قبلأكثر من عامٍ، أصدر الباحث قادري أحمد حيدر كتابه (الصراع السياسي في مجرى الثورة اليمنيةوقصة بناء الدولة). يتناول الباحث مرحلة الثورة اليمنية سبتمبر 1962، وأكتوبر 1963،وصولاً إلى العام 1990، بروحٍ نقديةٍ وفهمٍ عميقٍ لمجرى الثورة، كما يشيد ناقداً، بالوجودالمصري- النجدة القومية لجيش مصر وثورتها القومية.
يقع الكتاب، المتوسط الحجم، في 344 صفحة، مشتملاًعلى فصلَيْن وعدة عناوين ومقدمة. يكرّس الفصل الأول لثورة السادس والعشرين من سبتمبر1962، ومراحل الصراع الذي شهدته، ويتناول التحديات ومصاعب بناء الدولة. في (المقدمة)،يشير إلى أن فكرة الكتاب جاءت استجابةً لطلب المؤسسة العربية للدراسات الإستراتيجية؛لتقديم بحثٍ عن الصراع السياسي في مجرى الثورة اليمنية وقضية بناء الدولة، مشيراً إلىإضافة أقسامٍ تتعلق بالكيانات السياسية في الجنوب، ووضع الدويلات والكيانات السياسيةقبل الاستقلال، مشيداً بدور صديقه علوان الشيباني في دعمه لطباعة الكتاب، وبدور صديقهالباحث أحمد الجبلي في قراءة المسودة والمراجعة والتصحيح، وتقديم العديد من الملاحظاتوالإضافات والتصويب.
في مصاعب وتحديات بناء الدولة، يتناول الكتاب جدلَالقبيلة وقضية بناء الدولة. يأتي على مرحلتَيْمجيء الهادي يحيى بن الحسين، ومشروعه في بناء سلطته في منطقة معينة من اليمن، ويتناولمدى الترابط العميق والجدلي بين مراحل بناء سلطة الإمامة متحالفةًمع القبيلة، واحتياج كلٍّ منهما للآخر. هذا الأمر هو السمة العامة لتاريخ الإمامة.وتناوُلُ الباحث قادري يتسم بروح المسؤولية والتوثيق والدقة، مشيراً إلى ما قاله الشيخعبد الله بن حسين الأحمر في (مذكراته) من اعتبارِ "حاشد" أنصاراً لا رعايا.وتعبير "الأنصار" يرتقي بالإمامة إلى مرتبة النبوة؛ بينما كان الأنصار فيعهد النبوة يكتفون بعودة الرسول معهم، في حين يذهب المؤلفة قلوبهم وحديثو العهد فيالإسلام، بالأسلاب والغنائم، كما يفعل هؤلاء الذين يسمون أنفسهم أنصاراً. وعموماً،فجلُّ الباحثين والكثير من المؤرخين يتناولون تاريخَ اليمن من دخول الإمامة إلى اليمن،وتحالفها مع القبائل في مناطق معينة؛ وكأنه التاريخ اليمني كله! وهي لحظةٌ من التاريخوتعبيرٌ عما سادَ في مراحل منه، وإن لم تكن كل التاريخ اليمني. ولكن منذ قيام المتوكليةاليمنية -وهذا هو الأهم- أصبحت المتوكلية وكأنها اليمن كله؛ بينما هي كيان شطري فقط.وهو ما يكرس له مبحث الأستاذ قادري؛ علماً بأن إشارة الأحمر إلى حاشد كأنصار للإمامةلا تعبر عن الحقيقة. فتحالفات الإمامة -عبر تاريخها الممتد لعدة قرون- كان متنقلاًمن قبيلة لأخرى، وقد يكون هذا الانتقال في عهد الإمام الواحد. وكانت "بكيل"،بأفخاذها ومناطق وجودها، هي الأكثر ولاءً للإمامة، خصوصاً في القرون الثلاثة الأخيرة،منذ القرن السابع عشر. وإشارة الأحمر توظيفٌ إيديولوجيٌّ وسياسيٌّ؛ ليؤكد شرعية مشيخته،وكأنها التاريخ كله!
