علي محمد زيد في حوار لـ"خيوط" (2-4)

عن التكوين والترجمة والثقافة الجمهورية
محمد عبدالوهاب الشيباني
March 25, 2020

علي محمد زيد في حوار لـ"خيوط" (2-4)

عن التكوين والترجمة والثقافة الجمهورية
محمد عبدالوهاب الشيباني
March 25, 2020
||

في الجزء الثاني من الحوار مع الدكتور علي محمد زيد،نحاول الاقتراب من تجربته الأدبية والتي "تُختزل" في عمليْن سرديَّيْنمنشوريْن؛ هما: "زهرة البن"- 1998 و"تحولات المكان"-2005، ومنمشروعه الفكري الذي بدأ مع كتاب "معتزلة اليمن ودولة الهادي وفكره"،وتعمَّقه في كتاب "تيارات معتزلة اليمن في القرن السادس الهجري"،ويمثلان خلاصةَ الرحلة العلمية له في بيروت 1980 وباريس 1986.

  أما الكتاب الذيقام بتحريره عن سيرة الأستاذ النعمان، والمعنون بـ"مذكرات أحمد محمد نعمان.. سيرةحياته الثقافية والسياسية"، فهو الآخر حاضرٌ في مفردات هذا الجزء من الحوار.

مِثْلُ هذه العناوين يتيح للقارئ معاينةَ وجهٍ من أوجُهِالتعدد الخلاَّق في الرحلة الطويلة لهذا الاسم الكبير، وهي معايناتٌ ستُتْبعبمقاربةٍ ضافيةٍ لمشروع الترجمة الذي خاض غماره باقتدار. وسنختم، في جزءٍ رابعٍ وأخيرٍ،في موضوع التكوين الثقافي والسياسي والوظيفة العامة.

  • في 2006، نشرتُ مقالةً أدبيةً عنوانها "الخلاصبعكاكيز هشة" عن تجربتك السردية، وتقوم على قراءة عملية لـ"زهرة البن1998" و"تحولات المكان 2005"؛ العملين اللذين يتباعدان في إصدارهمابسبع من السنين، وبفوارقهما الفنية والأسلوبية، وينطلقان في الأصل من التظهيراتالحادة للوعي الجديد الذي يحاول -بتكوينه المعرفي وانحيازه الثقافي- التعبيرَ عنذاتٍ متخففةٍ من أثقال الماضي وأكلافه.. حدثنا قليلاً عن العملين! وهل ننتظر منكمغامرةً ثالثةً في إصدارٍ روائيٍّ جديد؟ هذا من جهة، ومن ثانية، تبشيرية المنصوص..هل مهدتْ لكتاب "الثقافة الجمهورية"؟
  • رواية "زهرة البن" تُصوِّر شخصيةً قلقةً تعانيمن مأزق الوجود في عالَمٍ ظالمٍ لا يبالي بمصائر ضحاياه، ولا يوفر لهم وسائل تحقيقذواتهم في أيِّ مستوىً من المستويات الاجتماعية والسياسية. شخصيةً تعيش في واقعٍبائسٍ مسحوقٍ بالظلم والاستبداد والجهل، بدأ الوعي يتسرب إليها عن طريق بذل جهدٍغيرِ عاديٍّ للتواصل الصعب عن بُعدٍ مع العالَم بمتابعة الراديو والقراءة. لا يفعلالوعيُ سوى زيادة معاناتها وتكثيف شعورها بالانسحاق؛ ينتزعها من سباتها ويقتلعهامن واقعها الخانع المستكين، ويُضاعف أزمتها الوجودية، فلا تعود قادرةً على الخضوعلتكون واحداً من القطيع الخانع، المستسلم لقدره، ولا على امتلاك مصيرها وصنعحاضرها ومستقبلها، ولا تجد من وسيلة للمقاومة سوى ذهنٍ متوقدٍ بالرفض وقَدَمَيْنقادريْن على القفز للهرب في أصعب الظروف من مكانٍ إلى مكانٍ، ومن مشنقةٍ إلى أخرى،دون أن تعثر على بصيصٍ من أملٍ ولا مَنْفذٍ ينقذها من الدوامة التي تلفُّهاوتخنقها وتطاردها.

وحينيلوح الزمن الجديد، بقيام الجمهورية، تتوحد هذه الشخصية القلقة بالأمل الجديد، وتُدافععنه فتقع في أسر أعدائه. وفي الأسْر، تعود إليها من جديدٍ محاولاتُ النجاة بمفردهادون مشروعٍ يجمعها بآخرين، وتحاول التحرر الفرديّ عن طريق الهرب. وتعود إلى مدينةٍجمهوريةٍ تتجاهلها تماماً وتنكرها وتعجز عن فهمها. وفي النهاية، لا تملك من وسائلِمقاومةِ أزمتها الوجودية سوى العودة إلى أرض الأمل والحلم.

