عمل المستعمرون الإنجليز على أن تكون عدن مدينة عصرية في محيطها المتخلف، فمدّوها بوسائل الحداثة والخدمات، لتجتذب إليها الكثير من المهاجرين من مناطق الريف اليمني الباحثين عن فرص عمل، أو لتكون نقطة عبور لهم إلى غيرها من البلدان والمدن على الضفة الأخرى وأوروبا والعالم الجديد. “وأدت (عدن) دوراً مهماً باعتبارها فضاءً جوهرياً ومؤثراً في حركة الشخصية ومصيرها، وعتبة للتحول والاتصال بين الداخل والخارج، فهي في نظر معظم الشخصيات الروائية جسر عبور نحو البحر وخوض مغامرة الهجرة”، كما يقول عبدالحكيم باقيس.
ازدادت المدينة اتساعاً ونمواً في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، بعد تحولها إلى قاعدة عسكرية وتموينية تتبع وزارة المستعمرات البريطانية، وصارت موقعاً اقتصادياً وتجارياً مهماً بعد توسيع وتطوير الميناء، وإنشاء مصفاة عدن الصغرى “البريقة” بواسطة شركة “بي بي” العملاقة “بريتيش بتروليوم”، وهو الأمر الذي جعل المدينة حاضنة لآلاف النازحين من ريف اليمن المتوكلي ومناطق المحميات اليمنية في الجنوب والشرق، الذين كانوا يعانون من التمييز المناطقي في ذروة شعار “عدن للعدنيين”، الذي رفعته الجمعية العدنية أواخر الأربعينيات.
في كتابه “خربشات على جبل شمسان”، يقول الراحل هشام علي: “ارتبطت الهجرة من أنحاء اليمن إلى مدينة عدن بفرص العمل وبالإمكانيات التي يتقنونها، ولكن في حمَّى الهجرة إلى المدينة، لا سيما في أزمنة الفقر والمجاعات التي ضربت كثيراً من الريف اليمني، ذهب إلى عدن كثيرون ممن لا يجيدون أي مهنة، وبالتالي لم تتوفر لهم فرص للعمل. ورغم التضييق على الوجود العربي لليمنيين داخل المدينة ووضع نظام بطاقة الهوية التي يسمح بموجبها لحاملها بالدخول إلى عدن، ورغم هذا التضييق والحصار، كانت الهجرة إلى عدن تتزايد بشكل ملحوظ، من مناطق اليمن المختلفة ومن السلطنات المحيطة بالمدينة، وكانت منطقة الشيخ عثمان وضواحيها هي الساحة الأكبر لاستقبالهم”.
وبسبب انفتاحها الكبير، غدت عدن مدينة كوزموبوليتية (كونية) بتعددها الثقافي والإثني، ولم يعبِّر عنها فقط العدني العربي واليمني، بل عبَّر عنها الهندي والصومالي والفارسي والإنجليزي والفرنسي، عبَّر عنها المسلم واليهودي والمسيحي والبوذي واللاديني، بوصفهم أبناءها الطيبين، في جملة الأصوات التي تظهر مشبعة بروح مدينة آثرت نخبها بعد استقلالها، تقديم شططها السياسي وانقساماتها على روح التعدد والانفتاح فيها.
أدباء يمنيون معاصرون من أجيال وتيارات مختلفة، وعلى وجه الخصوص كتاب السرد منهم، وجدوا في عدن تلك، فضاءً روائياً شديد الخصوصية لتصميم وهندسة واستنبات شخصيات نصوصهم السردية (قصة ورواية)، التي انصرفت لمعاينة موضوع الهجرة بوصفه مشكلاً اجتماعياً توجبت مقارباته من موقع المتخيل الإبداعي، لأن المشاعر التي كانت تثيرها مغادرة الريفيين في الشمال لقراهم متوجهين إلى عدن، هي مشاعر الهجرة التي لا تختلف عن الهجرة الخارجية، كما أبصرها في القصص القصيرة والروايات، الدكتور وهب رومية.
وغير ذلك، تصير أيضاً موطئ قدم وحضناً دافئاً للواصلين إليها من أرض هجرة أخرى، على نحو استقبالها لـ”أبو رُبية” المهاجر الفنان الذي كان يرسم الناس، كنوع من الاحتجاج، على هيئة حيوانات قميئة، وخصوصاً التجار، وبسبب ذلك تم طرده من أديس أبابا لتحتضنه عدن بهيئته المتسخة وجنونه البهي الذي يعبِّر عنه بالرسم؛ هكذا التقطه محمد عبدالولي في واحد من نصوصه الباكرة، وتحديداً في نص “أبو رُبية” في مجموعته الأولى “الأرض يا سلمى” التي صدرت في العام 1966.
