أغنية "رومبا" وراء اعتكافِهِ رمضان

القُمندان بين السياسة والفن
جمال حسن
May 19, 2020

أغنية "رومبا" وراء اعتكافِهِ رمضان

القُمندان بين السياسة والفن
جمال حسن
May 19, 2020

وعد الأمير أحمد بن فضل العبدلي، المعروف بالقمندان، محيطه بأغنية "رومبا"؛ليظل طيلة رمضان معتكفاً ومنعزلاً عن الناس في قصره.وعند قدوم العيد، كانت أغنية "يا ورد يا كاذي" اللونَ الراقصَ للعيد. لكن، هل كانت أغنيةَ"رومبا" حقيقيةً؟ وكيف اعتبر القُمندانأن لحنه نوعٌ من "الرومبا"، دون استخدام الإيقاع المعروف؟يعتبر عبدالوهاب اول من ادخل ايقاع الرومبا في أغنية عربية هي "جفنه علم  الغزل" عام 1933،والرومبا أحد الإيقاعات اللاتينية المعروفة، ظهر في كوبا وشاع استخدامه حول العالم.

لا يمكن فصل أغنية "يا ورد يا كاذي" عن الروح القُمندانية؛ فكثيرٌ من ألحانه اللحجية تحمل مزاجاً راقصاً،مثلأغنية "يا بو زيد"، والتي أعاد تقديمها أحمد فتحي في ثوبٍ مجدَّد. لكن ما جعل "يا ورد يا كاذي" متفردةً عن بقية ألحانه اللحجية الأخرى، وحتى عن بقية الألحان اليمنية السابقة لها، هو ما قصده القُمندان عن أغنية "الرومبا". وربما لم يكن استخدام الإيقاع اللاتيني المعروف هو غاية؛ لأن السياق اللحني والطابع ظل يمنياً خالصاً، حتى إنه استخدم المقامَ المُحببَإليه، "البيات"، والذي يحتوي على ثلاثة أرباع الصوت.

على صعيدٍ آخر، نحن لا نعرف الكثير عن حياة القُمندان، وكثيرٌ مما قيل عنه مُلفّقٌ؛إلا أن الصورة العامة لاعتكافه الرمضاني، من أجل صياغة لحن "يا ورد يا كاذي" حتى تكون الأغنية جاهزةً في العيد، تحيلنا إلى تساؤلٍ حول ما إن كان هذا جزءاً من تقليدٍقومندانيٍّ:أن يكون أحدُأركان العيد لحناً جديداً يتغنى به الناس.

تطلَّبَ لحنُأغنية "يا ورد يا كاذي" من القُمندان الاعتكافَ خلال رمضان معتزلاً الناس؛ وهذا يعكس أيضاً الجهد الذي بذله في صياغة الأغنية. ومع أنه لحنٌ لا يمكن وضعُه ضمن أفضل ألحان القُمندان، لولا أنه الأكثر شعبية؛إلا أن الصعوبة التي وجدها تتعلق بنمطٍ لحنيٍّ مختلفٍعن ألحانه الأخرى. وهوأيضاً نمط الاختلاف بين لحنها ولحن أغنية "يا بو زيد"، التي تتسم بالخفة والمزاج الراقص.

استخدم القُمندان في أغنية "يا ورد يا كاذي"إيقاعاً لحجياً على ميزان 6/8، حتى إنه ليس الميزان الإيقاعي الشائع لـ"الرومبا"؛ لكنه ذو طابعٍ راقصٍ ويلائم الطابع اللحني للأغنية. لحنُ"الرومبا"، في أغنية القُمندان، على صلةٍ بالبنية اللحنية،أكثر من كونه محاكاةً للشكل السائد في أغاني "الرومبا"، المعتمِدة على إيقاعها الخاص، وأيضاً في التعبير المقامي؛ ذلك أن القُمندان لم يجازفْ في إدخال أنماطٍ لحنيةٍ غيرِ مألوفةٍ في الغناء اليمني، رغم استماعه لكثيرٍ من الألحان عبر الاسطوانات والراديو، وامتلاكه معرفةً موسيقيةً لم تكن مُتاحةً لسواه. وأيضاً،إدراكه بأن "الرومبا" يجب أن يقدّمَها بشكلٍ يلائم الذائقةَ العامة للسكان، إضافةً إلى غايته ببناء قاعدةٍ لحنيةٍ محليةٍ، حتى حين استفاد من أشكالٍ لحنيةٍ محليةٍ وخارجيةٍ قدّمها في ثوبٍ لحجيّ.

