لا خلاف مطلقًا على ثورة 14 أكتوبر من العام 1963، في تاريخنا الحديث، من حيث أهميتها وتأثيرها ومكانتها التاريخية، أحد أيامنا المجيدة، لا خلاف على ذلك، وها نحن اليوم نطوي ستين عامًا من عمرها في ظل أوضاع ومتغيرات والتباسات عديدة تعيدنا أحيانًا إلى أسئلة البدايات وحيرة المآلات في تاريخ اليمن الحديث، الذي تكنّ له الأجيال كل معاني التقدير والعرفان للتضحيات والدماء التي سالت من أجل التحرر من الاحتلال البريطاني الذي جثم على هذه الأرض نحو مئة وثلاثين عامًا، مدة طويلة حصادها وأوجاعها وتقييمها في ذمة التاريخ والنظرة الموضوعية وما يمكن أن تسفر عنه من دراسات مستقبلية، كما أن ستين عامًا من عمر هذه الثورة التي رسخت سرديتها في الذاكرة التاريخية على ما عداها من سرديات النضال الوطني ضد الاحتلال البريطاني كفيل بأن يجعلنا نبحث في المزيد من زوايا تاريخ نضالنا الوطني وسردياته المنسية أو الغائبة، حتى تكتمل صورة أكتوبر وإنجازه العظيم.
وغنيٌّ عن البيان أن تاريخ نضال الشعوب هو سلسلة من الثورات والأحداث والتراكمات التي تشارك فيها الأجيال، بعضها قد تتوفر له الظروف وعناصر الحفظ والتوثيق، وبعضها يذوي مع السنين ويتلاشى، ويتسرب من الذاكرة الوطنية إن لم يجد من الباحثين والدارسين ما يستحق من العناية والاهتمام، وبهذا المعنى لم تكن ثورة أكتوبر إلا نتاجًا طبيعيًّا ومنطقيًّا وبديهيًّا لنضالات طويلة خاضها الشعب ضد الاحتلال البريطاني، فلم تكن المئة والثلاثون عامًا في عمقها الزماني خاليةً من حركات التمرد والرفض والاحتجاج والمقاومة لوجود البريطانيين في عدن، التي دخلوها بعد مقاومة شرسة من أهلها، حسمها البريطانيون بسبب التفوق العسكري، لكنهم لم يخضعوها تمامًا للإرادة البريطانية، ويخبرنا المنطق وتاريخ الشعوب أن هناك مقاومة تتخذ أشكالًا عديدة في مواجهة أية قوات احتلال، وهذا يستدعي البحث في تاريخ منسي من نضال عدن منذ القرن التاسع عشر، قبل أن تتمدد بريطانيا بجنودها في خارطة الجنوب شرقًا وغربًا وتقيم الكيانات والمحميات تارة، أو تعقد الاتفاقيات والمعاهدات تارة أخرى، وبالتأكيد تتسع مع اتساع نفوذ البريطانيين ووجودهم حركات أهلية واجتماعية ترفض وجودهم وتقاومه وتثور عليه، وهذا الذي نقصده بسلسلة تراكم النضال والتضحيات في معركة الحرية والاستقلال الوطني، والذي لا يبدأ بيوم أو تاريخ معين.
يؤدي غياب كتابة المذكرات والسير الذاتية للمشاركين في الأحداث العامة إلى غياب جزء مهم من سردية التاريخ السياسي لصالح السردية الأحادية أو المهيمنة. وهذا الغياب أمر ملاحظ على مستوى الشخصيات والنخب التاريخية والسياسية والعامة في جنوب اليمن، التي لم تبادر إلى كتابة مذكراتها لأسباب عديدة، ربما منها الهروب من التاريخ والخشية من أوجاعه، وذلك ما أدّى إلى ضياع جزء مهم من مروي التاريخ الوطني من وجهات نظر متعددة.
إن فكرة الفرد الأول أو الانطلاقة الأولى للشرارة غير منصفة في التاريخ، فضلًا عن كونها فكرة تراثية، قادمة من عمق الثقافة العربية التي تعنى بالأول فقط، وتبحث عمّا هو فردي، وبالتالي ترسخ سردية بعينها على حساب بقية السرديات التي تذوي وتتلاشى ثم تُنسى وتغيب، كما هي طبيعة الثورات وما يكتنفها من تيارات وصراعات على السلطة تؤدي إلى تكريس بعض الأسماء وسردياتها الخاصة بقوة طاغية من أجل تبرير وجودها وشرعيتها النضالية، وهذا يحدث في ظل غياب البحث التاريخي أو الرؤية الموضوعية المنصفة، وربما يؤدّي غياب كتابة المذكرات والسير الذاتية للمشاركين في الأحداث العامة إلى غياب جزء مهم من سردية التاريخ السياسي لصالح السردية الأحادية أو المهيمنة. وهذا الغياب أمر ملاحظ على مستوى الشخصيات والنخب التاريخية والسياسية والعامة في جنوب اليمن التي لم تبادر إلى كتابة مذكراتها لأسباب عديدة، ربما منها الهروب من التاريخ والخشية من أوجاعه، وذلك ما أدّى إلى ضياع جزء مهم من مروي التاريخ الوطني من وجهات نظر متعددة.