في رواية “صنعاء مدينة مفتوحة”، يلتقط أيضاً محمد عبدالولي من أحد مقاهيها مجموعة من المهاجرين من الداخل اليمني، الذين هربوا من قسوة الحياة في هذه المناطق إلى عدن. أكثر الشخصيات تمثيلاً في النص لهذا الاختبار السردي “نعمان” الذي يتركها في المرة الأولى لأشهر إلى قريته، لكنه يعود إليها وإلى حيث يقيم في المقهى مع “الصنعاني” والبحار “علي الزغير” وآخرين من العمال المهاجرين، ليعيش حالة تمزقه الوجودي.
في رواية “بخور عدني” لعلي المقري، عدن هي العمال الريفيون بأحلامهم الثورية وشعاراتهم التي أوصلتها إلى الاستقلال، غير أن عدن هذه ستصير بعد الاستقلال مدينة مغلقة أحادية
الصنعاني صاحب اللحن الحزين، والذي يتظهّر في النص بلقبه الجغرافي، يلتجئ إلى عدن بعد أن فقد، في حادثة نهب صنعاء في ربيع 1948، زوجته وابنته ودكانه، ويستقر في ذات المقهى، ويظل يستجرّ كل آلامه صامتاً، لكنه حين ينفجر، تنفجر معه كل الحكايات الحزينة. أما البحّار “علي الزغير” الذي جاءها طفلاً من قرية معلّقة في جبل “الدملؤة” في مديرية “الصِّلْوْ”، ليعمل في دكان، فقد غادرها من أجل أن يتعلم في مدينة زبيد، وحين لم يستطع ذلك، ركب البحر، لكنه بعد سنوات طوال يعود إليها، ليقيم في المقهى، منكفئاً على ذاته ويقطِّر حكاياته لصمته الطويل.
“محمد مقبل” المهاجر الذي جاب العالم واشتغل في عشرات المهن، ومنها محارب في صفوف الحلفاء في الحرب الكونية الثانية، يعود إليها وإلى ذات المقهى، وبعد أن يقرر العودة نهائياً إلى القرية، يتلبسه الحنين إلى عدن من جديد، فيعود إليها حاملاً كل أحلامه وقد تآكلت حوافها.
في قصة “طاهش الحوبان” لزيد مطيع دماج، يهرب إليها النقيب عبدالله بن صالح من بطش الإمام يحيى، وحينما يعود منها بعد عام، يكون قد اكتسب وعياً جديداً؛ “فقد أشعلت فيه الهجرة جذور الحماس للعودة إلى الشمال، والقيام برسالته، بل لقد صنعت منه قسيماً ثورياً يناضل بالسلاح إلى جانب المناضلين بالكلمة في عدن”، كما يقول الدكتور عبد الحميد الحسامي.
في رواية “زهرة البن” لعلي محمد زيد، يقضي “أحمد” سنين طفولته مسجوناً بمعية أبيه في القلعة بغيرما سبب، ليجد عمره الطري محاصراً بالظلم والمظالم التي تفرضها قوانين القلعة، والتي بسببها يذوي الأب رويداً رويداً، حتى يدركه الموت فيها.
في رواية “ستيمر بوينت” لأحمد زين، يظهر الشاب “سمير” الذي قدم إلى عدن من الحديدة، قبل خمسة أعوام من الاستقلال، ويندمج فيها حد الذوبان
في السجن المظلم الذي تأكله العفونة، يتفتّق وعي الشاب بالحياة، الذي يبدأ من التعلم وتالياً من علاقته الأولى بالمرأة؛ “حمامة” المقهوية “أميرة القلعة”، التي شقّت في جسده أول ثلمة جنسية. ولا ينتهي بالمساجين الذين ظل يكتب لهم بلغته ورغبته، شارحاً مظالمهم إلى الحاكم، لتصقل هذه التجربة بداخله قيمة الحرية والتمرد. وبموت الأب وإخراج جثمانه من القلعة التي امتصت أيامه، لا يجد أمامه من حل لوضعه سوى الهروب، والذي سيصير لازمة في تشرده السردي الطويل.
أول خطوة في سلسلة هروب “أحمد” في “زهرة البن”، كانت إلى خارج بلاد “أمير المؤمنين”، لأن بقاءه فيها سيعيده إلى ذات السجن في القلعة، لتمضية عقوبة لا يعرف سببها ولا مدتها، وفي الأصل ليس بها حكم. والخارج حينها لم يكن سوى مدينة عدن أو ما وراء بحرها. خارج ليس فيه مظالم ولا عساكر يمتصّون حتى جفاف الأرض.
هرب من القلعة إلى مدينة النور والحرية وحاضنة الأحرار، والتي وصل إليها مهدوداً بعد سيره لأيام على قدميه. وفي عدن سيكون هروبه الثاني، وهذه المرة من “عيشة” المطلقة البدينة، التي شغّلته أول مرة كبائع آيسكريم لحسابها، وسبب هروبه منها رغبتها في الزواج منه بالقوة.