إن تحالف الإمامة والقبائل في شمال الشمال هو"التاريخ الآثم"، كتسمية الأحرار اليمنيين. وهو تاريخٌ مليءٌ بالصراعات والتحالفات والانقلابات عليها. وكتاب (حوليات يمانية)، فيالقرون المتأخرة، يزكّي تسمية الأحرار.
الباحث في مقاربةٍ سياسيةٍ ثقافيةٍ اجتماعيةٍ، يقرأ عميقاً بناءَ الدولة وتشكُّلَها، وصياغة النظام السياسي في الدولة السلطانية، القائمة على الحرب والغلبة، سواءٌ لدى الخليفة (الملك) أو الإمام، مُماهياً بينهما، ومعه كل الحق؛ فتسمية "الإمام"، المتلبسة بالرسالة الروحية للنبوة، قد دحضتها صراعاتٌ كالحةٌ وممارساتٌ شنيعةٌ، وتهديمُ المدن والقرى، والإغاراتُ المتكررة على المدن والأراضي الزراعية في غيرِ منطقة.
في الخطاب السياسي والإعلامي لدى مثقفي وكُتّاب اليسار الماركسي واليسار القومي، سادت مفاهيمُ ومصطلحاتٌ، من نوع "الدولة العميقة" وتصنيف المجتمع اليمني في ضوء التحليل الماركسي في صيغته الستالينية، أو الجمود العقائدي.
ويسير الباحث في قراءته لمسار الصراع الذي وَصَمَالتاريخَ القديمَ في جدل القبيلة والإمامة، بل ومختلف الكيانات الكاثرة.
يمضي الباحث إلى قراءةتجربة الشطرين التي شهدت حالةً من التغير واستمرار الصراع وعدم الاستقرار، آتياً علىقراءة المخاطر المحدقة، أو النابعة من طبيعة بناء الدولة القبلية أو الاتحادات القبلية،ونماذج دولتَيْ الخلافة والإمامة التي عرفتها اليمن. و"دولة القبيلة" تسميةٌنِصْفُها الآخر نفيٌ للأول، داعياً إلى امتلاك إرادةٍ وطنيةٍ وعقلٍ سياسيٍّ دينامكيٍّوطنيٍّ مدركٍ لشروط التحول، والنظامِ السياسي المؤسسي على قاعدة الفكر التعددي، والخلاصِ-كما يرى- من الثقافة السلطانية والأحادية. ويُدين امتزاجَ الثقافة التقليدية في عقولالنخب الثقافية والسياسية بالثقافة الحديثة، مشيداً بنقاش المفكر هشام شرابي لهذه القضية.
قضية الجزم -حد الاعتقاد- بأن الإمامة قد حكمتاليمن طوال ألف سنة، خرافة كرّسها الأحرار اليمنيون؛ بهدف التحريض ضد المتوكلية اليمنية.ولكن دلالتها خطيرة، وتختزل تاريخ اليمن -كل اليمن- في لحظةٍ واحدةٍ وزمنٍ متعينٍ وجغرافيامحددة؛ وهو ما تنبّه إليه كاتبٌ وباحثٌ، هو الأستاذ بلال الطيب. وقد سبق لي الإشارةإلى ذلك أكثر من مرة؛ وهو ما أغضب أصدقاءَ أعزاءَ من الضباط الأحرار، الواقعين في أسْرمقولات الأحرار في زمنٍ مضى وانقضى.