من زاوية دور البحث العلمي، بما يمتلكه من أدوات منجية في تناول التاريخ الوطني، وإعادة تنظيم سردياته، استوقفتني دراسة علمية تتناول جوانب مهمة من تاريخ النضال ضد الاحتلال البريطاني، وهي دراسة الدكتور عمر الفانوص (من جامعة عدن) استعاد فيها سرديات تاريخية خلال المدة من 1937 إلى 1957، في كتابه (صفحات من تاريخ المقاومة القبلية للتوسع البريطاني في شبوة) اشتغل فيه على نماذج منسية من ثورات سبقت ثورة 14 أكتوبر 1963، هي: انتفاضة آل رشيد في الريدة في 17 نوفمبر 1939، ضد بريطانيا والسلطنة الواحدية ورفض تمدد القوات البريطانية باتجاه هضبة شبوة، ورفض سياسة المستشار البريطاني إنجرامز التي حاولت نزع سلاح القبائل وإخضاعهم بالقوة وضربهم بالطائرات، وانتفاضة آل العظم في الحامية في الشهر نفسه للأسباب نفسها، على الرغم من سياسة الترغيب والترهيب التي استخدمتها بريطانيا في المحميات الشرقية.
وتناول الباحث بالتفصيل انتفاضة قبيلة بلحارث في بيحان في مايو 1948، التي سطّر ثوّارها أروع الملاحم البطولية على الرغم من ضربها بالطيران البريطاني بكل وحشية، ثم انتفاضة قبائل ربيز في حطيب في بدايات عام 1956، بقيادة علي معور الربيزي وولده سالم علي معور الربيزي، التي استمرت نحو عشر سنوات، ووضعت حدًّا لتغلغل البريطاني في شبوة في محاولاتهم إخضاع القبائل لنفوذهم، وقد تمكن رجال هذه الثورة من هزيمة الجيوش التي ظلت ترسلها بريطانيا تباعًا، ووقفت ضد المصالح الاستعمارية التي كانت تحرك بريطانيا باتجاه حقول النفط في ثمود، شرق شبوة. كانت ثورة صلبة بتضحيات عظيمة، على الرغم من محاولات البريطانيين استقطابَ رجالها بالإغراءات المالية السخية والامتيازات العديدة، وقد كان لهذه الثورة اتساعات وامتدادات على مستوى مناطق العوالق في شبوة، ولم تزل الذاكرة الشعبية تروي سرديات بطولاتها ومواقف شخصياتها المؤثرة، ومعاركها وإسقاط الطائرات البريطانية بالبنادق التي ظل يصوّبها الثوّار من أعالي قمم جبال الكور في شبوة.
ومن سردياتها الملهمة، أنه عندما عجز البريطانيون عن القتال اضطروا إلى إلى التفاوض لنقل جرحاهم وقتلاهم، وفي أحد لقاءات التفاوض، الذي جمع ابن معور والقائد البريطاني (جونسون)، يأبى التاريخ المروي إلا أن يسجّل موقفًا دراميًّا حجاجيًّا تنوب فيه قوة الكلمات عن قوة الطلقات ونيرانها، أراد فيه القائد البريطاني بخبث ودهاء وعنجهية أن يسخر من ابن معور ومقاتليه الذين كانوا يحملون بنادقهم القديمة ذات المسبت ومشط الأربع الطلقات فحسب، فقال ليقلل من عزائمهم:
فأجابه ابن معور بكل ثقة وإيمان وتحدٍّ وثبات:
وهكذا لكل واحدة من هذه الثورات تفاصيلها وسردياتها التي تُظهر بطولات وشجاعة نادرة، تناقلتها أفواه الناس والشعراء الذين صاغوها في قصائد وأبيات تخلد المواقف الملحمية في حقبة تاريخية بالغة الحساسية في تاريخنا الوطني، لكنها، للأسف الشديد، ثورات منسية إلا من إشارات عابرة أو إضاءات هامشية في مقابل سردية 14 أكتوبر المجيدة في عام 1963.