة، وهي وسيلة أسهل من الرسم والكتابة في الوصول إلى عقل وقلب المتلقي.
الشاعر أو الأديب المستقيل في شخصية أحمد عبدالعزيز، عوضه في المصور النوعي الذي بداخله، يدغدغه ويتحفز للخروج من جسده وعقله، وزاد من هذا التحول لغةُ العصر (الصورة)، تلك الأيقونة التي حملتها الشاشة التلفازية والإنترنت في منصات التواصل الاجتماعي، وغيرها من أشكال النقل والتواصل العولميّ.
أصبح الناس في عالمنا لا يقرَؤُون كتابًا ولا يتأملون لوحة ولا يذهبون إلى المسرح ليأخذوا جرعة رؤية مجتمعية أو إبداعية وثقافية، بل انغمسوا في التأثر والتأثير بشكل أكبر بالصورة، ثابتة أو متحركة، أصبح العالم بنخبه المثقفة والمتعلمة أو بالمجتمعات الشعبية والفئات الدنيا، تتعامل وتقرأ الحياة وتتعلم وتتثقف وتتماشى مع لغة الصورة.
لهذه العوامل، ترك أحمد عبدالعزيز وراءَه الشاعرَ والكاتب والمثقف التقليدي، واختار الصورة، لغة العصر، لتكون أداته في التعبير الإبداعي والثقافي، وما يميزه عن عالم الصورة الاستهلاكي اختيارُ الصورة ذات البعد التعبيري الرؤيوي.
وهنا مصدر ثقافية احتراف أحمد عبدالعزيز في حمل الكاميرا على كتفه، وجعله التصوير مهنة احترافية في آخر العمر.
عن فنّه التشكيليّ
وإذا نظرنا إلى مجموعة لوحاته التشكيلية، فسنجد أنّها تنتمي إلى التجريبية في زاوية النظر أو لطخات الريشة؛ فتارة هي من سلالة فان جوخ في "لطشات" اللون، وتارة إلى البيكاسوية في تقطيع الصورة، وتارة إلى رسومات البروفايل والمناظر الطبيعية.
كل هذه التقلبات المزاجية والتعبيرية تعكس موقف الفنان أحمد عبدالعزيز من الحياة ومن شظف العيش فيها ومن التعبير عن لمسات إنسانية.
تبدو لوحات الفنان عبدالعزيز وكأنها نشاطٌ لم يكتمل في الرسم والتعبير؛ أهي حالة قرف حياتي أم تعبير عن سأم أم أنّها خروج من دائرة الضيق، والبحث عن منحى تعبيري يبحث عن معناه في تلافيف ذاته؟
وبالنظر إلى صوره الملتقطة، فإنها لامحالة ذات جاذبية منزلية أو محيط حياة خاصة يريد تجسيدها (القطة المفتوحة العينين، المروحة في حالة توقف، النافذة الباحثة عن الضوء، الظلام المنزلي الدامس) مثلًا، كلها تعبيرات عن معاناة لم تُكتَب بالقلم والكيبورد كلمات معاناة وألم، وإنما لغة تصوير لمعاناة أبناء عدن من انطفاء الكهرباء المتكرر والطويل في صيف عدن، واحتياج المرء إلى قليل من التبريد وسط الحرارة والرطوبة، وإلى هواء الطبيعة من نافذة مشرعة.
إنّها حالات تصوير معاناته ومعاناة الناس في عدنه التي اختارها محبسه الأول، بلغة شفافة ودون ضجيج أو منشورات كتابية.
خاتمة
أحمد عبدالعزيز رجلٌ مهمَل وفقير، عاش حياته نظيف القلب واليد، وكرس مهاراته لأنبل ما في الحياة من قيم معرفية وإنسانية، من دون أن يدّعي الثقافوية أو النرجسية الإبداعية. وكما عاش خفيفًا على الجميع، رحل خفيفًا من الجميع.