من أواخر عام 2015 إلى عام 2018، شهدت مدينة عدن ظاهرة انتشار المبادرات الشبابية والثقافية، وبدا الأمر وكأنه ردة فعل إبداعية على الحرب وآثارها، حالة من الحلم الرومانسي باستعادة بعض ألق الماضي المديني بعد سنوات أو عقود من التهميش والتغييب بفعل الصراعات السياسية ونتائج حروبها الفاشلة، بضع سنوات خصيبة بالمبادرات الشبابية والمجتمعية التي جاءت في موازاة لروح المقاومة في عدن، على الرغم من كل الأوجاع والمشكلات، ويمكن أن نذكر من هذه المبادرات الشبابية والثقافية، على سبيل المثال: (عدن تقرأ، آفاق الثقافية، نادي السرد، نادي الشعر، الناصية، أمد الثقافية)، فضلًا عن زيادة نشاط المنتديات المحلية، مثل: (الهيصمي، وحنبلة، وابن جازم، وغيرها من المنتديات المنتشرة في الأحياء).
كانت هذه المبادرات في مجملها تشكّل إرهاصًا رومانسيًّا بحراك ثقافي مستقل يحاول أن يستلهم تاريخ المدينة ويستعيد ألقها الثقافي العشريني والثلاثيني الذي كان في القرن الماضي، حين كانت عدن تزهو حضاريًّا وثقافيًّا في حلمها الكوزموبوليتاني، وحين كانت تحفّها الأندية والمنتديات الثقافية، قبل أن تسقط الثقافة والوعي في غياهب الشمولية وبئر التأميم والتأثيم منذ السبعينيات.
وظاهرة المبادرات الثقافية والشبابية في هذه السنوات، جديرة بالبحث والتأمل من منظورات سوسيولوجية عديدة، ومؤشراتها الواقعية خصبة ومتنوعة؛ ندوات، صباحيات وأمسيات أدبية، ورش ثقافية وإبداعية، أصوات شبابية وكتابات جديدة، وروح أجدّ تحاول أن تتخلق بعيدًا عن الأيديولوجيات والأطراف المتصارعة، ثم بدأت ظاهرة تراجعها وانحسارها الملفت في السنوات التالية، ما يضع تساؤلات عدة عن أسباب التراجع؛ أَلِأنّها كانت نتاج مبادرات فردية مستقلة لم تجد من يرعاها ويوفر لها الدعم، وبالتالي لم تستطع الاستمرار والتطور، وليس عيبًا كونها مستقلة، فالإبداع الحقيقي يقوم على المبادرة الفردية ويأبى الوصاية أو التبعية، أم أن اشتراطات الواقع المحلي وفواعله السلبية كان ينبغي أن تؤخذ بالحسبان عند أية مبادرة، وخصوصًا في ظل غياب أثر رأس المال المحلي أو الأهلي في عدن والجنوب عامة في دعم المبادرات الثقافية، وقبل ذلك غياب دور مكتب الثقافة في عدن؟! فضلًا عن وجود أسباب عامة تتصل بالنكوص العام والخيبة بعد انخفاض منسوب الأمل بعد سنوات الحرب، وتأثيراتها الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، وهي أسباب جوهرية لا يمكن تجاهلها.
في عمق المشهد خلال تلك السنوات، كان هناك أدباء شباب مستقلون يشقّون طريقهم في ظل واقعٍ صعب، منهم على سبيل المثال أيضًا: أسامة المحوري، أنور قائد، سماح بادبيان، رانيا عبدالله، وأعتذر عن استخدام كلمة (مستقلون) ذات الدلالة السياسية في ظل اشتراطات واقعنا الجديدة، لأنّ ذلك جزءٌ من الواقع المحلي في عدن الذي لا ينبغي إنكاره، وهناك أدباء كُثر لم يسلط عليهم تسونامي الإعلام الضوء؛ لأنّهم قد جاؤوا خارج المؤسسة بمختلف سلطاتها: السياسية والإعلامية والنقابية والأكاديمية والاتحاداتية وغيرها، ولعل هذا الخلل يذكرنا في عقود سالفة بمحنة مثقف من خارج المؤسسة، وبرحلة القاص عبدالله سالم بوزير الإبداعية، وشقائه المتصل إلى لحظة الموت في كفاحه الفردي من أجل لقمة العيش، لأنّه كان يشق طريقه إبداعيًّا بعيدًا جدًّا عن المؤسسة وسلطاتها في عدن التي كانت تمنح الأضواء والامتيازات والإمكانيات للآخرين بسخاء آنذاك.