الهروب الثالث، سيكون هذه المرة من “الشوكي” الإنجليزي “المخفر”، بعد أن يُلقى القبض عليه في مظاهرة عمالية مندّدة بالاحتلال والشركات الأجنبية التي تستغلهم، على الرغم من أنه بالكاد كان قد تحصّل على عمل في إحدى الشركات كحارس. الهروب الرابع سيكون من عدن برمتها بعد أن ضاق عليه العيش فيها، وجرفه الحنين إلى قريته، ولأنه صار مطلوباً أمنياً لقوات الاحتلال بعد حادثة المظاهرة وهروبه من المخفر. الهروب الخامس سيكون هذه المرة من القلعة، التي سُجن فيها من جديد بُعيد عودته إلى القرية من عدن، بسبب ديون “البواقي”، التي فرضها عليه الحاكم والقلعة عن سنوات الجفاف.
رواية علي المقري “بخور عدني” اشتغال باذخ على ثيمة التعدد في المدينة، فهو يجمع الفرنسي بتاريخه المرتبك الممزق، الأعرج والسليم في آن، الهارب من الحرب والذاهب إليها، باسميه فرانسوا أو ميشيل، والفتاة “ماما” بأحلامها وعدنيتها التي تستطيع التأثير في الجميع لتكون روح المدينة وضميرها اليقظ، واليهودية شمعة، المطربة التي يحبّها ويطرب لصوتها المسلمون قبل بني عمومتهم، والتي تجبرها حملة الكراهية ضد اليهود على مغادرة المدينة. عدن هي العمال الريفيون بأحلامهم الثورية وشعاراتهم التي أوصلتها إلى الاستقلال، غير أن عدن هذه ستصير بعد الاستقلال مدينة مغلقة أحادية، حتى وهي تتبدى لميشيل بأنها ليست سجناً له جدران وباب واحد، عدن بحر، بوابة من البحر إلى البحر لا يمكن لأحد أن يغلقها، ومع ذلك استطاعت الأيديولوجيا فعل ذلك.
في رواية “ستيمر بوينت” لأحمد زين، يظهر الشاب اليمني “سمير” الذي قدم إليها من مدينة الحديدة، قبل خمسة أعوام من الاستقلال، بعد مقتل أبيه في حروب الجمهوريين والملكيين في شمال اليمن. وبإلحاح من جدته لأمه، اندمج في المدينة إلى الدرجة التي حاول الذوبان فيها، وتمثل حياتها المدينية، معتبراً أن حضورها المميز كمدينة حضارية في منطقة متخلفة، صار بفضل الإنجليز وفعلهم، وهو المأخذ الذي سيؤخذ عليه من قبل بعض أصدقائه الثوريين، وعلى رأسهم نجيب، الذي كان يرى في قناعات سمير حيال المدينة وأثر الإنجليز فيها، نوعاً من الخيانة للقضية الوطنية. أما هو فكان في ذروة خوفه عليها حين رأى أن حماسة الفدائيين لا تعني سوى سيطرة الريف على المدينة، وإغراقها في مستنقع صراعاتهم، لأن ما كان يحركهم أولاً هو جوع السلطة، وبفعلهم ستتحول إلى مدينة مغلقة على نفسها، وهو ذات ما تحقق على مدى سنوات لاحقة، وما ستعاينه رواية أخرى للكاتب أصدرها مطلع العام 2020، بعنوان “فاكهة للغربان”.
التحول الذي حدث في وعي سمير في “ستيمر بوينت”، حدث ما يشبهه في وعي “صالح حسين” في رواية “قرية البتول”، الذي وصلها منكسراً بعد أن قتل عسكر السُّخرة في بلاد الإمام والده المسنّ، ليعمل في مقهى بائس في سوق الحراج، ويطوِّر من معارفه الثقافية بالقراءة والاطّلاع قبل أن يعمل بحاراً على ظهر باخرة إنجليزية، مثله مثل “فضل اليافعي” الذي تتلقفه عدن بعد أن يفقد كل عائلته بسبب ظلم السلطان الجائر عليهم، والذي ردّ على صديقه حينما سأله عن اكتساب وعيه الجديد: “مكثت في عدن حوالي عامين قبل صعودي للعمل هنا، وكنت خلال تلك المدة أشتري بعض الكتب والصحف وأقرأها.. فالحقيقة أني شغوف بالقراءة، وأحب أن أعرف من خلالها كل جديد”.
عدن المُهاجَر إليها في الكتابات السردية، كانت الملاذ والحضن لكل صاحب حُلم وأمل، ولكل من ضاقت به الأرض في البلاد المعزولة والفقيرة بحكامها المستبدين، وهي أيضاً موطن مفتوح للبشر القادمين إليها بتعددهم الثقافي والديني والعرقي من القارات الثلاث.