وفيرواية "تحولات المكان"، يجمع الزمنُ الجمهوريُّ الجديدُ أناساً قادمينمن مصائرَ مختلفة، من الريف ومن عدن ومن المهجر. ويسلك الشخصيةُ الرئيسيةُ فيالرواية طريق مقاومة الزمن القديم بالتزود بمزيدٍ من المعرفة والوعي والأحلام.وفجأةً تسقط القذائفُ على المدينة ويحيط بها الحصار. ويجد نفسه في مقدمة المقاومينلحصار المدينة والمدافعين عن مشروع التغيير الحلم؛ تحيط به مجموعةٌ من شبابٍيتقدمهم، رغم صغر سنّه، يشجعون تفوّقه ويدفعونه نحو ذروة المواجهة. وعلى الرغم منالانتصار على حصار المدينة بعد التضحيات الكبيرة والعذاب والمعاناة، يكتشف بمرارةٍوحزنٍ أنه وصَحْبَهُ لم يكسروا سوى حلقةٍ واحدةٍ من حلقات الحصار المادّي والمعنويوالوجودي الذي يلفُّ البلاد كلها، وأن المكان الذي شهد معاركه وانتصاراته يتحولويغيِّر جلده، من قَصْرٍ للطغيان إلى فندقٍ يستقبل رُسُلَ الحرية والتفتُّح، إلىمدرسةٍ تنشر المعرفة والوعي بالزمن الجديد، إلى سجنٍ يستقبل الضحايا الجدد.

أما عن مشاريع الكتابة، فقد انتهيتُ من كتابة روايتين تنتظران النشر.

عملتُ على تحرير سيرة النعمان الثقافية والسياسية حتى لا تنسى الأجيالُ الجديدة أحدَ أبرز عناوين التنوير الثقافي والسياسي في اليمن

  • الأهمية الشديدة التي قدمها كتاب "مذكرات أحمد محمدنعمان.. سيرة حياته الثقافية والسياسية"، التي قمتَ بتحريرها ومراجعتها وصدرتفي 2003، تكمن -في الأصل- في إعادة التعريف بواحدٍ من المثقفين السياسيين في تاريخاليمن المعاصر وأكثرهم إشكالية، والذي تُعِدُّه نموذجاً لعددٍ قليلٍ من الطلائع الأفذاذالذين يمثلون جسراً بين القديم ومحاولات التمرد عليه للانتقال إلى العصر الحديث، وأحد الأصوات الباكرة التي تعمقت صِلَتُهابدعوة التحديث والتنوير. ولعل هذا القَدْرَ الأصيلَ من تأثير حركة التنوير العربيةما ابتعد به عن تأثير القوى التقليدية، مثل جماعة الإخوان المسلمين.. سؤالي هنا مُركّب:هل يمكن اعتبار هذا النص وثيقةً سيروِيّةً تامةً عن مرحلةٍ زمنيةٍ في حياة النعمانوتسد فراغاً ما في تجربته، في ظل تضارب الأقاويل عن مذكراته الأصلية وعدم نشرهاحتى الآن؟ هذا من جهة، ومن جهة ثانية، إلى أي مدىً استطاعت سِيَرُ الشخصياتالسياسية في اليمن أن تكون شاهداً أميناً على تاريخ اليمن المعاصر وحركته الوطنية؟
  • حين كنت سنة 2002 مديراً تنفيذياً لمؤسسة العفيفالثقافية (التي كانت ومعها مؤسسة السعيد أهم المؤسسات الثقافية العاملة بنشاطٍلتحريك الحياة الثقافية اليمنية)، لاحظتُ أن الكثير من الفاعلين السياسيين ومنالرواد، الذين ساهموا في التغيير الجمهوري، قد نشروا مذكراتهم؛ في حين أن الأستاذأحمد محمد نعمان، بما له من ريادةٍ ومكانةٍ ودورٍ قياديٍّ في تأسيس حركة الأحراراليمنيين وفي الدعوة إلى التغيير، قد ظل صامتاً، ولم يُنشَر شيءٌ عن حياته ونضاله،على الرغم من مرور السنوات على وفاته، وأن الأجيال الجديدة توشك أن تنساه؛ وهو ماشكّل نقصاً فادحاً في معارفنا عن مرحلة التحول من القديم إلى الجديد، من عصورالظلام إلى العصر الجمهوري، ناهيك عن الوفاء المستحق للآباء الذين بذلوا مايستطيعون من جهودٍ لمحاولة إخراجنا من ظلام الماضي إلى العصر الحديث.

