محمد سعد عبد الله

القيثارة التي وُلدتْ منها الأغنيةُ الخليجية
جمال حسن
April 16, 2020

محمد سعد عبد الله

القيثارة التي وُلدتْ منها الأغنيةُ الخليجية
جمال حسن
April 16, 2020

   لم يحدُث التجديدُ في الأغنية اليمنية بناءً على قاعدة مُحددة؛ لكن محمد سعد عبدالله فتح أمامها فضاءً للتطور، تبنّته ثقافةٌ غنائيةٌ مجاورةٌ؛ فهل استنفدت كل خياراتها بعده؟ ليس الأمر بتلك الطريقة؛ إنما انتهت إلى ما بلَغتْها صورةُ الفنان منكودِ الحظ، أيْ تلك الحياة القاسية التي عاشها محمد سعد، رغم أن نجاحه تخطّى اليمنَ ليمتدّ في الجزيرة العربية.

   ابتكر محمد سعد طريقاً واضحَ الملامح لتجديد الأغنية؛ فالعناصر التي جاءت إلى أغنيته بتأثيراتٍ عربيةٍ بدتْ كما لو أنها مندمجةٌ ومصهورةٌ في تطريزاته البسيطة، والتي صنعتْها موهبةٌ كبيرة.

   اليوم (16 أبريل) يتزامن مع الذكرى الثامنة عشر لرحيل محمد سعد  عبدالله؛ وهي مناسبةٌ مميزةٌ للحديث عن أسلوبٍ تمتّعَ بِسِماتٍ انفتحتْ على كل ملامح الأغنية اليمنية، وفي نفس الوقت بحثتْ عن مصادر التطور من خارجها.

   ظهرتْ موهبةُ محمد سعد الموسيقيةُ بشكلٍ مبكرٍ. وكان في السادسة عشرة حين لحّن "ما أحلى السمر جنبك"؛ وهي أول أغنيةٍ لحّنها، كتب كلماتها الدكتور محمد عبدة غانم. غَلَبَ على ألحانه الأولى طابعُ الأغنية اللحجية؛ لكنه لم يتوقفْ عند تلك الحدود. وتجمّعت عنده كلُّ مصادر الغناء اليمني، فتشكلتْ خصائصُه الاستثنائية التي لا تشبه أحداً. ولهذا، اتخذ محمد سعد حضوراً أقلَّ راديكاليةً في صيغة الغناء؛ على عكس التياريْن اللذين تزعّما الغناءَ في عدن، أحدهما ارتبط بالنموذج المصري، كما كان أحمد قاسم، وآخرُ انحازَ للمصادر الغنائية التقليدية، كما كان محمد مرشد ناجي.

استكشف محمد سعد الأغنية الحضرمية ومصادرها المحلية، وغنى واحداً من أجمل ألحان المحضار: "الله الله بالأمانة"، لكنّ ملامحَ اتصاله الحقيقيةَ كانت في ألحانه هو، إذ تجاوزت كثيراً من الأعراف الغنائية، وفي تلك الخلاصة وَجَدت الأغنيةُ الخليجية مُرشدَها، أو الأبَ الذي ضلّ طريقَه في عذابات الحياة

   يمكن النظر إلى مسيرة محمد سعد بمستويين: الأول يتعلق بالطابع العاطفي لأغانيه، أو مضامينها الشعرية واللحنية، ويبدو متسماً بالحزن والعذاب، وهو صورة لعذابه. لكن محمد سعد كان على مستوى آخر، يمتلك الكثيرَ من الأساليب أو التنويعات؛ هناك الصورة الغنائية، والمشبّعة بالرقص، سماتٌ تطريبيةٌ وأخرى بالصيغة التعبيرية التي انتشرت في العالم العربي، وأخذتْ مع محمد سعد، هذا المجال الحيوي المرتبط بالعناصر المحلية. أما الانتسابُ الحقيقي للموسيقى فكان متصلاً بعائلته؛ إذ يعود بجذوره إلى أسرة "الفُتاحي" في ماوية، والمعروفة بالتصوف، وانتقل منها جَدُّه إلى لحج، مكانِ ولادته. ومثْلَ كثيرٍ من الأُسَر الصوفية، ظل الغناءُ شائعاً ومتوارثاً.

   اتسم محمد سعد بموهبةٍ متنوعةٍ في الغناء والتلحين وكتابة الشعر الغنائي. ورغم أن صوته بسيطٌ ولا يتمتع بمساحاتٍ عريضةٍ، إلا أن حسه الفني وبراعته مَنَحاه تلك الخصائص العالية. وفي هذا الجانب، كان يعرف ماذا يقول، ويغنّي في حدود إمكانياته؛ بينما برز نبوغُه بشكلٍ أساسيٍّ في التلحين. وإضافةً إلى موهبته، تعلَّمَ وأشبع ثقافته الموسيقية بكثيرٍ من المصادر المحلية والعربية؛ بل راهن على صياغة خطه اللحني وفق ما أنتجتْه تداعياتُ التجديد الغنائي في عدن وحضرموت. وخلال الخمسينيات، ظل –لفترةٍ- في حضرموت يستكشف الأغنية الحضرمية ومصادرها المحلية، وغنى واحداً من أجمل ألحان المحضار: "الله الله بالأمانة". لكنّ ملامحَ اتصاله الحقيقيةَ كانت في ألحانه هو؛ إذ تجاوزت كثيراً من الأعراف الغنائية. وفي تلك الخلاصة التي ظهرت، وَجَدت الأغنيةُ الخليجية مُرشدَها، أو الأبَ الذي ضلّ طريقَه في عذابات الحياة.