فالقُمندان، وإن اتخذتْأغانيه صيغةً من التطريب والطابع الراقص، فإنه، كواحدٍ من الأمراء، سَلكَ طريقاً شعبياً، وكان في ذلك ثورياً أو رومانتيكياً باتخاذه العناصرَ المحلية كبذرةٍ للنهوض بالأغنية اللحجية.

لهذا، كانت أغنية "الرومبا"، بالنسبة له، لا بد أن تهضم العناصر الغنائية المحلية، وإن اتّسم طابعُها بمزاجٍ راقصٍ متفردٍ. إنها أيضاً أغنيةُ حداثةٍ، برَتْمِها السريعوتفاعلها اللحني الديناميكيالذي أعطى حيويةً راقصةً، مع التأكيد المستمر للنغمة أو التراوح مع النغمة المجاورة لها بتقطيعاتٍ متفاوتةٍ، مع هيمنةِ نغمةٍ واحدة.

فالأغنية يمكن تقسيمها إلى قسمين: الجزء الذي يبدأ بالمطلع "يا ورد ياكاذي"، ويتكرر في بداية كل مقطعٍ غنائيّ، وهو المقطع الذي تجانس مع الأشكال اللحنية المعتادة لـ"الرومبا"؛ بينما يتحول اللحن في "طيب يا زين طيب" إلى نفس الصيغ اللحنية المحلية.

لم تكن أغنية "الرومبا"، بالنسبة للقومندان،إيقاعاً، وإنما صورةً لحنيةً؛أي أنها محاكاةٌ"جَوّانيةٌ" لروح أغنية "الرومبا". وهنا سنعطي تحليلاً سريعاً للبناء الهندسي للحن، وهو في أسلوبه ليس بذلك التعقيد.فعند النظر إلى أغانٍ مثل "الحَمَام"، على مقام "السيكا"،سنجد تطريزاًتطريبياً وبنيةًلحنيةًأكثر متانة؛ لكن النسق الذي اتخذته أغنية "رومبا" لحجيةٌأو يمنيةٌ كان يمنح الشكل الراقص أهميةً جوهرية.

في أول أغنيةِ"رومبا" عربيةٍ لمحمد عبدالوهاب، كان الأمر مختلفاً؛ اعتمد فيه على إيقاع "الرومبا"، وأصبح هذا الإيقاع شائعَ الاستخدام في العالم العربي، حتى إنه سيصبح مستخدماً في الأغنية اللحجية؛ لكن بعد حوالي عقديْن من رحيل القُمندان. كما أن لحن عبدالوهاب اعتمد على التجاور النغمي بصورةٍ مستمرةٍ؛ رغم أنه لحنٌ اتُّهِم بسرقته، ككثيرٍ من ألحانه، من الموسيقار الكوبي دون أزبيازو. إلا أن عبدالوهاب أراد، في أسلوبه، الاحتفاظ بالسمات اللحنية والتطريبية للأغنية العربية.

استلهم القُمندان أعماله الغنائية من روح الأهازيج اللحجية، مع كثيرٍ من عناصر الغناء اليمني، وبعد قرنٍ من استقلال أسلافه عن صنعاء،أعلن الاستقلال عن الغناء الصنعاني، بدوافع فنية تحتفل بأصلٍ سياسيٍّ؛ لكنها تركتْ للأغنية اليمنية بَصْمَتَها