وكنتُقد عرفتُ من أحد أساتذتي في الجامعة الأمريكية في بيروت أنه سبق له، في سنة 1969،أن أقنع الأستاذ نعمان بأن تتولى الجامعة تسجيلَ مذكراته بصوته، وأنه قَبِلَ بعدترددٍ وممانعةٍ؛ بشرط أن تحتفظ مكتبة الجامعة بهذه الأشرطة ولا تسمح بنشرها إلابعد رحيله. وقد تعاونتُ مع المركز الفرنسي للدراسات اليمنية في صنعاء، وذهبتُ إلىبيروت للاطلاع على هذه المذكرات وإعدادها للنشر، حتى نُشِرت سنة 2003.

لكنّما لفت نظري هو أن المكتبة قد حصلتْ من الأستاذ نعمان على صور بالمايكروفيلملمجموعة الوثائق المهمة التي يحتفظ بها عن المرحلة التي شهدت نضاله. وعرفتُ فيمابعد أن صورةً أخرى من هذه الوثائق قد أُعطِيتْ لإحدى الجامعات في لندن لحفظها.وسمعتُ مؤخراً أن الفرنسيين يعدون مشروعاً لنشر هذه الوثائق، وآمُل أن ترى النورقريباَ.

  • في عام 1997، قام المركز الفرنسي للدراسات اليمنية بإصدار كتابك شديد الأهمية "تيارات معتزلة اليمن في القرن السادس الهجري"، بعد أحد عشر عاماً من نيلك درجة الدكتوراه من جامعة باريس الأولى عن ذات الموضوع، والذي يمثل توسعاً وإضافةً مهمةً للكتاب الأول "معتزلة اليمن ودولة الهادي وفكره"؛ إذ ستكون مقاربته لتاريخ وفكر المُطرّفية وأعلامها وعِلْم الكلام، عند منظريها الأوائل، الدراسةَ الأشمل عن هذه الفرقة الزيديّة الهادَوِيّة التي تعرضتْ للاضطهاد والإبادة من قبل الإمام عبد الله بن حمزة، بسبب رأيها في فكرة الإمامة وآرائها الكلامية في مسألة الخلق، والتي أبصر فيها بعضُ الباحثين المعاصرين فكراً علمياً إيمانياً يبحث عن الإيمان في أجلى صوره.. الملاحظ أنك، في دراستك العليا في بيروت وباريس، اخترت هذين الموضوعين الشائكين وشحيحَيْ المصادر، فهل بالإمكان إعطاء القارئ صورةً مكثفةً عن هذين الكتابين اللذين قَدّماك كأحد المجتهدين الكبار في تاريخ المعتزلة والزيدية والفِرَق المتصلة بهما؟ وما الذي تبقى من فكر المعتزلة والزيدية -وحتى الهادوية نفسها- بعد التجريف السياسي الذي طالها؟

"المُطرَّفِيّة" أهمُّ تيارٍ فكريٍّ في تاريخ اليمن الإسلامي، وإنتاجها يشكل إضافةً إلى الفكر العربي الإسلامي.

  • حين بدأتُ التفكيرَ بموضوعٍ لإعداد رسالة الماجستير، كنتأبحث عن موضوعٍ يتناول -من الناحية الفكرية- لحظة التغيير الجمهوري في اليمن. وكنتأقرأ عند بعض المثقفين اليمنيين عما يسمونه مدرسة التحرر الفكري، والبعض يسميهمدرسة التحرر الديني في تاريخ اليمن (ويقصدون التحرر من التعصب لمذهب بعينه).وبدأت البحث في هذا الموضوع، ودارت برأسي -وأنا في بداية الطريق- أسئلة كثيرة؛ منأهمها: إذا كان هناك مدرسةُ تحررٍ فكريٍّ أو دينيٍّ، فمِمَّ تحررت؟

وواصلتُتتبعَ الجدل الفكري في تاريخ اليمن حتى توقفتُ عند دخول الفكر المعتزلي إلى اليمنعن طريق الزيدية، على يد الإمام الهادي يحيى بن الحسين في نهاية القرن الثالثالهجري. وعندها تحققَ لقاءٌ تاريخيٌّ بين الإمامة الزيدية والقبائل المحاربة، ظَلَّيسحب نفسه على تاريخ اليمن حتى اليوم. وكان هذا موضوع كتاب "معتزلة اليمن..دولة الهادي وفكره"، الذي ركز على موضوعين رئيسيين، هما:

أولا:وصول الفكر المعتزلي إلى اليمن، وهو ما أدى إلى الحفاظ على الفكر المعتزلي فيمخطوطات اليمن بعد أن انقرض في المناطق الإسلامية الأخرى.