كان محمد سعد المِعْطَفَ الذي خرجتْ منه الأغنيةُ الخليجية الحديثة، أو كما ظل يُطلِق عليه محمد عبده "أبو الموسيقى الحديثة"، لأن مع حداثة محمد سعد كانت الأغنية يمنية، ولعله أيضاً تتبَّع فيها خيوطَ اللحن الحجازي أو التهامي، لكنه أتى ليعلن عن صورةٍ لمستقبلٍ استبدله اليمنيون في ذائقتهم بالماضي

  علاوةً على ذلك، كانت ألحانُه أكثرَ تعرضاً للاستيلاء من مغنّيّي الخليج، بل بنسْبِها لملحنين غيره؛ كما جرى ذلك مع أغنية "كلمة ولو جبر خاطر". في هذا اللحن، تظهر المادة الأولية لخصوبة محمد سعد. يعود اللحن إلى الخمسينيات؛ لكن مستواه هو استنباط للنهاوند أو استكشافه في صيغةٍ لحنيةٍ يمنية. هذا الأمر ظل مَلْمَحاً يميّز مسيرة محمد سعد في تعامله مع المقامات؛ لكن التصاقُه ظل أكبرَ بمقام البيات. وهذا ربما على صلةٍ بمنابعه التي ارتبطت بهذا المقام، وخصوصاً طغيانه على الأغنية اللحجية. اتسمت الأغنيةُ بجُملٍ لحنيةٍ جميلةٍ، شديدةِ العذوبة، إضافة إلى تنويعها واتساعها. فلم تكن الأغنيةُ اليمنية –سابقاً- بهذا الاتساع اللحني، ما لم تأتِ مستندةً إلى عناصر أخرى. لكن نبوغ محمد سعد كان في استخلاصه صيغةً يمنيةً.

   مع هذا، لم يحصل محمد سعد على أيّ تعليمٍ أكاديميٍّ؛ إذ ترك المدرسة مبكراً، ليخوض معركة الحياة. هل كان ذلك عاملاً مَنَحَ ألحانَه خصائصَ اتّسمتْ بالبساطة والروح المتحررة من الانهماك المدرسي؟ ربما كان أحدَ العوامل؛ لكن محمد سعد علّمَ نفسَه بنفسه، منفتحاً على الأغنية العربية، وعزّز طموحَه بتوظيف جُملٍ موسيقيةٍ ذاتِ طابعٍ لحنيٍّ مختلفٍ عن لحن الغناء؛ رغم أن تلك الجُمل تتّسم بالبساطة.

   ما يمكننا التوقفُ عنده، هو إلهامه المتعدد؛ أي عدم الركون إلى الصورة الأولية للّحن أو طابعه الشائع بالعذاب، وربما تلك النبرة الكئيبة. لنأخذ –مثلاً- كيف منَحَ مقام البيات لمسةً مرحةً في أغنية "محل ما يعجبك روح"، الطابع الإيقاعي والراقص، والجملة المستقرة في تطوير نبضها من اتصال الخلايا اللحنية وإشباع القرار بجوابٍ أكثر نغمية. في أغنية أخرى "أعز الناس"، تَظهر بعض الملامح التطريبية؛ لكن الخيال اللحني أكثر ابتكاراً.

   مارس محمد سعد الكثيرَ من التجريب، وصاغ أغنيةً أوسعَ في تعبيرها اللحني. تظهر في أغنية "أنا نسيتك" مسحةٌ أوسع في التنويع المقامي واللحني. موسيقى "أدليب" والغناء بلحن مُرسل، توظيف الأكورديون بِسمةٍ تذكِّرنا بالروح الرحبانية، ربما تعود إلى فترة وجوده في لبنان خلال الستينيات. الأغنية على مقام النهاوند، وهو الطاغي في الغناء المرسل بداية الأغنية؛ مع تحولٍ طفيفٍ إلى الأثر كرد، وهو مقام متفرع من الكرد، مع عودة للنهاوند، قبل أن يدخل في مقام فرعي للنهاوند هو النكريز.

   لعل توظيفَ هذا المقام، غيرِ الشائع في الغناء اليمني، سيجعله إما بِسمةٍ مصريةٍ أو شامية؛ لكنْ هنا سنعثر على هذا الملمح الهجين؛ الملمح الذي سيحضر في الغناء الخليجي مع أساطين فنانيهم، مثل طلال مدّاح ومحمد عبده. ومن هذا النبع، سنلاحظ مساراً طويلاً من الفنانين، يمتد إلى عبدالمجيد عبدالله. ومحمد سعد هو من نقل الغناء اليمني إلى الخارطة الحسية، بعد أن كان إما تطريبياً أو راقصاً أو معبراً.

   كان محمد سعد المِعْطَفَ الذي خرجتْ منه الأغنيةُ الخليجية الحديثة، أو كما ظل يُطلِق عليه محمد عبده "أبو الموسيقى الحديثة"، لأن مع حداثة محمد سعد كانت الأغنية يمنية، أو شيئاً آخر جديداً ومختلفاً، لعله أيضاً تتبَّع فيه خيوطَ اللحن الحجازي أو التهامي، لكنه أتى ليعلن عن صورةٍ لمستقبلٍ استبدله اليمنيون في ذائقتهم بالماضي.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English