الدكتور أحمد السرّي أستاذٌ أكاديميٌّ وباحثٌ متميزٌ، درس الكتابَ والثقافةَ والفكرَ الدينيَّ بذهنٍ متفتّحٍ وعقلانيّ. ترَبّى على يد أبٍ صوفيٍّ الهوى؛ فلّاحٍ يعاني؛ وهو شديدُ الإحساس بمعاناة الناس من حوله.
السرّي باحثٌ عميقُ التفكير، عقلانيُّ الاتجاه، ساردٌ مُتقنٌ. روايته "الظل والعاشقة" سردٌ رائعٌ. اهتماماته الأدبية، تجربةً وشعراً وسرداً، رائعة. كتابُه المقروء "في الوعظ السياسي"، متوسط الحجم ويقع في 247 صفحةً، يحوي ستةَ عناوينَ رئيسيةٍ، ويشتمل على عدّة عناوينَ فرعية.
بعد الإهداء لوالده الفلّاح الصوفي -والذي كان يدوّن شُكَاتَه من المظالم ضده وضد أهالي منطقته، ثم يدسّها في كُوى سَكَنِه، ويبثّ فيها معاناتَه وعذاباتِ الآخرين من جَوْر المسؤولين المحليّين وهمجيّةِ جنودهم- يَدرُس، في كتابه المنوَّه به، الوعظَ السياسي.
السرّي أديبٌ متميزٌ وباحثٌ مقتدر. ما أكتبه هنا ليس أكثرَ من التعريف المقتضب للكِتاب؛ مع وعدٍ بالقراءة المتأنية. يدرس الكتابُ الوعظَ السياسيَّ في صدر الإسلام، والوعظَ في العهد الراشدي والعصر الأموي، آتياً على تعريف الوعظ، والتفريق بين الوعظ والزهد، وصولاً إلى الوعظ الموجّه لهشام بن عبدالملك، بعد أن يأتي على الوعظ الموجّه للعهد الأموي كله.
حين يأتي على ذكر الوُعّاظ في العهد الراشدي والأموي، يَذكُر استشهاداتٍ مهمةً ومقتضبةً لهذا الوعظ. في مبحث الوعظ في العصر العباسي الأول، يدرس –راصداً- التلازمَ بين الوعظ والزهد، ويخلص إلى أن الوعظ المتصل بالسياسة لم يظهرْ إلا بعد أحداث الفتنة بين علي ومعاوية، والجدل الدائر بين علماء وزهُّاد ذلك العصر حول الموقف من السلطان قرباً وبعداً. ربما قصَد الباحثُ التوظيفَ السياسيَّ المباشر والجليّ، وإلا فالسياسة مضمرة في الوعظ كله؛ فسفيان الثوري يقول: "إذا سمعت أحدهم يردد الآية (وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى) فاعلمْ أن في بيتِ جارِهِ وليمةً ولم يُدعَ إليها".
يَدرس الوعظَ في العصر العباسي الأول، متأملاً التوازنَ، أو بالأحرى، التوترَ بين الفريقين: الفقيه والسلطان. ويلاحظ الباحثُ الترابطَ بين الأمن والاستقرار، وازدهار الوعظ وميل السلاطين إليه؛ لتأثيره في المزاج الشعبي العام. ويتناول الملوك العباسيين: أبا جعفر المنصور ووعاظه، ثم خليفتيْه: المهدي والرشيد، والوعظَ والوعّاظَ في عهدهم.
يقف طويلاً وعميقاً إزاء وعظ العلّامة المجدّد والمتعدّد المواهب، ابن الجوزي؛ وهو مؤرخٌ ومفسرٌ وواعظٌ، ومؤلِّفٌ في مجالاتٍ عديدةٍ، بما فيها العشق. يتناول الدكتور كتابَه الصغير "الشفاء في مواعظ الملوك والخلفاء"، وكتابَه الأهمَّ "المصباح"، ويعود بين الحين والآخر لتاريخه "المنتظم".
كتاباه الوعظيّان يتوجهان بالأساس إلى الخليفة المستضيء بالله، ويرصد دارساً أنموذجَه الوعظيَّ بتتبُّعٍ دقيقٍ وعميقٍ، ويربط بين وعظِه والظروفِ المحيطة شديدةِ التقلب، والخطرِ والظروفِ التي ورث فيها المستضيءُ الحكمَ من والده، المغتال على يد قائد جيشه السلجوقي "قايزمان". كما يدرس مراحلَ أسلافه.
تم التشديد على الطاعة بشتى السبل، وعملت الاقتباسات القرآنية، وسواها من النصوص والأقوال، على إخضاع ذهنية المسلم الأعزل لإرادة السلطة؛ بينما بقي عدلُ السلطان موكولاً إليه، ومرهوناً بطبعه
الفكر السياسي الإسلامي بين قيمة العدل وبُنْية الدولة
يدرس الباحثُ في العنوان: الإسلام والدولة، وبنية الدولة، والدولة التراثية والدولة الحديثة، والفكر الإسلامي ومقولاته في العدل والدولة، وثلاثية الملك: العدل والطاعة، ومن ثم الوعظ السياسي والمناصحة.
