التحالف الذي بدأ في نَجْد بين أسرة الشيخ القبلي عبد العزيز آل سعود، وبين محمد بن عبد الوهاب، الداعية السلفي، عَبَّرَ عن نزوعِ تأسيس سلطنةٍ أو إمارةٍ، بامتزاجٍ مدهشٍ بين الرؤية الخلدونية والاستجابة للحملات الاستعمارية البريطانية في السيطرة على الجزيرة والخليج، وتصفية الوجود العثماني، وتكوين الكيانات القطرية.
كان سرُّ نجاح التحالف القبلي-المذهبي أنه يستجيب لإرادة توحيد الجزيرة المفكّكة والمتصارعة، كقبائلَ ومناطقَ، وللحضور الاستعماري البريطاني المدجّج بالمكائد والسلاح والمال.
التوحيد الديني، الذي دعا إليه ابن عبد الوهاب وطبّقه الشيخ السعودي، كان يواجه التفككَ القبليَّ والنزعاتِ العشائريةَ والبدوية؛ فللتوحيد الديني بُعْدٌ دنيويٌ-سياسيّ، وكان الدعم البريطاني حاسماً، وللذاكرة التاريخية حضورٌ قويٌّ في إحياء الإمارة الثالثة 1902. ولعبت الحربان العالميتان دوراً كبيراً في اتساع رقعة إمارة نجد، خصوصاً بعد اكتشاف النفط 1933، والسيطرة على الحجاز.
منذ النشأة، كانت هناك معارضاتٌ عديدةٌ، ولكنها مشتّتة. كانت المعارضةُ الأولى الصراعَ مع آل الرشيد في حائل، وفيما بعد "الإخوان"، وقد واجهتهم السلطة بالقوة وبالتوحيد الديني. انتصر التوحيدُ الديني على الأعراف الوثنية البدائية، وعلى التفكك والتمزق القبلي والعشائري.
الميلادُ الحقيقي للمعارضة السياسية التقدمية والحديثة كان في ظهور براعمِ تنظيمٍ ديمقراطيٍّ ثوريٍّ سريّ. وكانت أولُ مجموعةٍ تشكّلتْ بفعل الإضراب العمالي، عام 1953، هي جبهة الإصلاح الوطني، وتشارَكَ في تأسيسها شبابٌ سعوديون من منتسبي القوات المسلحة، والموظفون والمستخدمون في "أرامكو"، كقراءة فاسيليف.
دعت الجبهة، كما يشير مؤلف "تاريخ العربية السعودية"، إلى التحرير الناجز وإصدار دستورٍ يكفُل الانتخاباتِ وحريةَ النشر والتجمع، وإجازةَ الأحزاب والنقابات، وحريةَ التظاهر والإضراب، وتطويرَ الصناعة الوطنية، وإلغاءَ الرِّق، وإعادةَ النظر في الاتفاقيات المعقودة مع شركات النفط، ومكافحةَ الأمية، وتأسيسَ مدارسَ للبنات، وتوسيعَ التعليم العالي والمهني". (بروشين، العربية السعودية، نقلاً عن "تاريخ العربية السعودية").
جليٌّ أن المَطالبَ ثوريةٌ وتتّسم بالنفس الليبرالي الحداثي والمنحى اليساري المنتشر في المنطقة العربية، وخصوصاً في البحرين، التي كان لحركة التحرر الوطني فيها تأثيرٌ كبيرٌ على التكوين اليساري في السعودية. كانت هذه المعارضة هي الخطرَ الحقيقيَّ الذي تصدّى له النظام بقوةٍ، خصوصاً في ظلِّ تصاعُد الاتجاه القومي اليساري في مصر وسوريا والعراق والجزائر، واليمن فيما بعد، والتأثيرِ الكبير للثورات الكبرى في الاتحاد السوفيتي والصين، وحركات التحرر الوطني المنتشرة في القارات الثلاث.
الصراع بين حُكّام المملكة وعبد الناصر دفعتْ بالمواجهة مع القومية العربية إلى الذروة وإلى القطيعة، واتجهت المملكة للأسْلمة، الموجودة أساساً، وللمعسكر الغربي أكثرَ فأكثر. وكانت الثورة اليمنية بؤرةَ الصراع المباشر بين ناصر وفيصل، في سياق الصراع ضد الرجعية والاستعمار.