كتب القُمندان بعضَ قصائده الغنائية على وزن ألحانٍ سبَقَ وتشكّلتْ في وعيه. واللحن الرئيسي هو لحنُأول بيتين، وكلُّ بيتٍ تم تقسيمه إلى ثلاثة أشطارٍ ليس من المهم تصنيفُ خاناتها؛ لكنها اتخذت أيضاً شكلاً هندسياً منسقاً من حيث النغمات المستخدمة، وأيضاً من حيث التوكيد على نغمةٍ في تعاقب الضرب على العود. ففي مطلع اللحن "يا ورد يا كاذي"، يستخدم ثلاث نغماتٍ فقط، ثم خمس نغماتٍ في لحن "ألا يا موز يا مشمش"، ثم العودة إلى ثلاث نغماتٍ في "يا عنبرود"؛ بمعنى أن الهندسة اللحنية أخذت هذا التقسيم:3- 5- 3، ثم يصبح في البيت الثاني 5- 3- 5. ففي لحن المَطْلع بتوظيفه ثلاثَ نغماتٍ، تتشكل تفاصيل اللحن عبر الـ"رِي"والــ"مِي"، المراوحة بين النغمتين مع التعاقب المستمر لنغمة "رِي"، وهو الذي يعطي اللحن تلك الجَرسيّةَ الراقصة أو النغمية المتسمة بالرقص. هذا البناء الهندسي للنغمات لم يكن مألوفاً في ألحان القُمندان الأخرى،أو حتى الألحان اليمنية بصفةٍ عامة.

إلا أن تلك الهندسة اللحنية ليست الطراز الكليّ للّحن؛ فالديناميكية لتعاقُب نغمتين متجاورتين، مع التوكيد على الـ"ري"، يمنح الرتْمَ اللحني مزاجاً راقصاً وخفيفاً، وانبساطاً في التدفق، لأن الضربات على النغمة الواحدة بتسارعٍ تعيدنا إلى الأشكال الغنائية الأولى، مع الاتكاء على النغمة المجاورة، كفواصلَ لتفاوت التعاقب على نغمةٍ واحدة. لكن يبدو أن هذه الهندسة النغمية أحدُ ملامحِ شعبيةِأغانٍ مشهورةٍ، وتعتمد على تفاصيلَ نغميةٍ مشابهةٍ، كما هو الحال في استخدام درجة "مِي" المستمر مع مجاورتها في أغنية "Sway"، المشهورة والتي غناها كثير من نجوم الغناء العالمي.

في الجواب، سيتخذ بناء مثلثٍ عكسيٍّ في أضلع البناء الهندسي للبيت الشعري، كما يتحول إلى نغمة "الصول"، وهي الدرجة التي سيستمر الضرب عليها مع لحن الامتداد في "يا قمري الوادي". لكن الخلايا اللحنية ستتحول تدريجياً في المقطع الثالث باللعب على تجاور النغمات، بالذهاب والمراوحة "صول"و"لا"، ثم الذهاب والمراوحة على الـ"سي"والـ"دو"، لتنتهي بدرجة الـ"ري"؛ وكأنها جوابٌ على سؤال الـ"ري" في البداية.

على أن القُمندان استلهم تجربته اللحنية في هذه الأغنية من شكلٍ خارجيٍّ، هو ما سمعه من أغاني "الرومبا"، وأخذ وقتاً ليحتوي بعض الخصائص المشتركة لأغاني "الرومبا"أو روحها الداخلي الذي منحها تلك الخفة والمزاج الراقص. واستغرق منه ذلك وقتاً؛ لكن تجربته اللحنية اختمرت خلال أحد رمضانات حياته. ظل معتكفاً ومعتزلاً الناس، ليعلن لهم في العيد عن أول أغنية "رومبا" يمنية. ومع استخدامه إيقاعاً محلياً ومقاماً شرقياً، منح روح "الرومبا" خاصيةً يمنيةً، وكل ما فعله هو استخلاص الهندسة اللحنية للبناء النغمي وتراكيب الخلايا اللحنية؛ حتى إنه مهّد الغناء بلازمةٍ قصيرةٍ، مختلفةٍ عن غناء المَطْلع،مع توظيف شكلٍ هندسيٍّ مغاير.

ربما ليست "يا ورد يا كاذي" أكثر أعمال القُمندان رصانةً؛ لكنه جارى فيها سياقاً حداثياً لم يكن مطروقاً في اليمن بنفس الصورة، حتى بحديثه لخواصه بأنه سيأتيهم بأغنية "رومبا". استلهم القُمندانأعماله الغنائية من روح الأهازيج اللحجية، مع كثيرٍ من عناصر الغناء اليمني. وبعد قرنٍ من استقلال أسلافه عن صنعاء،أعلن الاستقلال عن الغناء الصنعاني. كانت أيضاً دوافعُه الفنية تحتفل بأصلٍ سياسيٍّ؛ لكنها تركتْ للأغنية اليمنية بَصْمَتَها.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English