في الخطاب السياسي والإعلامي لدى مثقفي وكُتّاباليسار الماركسي واليسار القومي، سادت مفاهيمُ ومصطلحاتٌ، من نوع "الدولة العميقة"وتصنيف المجتمع اليمني في ضوء التحليل الماركسي في صيغته الستالينية، أو الجمود العقائدي.فالمراحل الخمس تُفهم بإستاتيكية، ولا يؤخذ بعين الاعتبار القراءة المائزة لمؤسسي الفكرالماركسي، وتحديداً رسائل ماركس وإنجلز مع لاسال، ومفكرين عديدين حول الشرق وبيئاتهوتكويناته، المختلفة بهذا القدر أو ذاك عن المركزية الأوروبية؛ وهو ما فَطِنَ إليهمفكرون عربٌ مُهمّون، كأحمد صادق سعد وإلياس مرقص وإدوارد سعيد وسمير أمين وأبو بكرالسقاف، وأخيراً الدكتور عبد الله إبراهيم، في قراءته المائزة عن الاستعارة والمركزيةفي الفكر الإنساني.
الباحث قادري تخففَ كثيراًمن الحمولة الإيديولوجية التي طبّقت فكر وتنظير المثقفين اليساريين الماركسيين والقوميين.وكتابه (الصراع السياسي في مجرى الثورة اليمنية وقضية بناء الدولة) تطورٌ مهمٌّ فيفكر ونهج هذا المفكر والباحث المتجدد دوماً.
تفنيد الباحث لتصنيف انقلاب 5 نوفمبر كانقلاببعثي، وردُّهُ على القائلين ببعثية الانقلاب، صحيحٌ؛ ولكن القول بأن الانقلاب قد كرّسالهيمنة بالمفهوم الغرامشي غيرُ دقيق، مع ضرورة التأكيد على مشاركة فاعلة لـ"البعث"في الانقلاب.
يرى الباحث أن الإمامة لم تكن تسمح للمشايخ بالوصولإلى قمة السلطة أو المشاركة فيها، وأنها -أي المشيخة- أصبحت قوةً نافذةً بعد الثورة،وأصبحت صاحبةَ القرار وتُحدِّدُ حق الآخرين في المشاركة، وخاصةً بعد انقلاب 5 نوفمبر1967، وإنجازها حالةَ هيمنةٍ بالمعنى الغرامشي، (ص 18). والواقع أن الصراع -منذ فجرالثورة السبتمبرية 1962- دار بين الجمهوريين والملكيين، كتسميةٍ سياسيةٍ؛ وواقعياً،دارَ بين شباب القوات المسلحة الحديثة بقيادة السلال، ومعهم مختلفُ الفئات والأحزابالسياسية الناشئة، ومختلفِ فئات وشرائح المجتمع اليمني مع هذه القوى المشيخية.
المشيخة القبلية، التي انقسمت على نفسها عقب الثورة،توحدت بعد 5 نوفمبر وتحقيقِ ما اصطُلح على تسميته بـ"المصالحة الوطنية".القوى المشيخية، بجناحيها الملكي و"المُجَمْهِر"، أصبحت القوى الحاكمة بعد5 نوفمبر، متحالفةً مع بعض رموز الأحرار وقوىً سياسيةٍ مختلفة.
احتدم الصراعُ أكثر فأكثر بين الجيش الوطني الحديثومختلف القوى السياسية الحديثة، وبين مليشيات القبائل المدعومة من السعودية. أحداثأغسطس 1968، وما تلاها، تُدلّل على ذلك؛ فالهيمنة هنا هيمنةٌ قبائليةٌ ضد جيش الثورةوضباطها الأحرار، وضد الثورة والجمهورية.
الهيمنة عند غرامشي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالجانبالمدني والسياسي والثقافي، ولا علاقة لها بما حدث بعد نوفمبر 1967. وكتاب الباحث قادري،من أَلِفِهِ إلى يائه، يؤكد هذه الحقيقة، ويُجْليها بأبرز معانيها.
الكتاب تطورٌ مهمٌّ في تفكير اليسار الماركسي والقومي، وهو انتقادٌ صادقٌ وموضوعيٌّ للتجاوزات في صف الثورة، ونقدٌ مدنيٌّ واعٍ للاعتقالات ومصادرة الحريات العامة والديمقراطية وتكميم الأفواه. أما تجربة ثورة أكتوبر 1963، فتحتاجُ إلى وقفةٍ أخرى.