يُدلِّل لاكروا على تقطيع أوصال السلطة بحيَّيْن شهيريْن في الرياض: حيّ دخنة (حيّ العلماء)، والذي يُحرَّم فيه الضحكُ بصوتٍ مرتفعٍ أو التبختُرُ في المشيْ، وحيّ المَلَزّ (واحة الحداثة)، والمتهم أهلُه بشرب الخمر وشاعت فيهم مفاهيم التقدم والتنمية والحداثة، ويضم الموظفين الوافدين من الحجاز
الثورة اليمنية 1962 أحدثت تغييراً مهماً داخل العرش السعودي؛ فقد أُلغي نظامُ الرِّق، وبدأت إصلاحاتٌ في عدة مجالات. ارتفع صوت المعارضة السياسية، وانشقّ الأمراءُ الأحرار داخل الأسرة. بدأ النظامُ خطواتِ التحديث وبناءَ المؤسسات، وجرى الاهتمامُ أكثر فأكثر بتحديث التعليم، وتعليم الفتيات وفتح النوادي الأدبية، برئاسة فيصل بن فهد. الأديب والباحث المفكر ستيفان لاكروا، في كتابه "زمن الصحوة"، يدرس عميقاً تركيبةَ المجتمع السعودي وطبيعةَ السلطة وتقطيعَها بين مجاليْن مستقليْن نسبياً، ويربطه بطبيعة تقاسم السلطة بين السياسي والديني. والتحالف، وإن بدا ندِّياً ومتكافئاً ومستقلاً ظاهرياً، إلا أن الكفّة بدأت تميل لصالح السياسي (الشيخ القبلي) منذ تمرُّد "الإخوان"؛ مع الإبقاء على سلطة الديني في تطويع الداخل وإلزامه طاعةَ وليِّ الأمر وفق الرؤية الحنبلية ومقولات ابن تيمية. يُدلِّل لاكروا على تقطيع أوصال السلطة بحيَّيْن شهيريْن في الرياض: حيّ دخنة (حيّ العلماء)، والذي يُحرَّم فيه الضحكُ بصوتٍ مرتفعٍ أو التبختُرُ في المشيْ، وحيّ المَلَزّ (واحة الحداثة)، والمتهم أهلُه بشرب الخمر وشاعت فيهم مفاهيم التقدم والتنمية والحداثة، ويضم الموظفين الوافدين من الحجاز؛ وهو ما دوَّنه أمين الريحاني خلال زيارته للرياض. ويلاحظ الذين عاشوا في الحجاز وجودَ حياتيْن في الظاهر: حياة التزمت والبداوة والتشدد، وحياةً أخرى داخل المنازل وفي الظلام؛ حياةً أخرى مغايرةً ومختلفةً، خوفاً من بطش "المَطاوِعة."
منذ منتصف ستينيات القرن الماضي، نشأت الأندية الرياضية والأدبية وازدهرتْ في جُلِّ المدن. وبرزتْ مواهبُ أدبيةٌ وثقافيةٌ كبيرةٌ تسامت المستوى العالمي: حمد الجاسر والعقيلي والقصيبي والغذامي والدميني ومعجب الزهراني، وعشرات المبدعين والمبدعات؛ نُقاداً وشعراء، وساردين وساردات، قَصّاصين وروائيين، وعلماءَ مفكرين لهم حضورٌ كبيرٌ. وظهرت مجلاتٌ أدبيةٌ وفكريةٌ مهمة: "الناقد" و"الجذور"، وقبلهما "الفيصل" و"المعرفة" التربوية. البعثاتُ التعليمية إلى أمريكا وأوروبا وآسيا، وتحديداً اليابان والصين، رفَدت السعوديةَ بمئاتِ وآلافِ الكوادر في مجالاتٍ علميةٍ وأدبيةٍ عديدةٍ، وتخصصاتٍ حديثة.
ومنذ اكتشاف النفط عام 1933، قويت الحياة المدنية، وضعُفت أو تراجعت القبليةُ وسطوةُ بداوة هيئة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، وانتصر -ولأول مرةٍ بصورةٍ حاسمةٍ- الاستبدادُ السياسيُّ ضد الاستبداد الديني.