يتناول، في تعريف الدولة التراثية، رؤيةَ ابن خلدون. أما الدولة الحديثة، فهي التي لا تقوم على التغلّب والملك؛ بل على الانتخاب ومشاركة الشعب. ويناقش عميقاً العلاقةَ بين العدل والدولة، ابتداءً بالعهد الراشديّ، مروراً بالأمويّ والعباسيّ. وميزةُ الباحث القراءةُ البصيرة والمتأنية، والدقةُ في القراءة والفهم، وإبداءُ الرأي المتزن والبعدُ عن التعصب. والأهم، قراءة الفكر الإسلامي من داخله متجرّئاً ومنصفاً. ويفرق بين إسلام الوحي، وإسلام التاريخ، ويرى -ومعه كل الحق- أنه تم التشديد على الطاعة بشتى السبل. وقد عملت الاقتباسات القرآنية، وسواها من النصوص والأقوال، على إخضاع ذهنية المسلم الأعزل لإرادة السلطة؛ بينما بقي عدلُ السلطان موكولاً إليه، ومرهوناً بطبعه. ويسرد المؤلَّفاتِ في هذا المضمار.
يدرس الباحث تجربةَ "الربيع العربي" في اليمن، تحت عنوان "جدل الديمقراطية، وتراث الفكر السياسي الإسلامي كأنموذج"، ويقرأ المرابطةَ الطويلة في ساحات الاعتصام، طلباً للتغيير السياسي، وما نتج عنه.
يقرأ عميقاً فقهَ الطاعة المطلقة وفقهَ التغيير، كما يتناول البياناتِ الشرعيةَ المتنابذة، ويعرض مواقفَ تيارات الإسلام السياسي، وشعاراتِهم واختلافاتِهم وأبعادَها، وموقفَ الداعين للدولة المدنية في مواجهة الدولة الإسلامية.
قراءة الباحث تتّسمُ بالاستقلالية وقدرٍ رفيعٍ من الموضوعية، مشيراً بإعجاب متكرر إلى دعوة الأزهر للدولة المدنية ولحرية الاعتقاد والرأي والتعبير، واقفاً إزاء علاقة القوة بالواقع. وتجربة الثورة الشعبية المغدورة في اليمن، وعربياً، تحتاج إلى قراءةٍ أعمقَ وأوسع. كتاب "الوعظ السياسي" وهو -أي الوعظ- سياسيٌّ بطبيعته، وقد فَهِم الحكامُ الموعوظون هذه الطبيعة، فتعاملوا معه بلينٍ تارةً، وبجلْوَزةٍ تاراتٍ وتارات.
إشارة الدكتور إلى التوازن بين السلطتين، الفقهي أو الديني بصورة عامة، والدولتي، ربما كان الاستثناء؛ وإلا فالغلبة للدولة. فالغلبة هي السِّمَةُ العامة لهذه العلاقة.
الباحث الدكتور السرّي أديبٌ متعددُ المواهب. مبحثُه الحصيفُ والعلميُّ يتناول العلاقة بين الوعظ والقوة، ويلاحظ احتياجَ كلٍّ منهما للآخر واختلال التوازن بينهما، أو الصراع الذي يطبع التاريخَ الأمويَّ والعباسيَّ، الذي درسه بدقةٍ وتتبّعٍ مدهش.
الدكتور الباحث والسارد، عبد الرحمن منيف، يدرس هذه العلاقةَ المختلةَ بين المثقف والأديب والسلطة، بصورة أعم، ويرجح بروزَ الاختلال منذ الشاعر الجاهلي لصالح القوة. كما أن المفكر الماركسي الصوفي، هادي العلوي، له مبحثٌ بعنوان "نقد السلطة ومبدأ الطاعة المشروطة في الإسلام".
يتوصل الباحثُ المتميزُ والمدقّقُ إلى ما وصل إليه العدو المنافح للاستبداد، عبد الرحمن الكواكبي، في كتابه المهم "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" في خضوع الديني للاستبداد السياسي.
محنةُ الكلمة -وعظاً دينياً أو سياسياً محضاً أو رأيا دينياً أو شعراً- أنها في أحايينَ كثيرةٍ توظَّفُ لصالح الغلبة، وتزري بدورها بالكلمة؛ فشاعرٌ كبيرٌ كالمتنبي، الذي يَسمع كلماتِه الأصمُّ ويراها الأعمى، في لحظةِ مَلَقٍ وضَعْفٍ يُردّد:
حتى رجعتُ وأقلامي قوائلُ لي المجدُ للسيف ليس المجد للقلمِاكتب بنا أبداً بعد الكتاب به فإنما نحن للأسياف كالخدمِ
وشاعرٌ عملاقٌ كأبي تمام يعترف صاغراً
السيف أصدق إنباءً من الكتبِ في حَدِّهِ الحَدُّ بين الجِدِّ واللعبِ
وكان الأستاذُ النعمان -الصانعُ الأول لقضية الأحرار اليمنيين- كثيراً ما يردّد أبياتَ المتنبي في لحظة يأسٍ؛ وهو أيضاً ما تتبّعَه بدقةٍ وعمقٍ وفهمٍ الباحثُ الدكتور أحمد السرّي، وكتابه بحاجةٍ إلى قراءةٍ متأنيةٍ وجادّة.