وهنا يمكن أن أشير في ظاهرة التراجع والانحسار، إلى تجربة تأسيس نادي السرد في عدن في 27 أكتوبر 2015، وما حقّقه في فترة وجيزة، وأسباب تعثره بعد ذلك. وأنا أكتب عن ذلك من واقع التجربة، ومن عمق المشهد الثقافي المتراجع. وهو كيان أدبي مستقل بكل ما لهذه الكلمة من دلالات، وكانت نواته الأولى وفكرته قد تشكّلت من قبل بعض الأكاديميين المختصين بالسرد في جامعة عدن، بالإضافة إلى الباحثين في شعبة الدراسات الأدبية، فانداحت دائرة المطالبين بتأسيسه إلى خارج أسوار الجامعة، وقد كانت مجمل النشاطات الأدبية للنادي أكثر من عشرين فعالية منجزة، ما بين ندوة وصباحية وورشة في الكتابة، من التأسيس في 27 أكتوبر 2015 إلى منتصف 2019، وجميعها بدعم فرديّ شخصيّ من بعض الأعضاء، وذلك يعني أنّه ظلّ يعمل نحو أربع سنوات بجهودٍ ذاتية من دون تلقي أيّ دعمٍ مالي من أية جهات أهلية أو حكومية أو سياسية، محلية كانت أم أجنبية، وهو كيان أدبيّ إبداعيّ ثقافيّ مستقل، ينأى بنفسه عن أية جهات سياسية في ظل مناخات الاستقطابات التي تمارسها بعض الكيانات السياسية، وبعيدًا عن أجواء الكراهية والحساسيات التي تحاول محاصر فكرة الأدب والثقافة وتأميم الإبداع، لكنه بعد ذلك لم يستطع المضيّ أكثر من ذلك؛ لغياب الرعاية والدعم المطلوب، ولعلّ ذلك شأن بقية المبادرات الثقافية في عدن التي تراجعت للأسباب نفسها.
أمام مشهد التراجع، هناك مؤسسات ثقافية صاعدة ببطء شديد، وهي التي استطاعت الاستمرار والصمود، بوصفها كيانات ثقافية أُنشِئت واستمرّت برعاية أطراف سياسية توفر لها الدعم المالي الكبير والسخي، والمؤسسات الثقافية التي أُنشِئت بدعمٍ وتمويل من منظمات ومؤسسات تمويل دولية، وعلى الرغم من الدعم السخي المتوفر لهذين النموذجين، يبدو أثرهما ونشاطهما محدودًا قياسًا بمصادر الدعم المالي الذي تتلقاه، وبعضها ظلّ حبيس الدوائر الخاصة، وبدأت تعاني من الشللية والمحسوبية والاشتغال ضمن أجندات خاصة، وتلك لعنة الحياة الثقافية ومرضها العضال.
ومن المهم كذلك الإشارةُ إلى سبب مهم، من وجهة نظري، في تراجع المبادرات الثقافية والشبابية في عدن، وهو انقطاع الصلة بين الأجيال الثقافية في عدن؛ ولذلك تأتي التجارب الشابة الإبداعية الصاعدة معزولة عن السياق الثقافي العام وتراكماته التاريخية، وكأنها لا تشعر باليتم ولا تحتفل بذلك، بخلاف أثر هذا الامتداد الإيجابي المتحقق في بعض المدن اليمنية والعربية، وكأن التأسيس لثقافة القطيعة مع الأجيال السابقة عدوى سارية وضاربة بجذورها السالبة، وممتدة من السياسي إلى الثقافي.