بعد 128 عامًا من الاحتلال البريطاني لعدن ووصاياه المتعددة على قرارات المحميات الشرقية والغربية في الجنوب اليمني بالصفة الاستشارية والاتفاقات المكبلة مع حكامها (من أمراء وسلاطين ومشايخ)، خرج آخِرُ جنديٍّ بريطانيّ من عدن عشيةَ الثلاثين من نوفمبر، في استقلال ناجزٍ ناله الجزء الجنوبي من اليمن الكبير، وأرادت القوى الاستعمارية صبغه باسمٍ جغرافيّ منزوع الهُوية التاريخية.
جاء الاستقلال تتويجًا لسنوات من النضال السياسي للقوى الوطنية اليمنية وتراكمها منذ بروز صوت حركة التحرر الوطني في المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية؛ وغدا منذ أكتوبر 63 كفاحًا مسلحًا تبنّته الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمنيّ المحتل، وتاليًا جبهة التحرير وحلفاءهما من القوى السياسية في الشمال والجنوب.
البناء على هذه القيمة النضالية لطرد المحتل والتمدُّد بواسطتها إلى مناطق خارج عدن، وخصوصًا المناطق الريفية، جعلَ من الجبهة القومية القوةَ الأكثر تأثيرًا على الأرض، استطاعت -بعد تنافس ثم احتكاك فقتال شوارع، في 6و7 نوفمبر 1967- أن تزيح جبهة التحرير من المشهد برمّته، ومغادرة قيادات الجبهة وتنظيمها الشعبي (الجناح العسكري لها) إلى مدينة تعز. ليصير اسم الدولة الوليدة "جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية"، وأمين عام الجبهة القومية قحطان محمد الشعبي أول رئيس للدولة المستقلة ورئيسًا لأول حكومة فيها.
بدأت أول مشاكل الاستقلال بمحاولة تنميط المجتمع وصبغه بتوجّه أيديولوجيّ واحد، ليس فقط في إزاحة شركاء النضال كجبهة التحرير، وإنّما بتغييب الأصوات المختلفة داخل بنية الجبهة القومية، ابتداء من يونيو 1969، وصولًا إلى التقاتل داخل الجناح الواحد الذي ظنّ الجميع أنّه متجانس.
المغامرة الثورية الكبيرة للسلطة الجديدة بتبنّي خطٍّ سياسيٍّ إشكاليّ في مجتمعٍ غارقٍ في مشاكله الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وفي محيط إقليميّ محافظ، ومستغرق في استقطابات وتحالفات الحرب الباردة، لجهة المعسكر الغربي الذي تناصبه السلطة الحاكمة العداء، هذه المغامرة جعلت الدولة الوليدة في حالة استنفار دائم لقرابة عقدين من الزمن، حتى جاء الانفجار الكبير في يناير 86، ليقود الجميع إلى مراجعة كبرى، أقرب إلى المكاشفات القاسية، والتي لم يتبنَّ مثلها أيٌّ من التكوينات السياسية في البلاد، شمالها والجنوب.
في وضعٍ مثل هذا، ذهبت سلطة الدولة نحو مشروع الحلم اليمني الكبير، والذي رفعت شعاراته طويلًا، بتوقيع اتفاقية الوحدة بعد اثنتين وعشرين سنة من رحلة الاستقلال (30 نوفمبر 1989) في مدينة عدن، في وضع دولي مُعقّد بدأت تداعياته الكبرى بما عرف بـ"البيريسترويكا" أو الاصلاحات السياسية والاقتصادية (إعادة الهيكلة) التي جرت في حقبة آخِر زعيم سوفيتي (ميخائيل غورباتشوف) وقادت الدولة القوية في العالم إلى تفكُّك مريب مطلع التسعينيات.
دخلت جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية مرحلةَ الوحدة بمشاكل جمّة، سياسية واقتصادية، لكنها حملت معها إرثًا مهمًّا من المنجزات الاجتماعية والثقافية والقانونية لشعب صغير يقطن جغرافية شاسعة وواعدة، وفي سنوات قليلة تعرّض هذا الإرث للطمس من قبل الشريك الآخر- سلطة الحكم في الجمهورية العربية اليمنية، التي صارت الوحدة عندها مغنمًا واستئثارًا فجًّا، عبّرت عنه نزعة السيطرة على كل شيء في الجنوب بعد اجتياحه وإخضاعه في يوليو 94، بواسطة تحالف حرب من الضباط والمشايخ والقوى الدينية وضحايا الصراعات السياسية في الجنوب نفسه.
هذا الاجتياح والإخضاع راكمَ غضبًا شعبيًّا في أوساط المقهورين الذين فقدوا ليس فقط الدولة الضامنة والمكتسبات المتعددة بل فقدوا وظائفهم ومداخيلهم التي تقيهم عوز الحاجة والجوع، فصار الغضب المكتوم مع السنين صوتًا وفعلًا رافضًا لكلِّ ما هو غير جنوبي، صوتٌ تمت تغذيته في سياق التنافس على تفكيك التراب اليمني، صوت أعمى لا يفرق بين مُضطهِد حاكم، وبين مضطهَد مقهور يتشارك معه ذات القهر والألم، فكلُّ ما هو شمالي، عند هذا الصوت المرتفع، صار عدوًّا، فضلًا عن كونه محتلًّا غاشمًا، وهو من وجهة النظر ذاتها جزءٌ من منظومة 7/7، وهو من سهَّل للحوثيين الوصول إلى عدن والجنوب لاحتلالها من جديد مطلع 2015.
اليوم وفي الذكرى الخامسة والخمسين للثلاثين من نوفمبر، يكبر السؤال الوطني؛ ماذا تبقَّى من الاستقلال؟ في ضخٍّ فجّ للمقارنة بين صورتي عدن المستعمرة الإنجليزية، وعدن المقهورة - التي صارت في الوعي الشعبوي المنفلت، مستعمرةً يمنية غارقة في الفوضى والانفلات بعد أن كانت عنوانًا في المنطقة برمتها للمدنية والتحديث.
وماذا تبقَّى من حلم اليمنيين الكبير في بناء دولة قوية، يتعايش فيها أبناؤها في سلام؟ بالتأكيد في ظلِّ هذه التعمية وتخريب وعي الانتماء. سؤالٌ سنبقى جميعًا نبحث عن إجابة له، بعيدًا عن شطط الانفعال!
نوفمبر مجيد، وكل عام واليمن وأبناؤه بمحبة وسلام.