وثانيا:كيف عملت الإمامة الزيدية، منذ الهادي، لتوحيد القبائل المتقاتلة فيما بينهاوتوجيه جهودها نحو تأسيس سلطة الإمامة التي نجحت أحياناً وأخفقت في أحيانٍ أخرى؛وهو ما أثّر على تاريخ اليمن وطَبَعَهُ بالحروب اعتماداً على القبائلالمحاربة. 

وفيكتاب "تيّارات معتزلة اليمن في القرن السادس الهجري"، اكتشفتُ عند قراءةالمخطوطات المبعثرة في أماكن مختلفةٍ، وبعضها نادر، فرقةً متميزةً اسمها "المُطرَّفِية"؛تعدُّ أهمَّ تيارٍ فكريٍّ في تاريخ اليمن الإسلامي، ويكاد إنتاجها الفكري يشكل أهمَّإضافةٍ يمنيةٍ إلى الفكر العربي الإسلامي.

كانتفرقةً مدهشةً توصلتْ إلى أفكارٍ فلسفيةٍ مبتكرةٍ في أغلبها، مثل قولها بوجود عناصرأربعةٍ يتكون منها العالم، تكاد تشبه العناصر الأربعة في الفلسفة الماديةاليونانية قبل سقراط، وتقضي بأن الله خلق هذه العناصر الأربعة وجعل لها فِطَرا أوطبائع (جعل لها قوانين) تتصرف وفقاً لها فتُحِيل وتستحيل، وتؤثر وتتأثر، وتتفاعلفيما بينها، وتختلف وتتفق بحسب تفاعلِها ونِسَبِ تركيب العناصر الموجودة فيها،والمجبورة على ألّا تخرج عن طبائعها. ومن ثم إذا كانت مفيدةً أو ضارةً، فبحسب مافيها من طبائع، وأن الله لا يتدخل في كل صغيرة وكبيرة من أطوارِ تحوُّلهاوتفاعلاتها؛ وإلا كان مسؤولاً عما تُحدِث من أضرارٍ، وهو منزّهٌ عن ذلك. وبذلك،رأت أن الأمراضَ ناتجةٌ عن موادَّ في الوسط المحيط تسبب المرض، بما لها من طبائع،وأن التداوي يعني التعامل مع هذه المواد الضارة. والقول بعكس ذلك يعني أن اللهأراد الضرر للإنسان؛ وهذا يتنافي مع عدله ورحمته.

ومنالآراء العلمية التي توصلتْ إليها، وفقا لهذه النظرية الفلسفية الفريدة، أنالأمطار أبخرةُ البحار والأنهار تحملها الرياح فتنزل مطراً، وأن البَرَد قطراتُماءٍ تجمدت في الفضاء.

ومنالناحية الاجتماعية، رأت أن الناس يتمايزون فيما بينهم بأفعالِهم وبعلمِهم، وليسبأنسابهم، وأن الاختلاف في الرزق (في الثروة) يتحقق بالاكتساب أو باغتصاب البعضلأرزاقِ آخرين.

ومنحيث السياسة، رأت أن الإمام أو الحاكم يجب أن يكون أفضلَ الناس علماً وجسماًوأخلاقاً واستقامةً ومناقبَ؛ وإلا سقط حقُّه في الحكم.

وأهمما أنجزته أنها نشرت التعليم، الذي كان حكراً على بعض الأُسَر، وأتاحته للكثير منالناس العاديين.

ونتيجةلهذه الأفكار غير المعتادة، والمعارِضة لما كان يُعَدُّ التيارَ الرسميَّ فيالزيدية، كفَّرها الإمام في بداية القرن السابع الهجري وحكم بقتل البالغينواستعباد النساء والأطفال (قتل المقاتلة وسبي الذراري) ودمّر هِجَرَها، ولم ينْجُمنها إلا من هرب إلى مناطق خارجة عن سلطته. وتعرضتْ للمحو حتى من كتب التاريخ الذيعادةً ما يكتبه المنتصرون من وجهة نظرهم.

وقدظلَّ مشروعي الأساسي للوصول إلى تناول لحظة التغيير الجمهوري يراودني باستمرار.وحين أنجز برنارد هيكل كتابه المهم باللغة الإنجليزية، عن الفترة التي كان بعضالمثقفين اليمنيين يسمونها "مدرسة التحرر الفكري أو الديني"، قمتُبترجمته إلى اللغة العربية ونُشِر في بيروت سنة 2014 بعنوان "الإصلاح الدينيفي الإسلام.. تراث محمد الشوكاني".

وقد شعرتُ بالارتياح بعد صدور كتاب "الثقافة الجمهورية في اليمن"؛ لأنه يكاد يتطابق مع المشروع الفكري الأساسي الذي راودني حين كنتُ ما أزال طالباً جامعياً.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English