المأزقُ الذي يبدو فيه بن سلمان أنه يريد حكم السعودية بدون الأسرة (الورثة)، ويضع البيْض كله في سلة ترامب، المهدد بكوفيد 19 والانتخابات القادمة. ولأول مرةٍ تَظهر السعودية كطرفٍ في الصراع الحزبي الأمريكي، الجمهوري-الديمقراطي؛ وحتى داخل الحزب الجمهوري.
ثم جاء انقلابُ محمد بن سلمان ضِدّاً على التراتُب داخل الأسرة وتعددِ مراكز صنع القرار، وضدّ تدخل السلطة الدينية، وفتح البابَ أمام احتمالاتٍ خطرةٍ؛ فهل تنجح الضربةُ الاستباقية والوقائية التي قام بها محمد بن سلمان في الاستيلاء على السلطة؟ وإذا ما مات سلمان، ألا يُتوقع تفجرُ الصراع من حول تثبيت ولاية العهد؟ ففي تقاليد العرش السعودي، يعاد مناقشة ولاية العهد، واتفاق الأسرة الحاكمة على الملك الجديد، بعد ثلاثة أيام من دفن الملك، وتتم المبايعة داخل الأسرة أولاً. والسؤال: كيف الوضع حالياً في الجيش والأمن، المتعدد الرؤوس والولاء؟ وهل حُسِم نهائياً لصالح ابن سلمان؟ ثم ماذا عن الطبقة الوسطى القوية نسبياً، والمُقْصاة عن المشاركة الحقيقية طوال حقبة آل سعود، إلا بصورةٍ محدودةٍ، وفي مواقعَ معينةٍ، ولها تقاليدُ عريقةٌ في التعددية السياسية والحزبية والحريات الصحفية والديمقراطية منذ مطلع القرن الماضي؟
علاقاتُ الأمير القادم بالقوى الداخلية جديدةٌ، والانقلابُ الذي قام به ما يزال محدودَ الأثر؛ فهو لم يكسبْ بَعدُ دعاةَ التحديث وقوى المجتمع المدني الرئيسية. فالفتيات اللاتي دعَوْنَ باكراً إلى قيادة السيارة، مازلن في الاعتقال، بعد أن مورست ضدهنّ أسوأُ أساليب القمع؛ بما في ذلك تُهمُ الاغتصاب. والحريات العامة والديمقراطية وحرية الرأي والتعبير ما تزال مصادَرةً، وبعضُ الحريات الشخصية -على أهميتها- ما تزال كهِبَةٍ من وليّ العهد، وهي غيرُ مقنّنةٍ ولا دستورية. وأدوات الحكم هي هي، والقضاء هو هو. ورأينا مهزلةَ محاكمة قتلة الصحفي جمال خاشقجي.
مِن سوء حظ ابن سلمان أنه بدأ عهده بتهمة تورطه في قتل الصحفي جمال خاشقجي، مع استمرار إغراق ثورة الربيع العربي في حمامات الدم في غير مكان، وانقلابات الثورة المضادة في اليمن ومصر، والحرب الوحشية في سوريا وليبيا واليمن، وبروز أجندة صفقة القرن، وتصاعد الصراع الأمريكي والأوروبي-الروسي، والصراع الأمريكي-الصيني من حول التجارة وطريق الحرير، والسعوديةُ ليست بعيدةً عن هذا الصراع. والأخطر، الانغماس في الحرب على اليمن؛ وهي الحرب التي دمرت شعباً بكامله، وجعلت منه أسوأ كارثةٍ عرفها العصرُ، حسب الأمم المتحدة، والواقع الفاجع، وكشف عدم قدرة السعودية على حسم الحرب، رغم القدرات الفائقة والإنفاق الباذخ على الحرب.
المأزقُ الذي يبدو فيه بن سلمان أنه يريد حكم السعودية بدون الأسرة (الورثة)، ويضع البيْض كله في سلة ترامب، المهدد بكوفيد 19 والانتخابات القادمة. ولأول مرةٍ تَظهر السعودية كطرفٍ في الصراع الحزبي الأمريكي، الجمهوري-الديمقراطي؛ وحتى داخل الحزب الجمهوري.