يرسمون بأناملهم أجمل التشكيلات للأواني، ويزخرفونها بألوان فرائحية تحاكي قوس قزح، لكنهم يحملون في أعماقهم إلى جانب هذا الإحساس العالي بالجمال، همومًا جمّة، تجعلهم ينظرون إلى المستقبل بعيون حائرة، يملؤها الخوف والتوجّس. هؤلاء بإيجاز، هم صانعو الفخّار في اليمن.
لا تكاد تُذكر صناعة الفخار في اليمن إلا مقرونة مع مدينة "حيس" التاريخية، الواقعة على بعد (150) كيلو متر جنوب مدينة الحديدة، بل إن جميع منتجات هذا النوع من الصناعة التقليدية يطلق عليها "الحَيَاسي" ومفردها "حيسي"، خاصة للأواني الفخارية المستخدمة في الشرب. هي تسمية معروفة في جميع أنحاء اليمن، نسبة إلى مدينة "حَيْس" العتيقة، التي يعود تاريخ إنشائها إلى العصر الحميري القديم، وتحمل اسم أحد أبرز القادة الحميريين وهو "الحيس بن ذو رُعين الحميريّ"، بحسب الباحث والمؤرخ عبد الجبار باجل، في حديثه لـ"خيوط".
ويقول الباحث عبدالسلام الحداد، في حديث لـ"خيوط"، إن مدينةَ "حيس" من أوائل المدن التي تخصصت في صناعة الفخار والأواني الخزفية، إذ كانت المورد الأساسي لما تحتاجه اليمن من هذه الأواني، نظرًا لتوافر التربة الطينية الجيدة في وديان المدينة، والأكاسيد المعدنية في الجبال الواقعة إلى شرقها.
ويضيف الباحث الحداد، وهو مؤلف كتاب "مدينة حيس اليمنية؛ تاريخها وآثارها الدينية"، أن هذه الصناعة بلغت أَوْج ازدهارها وتطورها في عصري الدولتين الرسولية والطاهرية، لافتاً إلى أن منتجاتها الخزفية، كانت "ضمن هـدايـا سلاطين بني رسول إلى نظرائهم سلاطين الدولة المملوكية في مصر".
مقاومة الإغراق الصيني
حول مدينة "حيس" وأوانيها الفخارية، قيلت الأمثال الشعبية ونُسجت الروايات، ومنها المَثَل الشهير الذي كان متداولاً بكثرة في عدة مناطق: "الصيني الواحد بـ10 حياسي"، وينسب هذا المثل إلى الإمام أحمد حميد الدين الذي حكم اليمن من 1948-1962.
رغم تاريخها العريق، أصبحت الأواني الفخارية اليمنية أمام مخاطر حقيقية تهدد وجودها؛ فقلة الإقبال على هذه الأنواع من الأواني من قبل الجمهور، أصاب الحرفيين باليأس والإحباط
قصة المقولة تفيد بأن عمالًا صينيين كانوا يشقون الطريق الرئيسي بين الحديدة وتعز، وحدثت إشكالات مع ملاّك الأراضي الزراعية في ضواحي "حيس" التي تمر فيها الطريق. ويقال إن أحد العمال الصينيين أصيب في أعمال الاحتجاجات من قبل أهالي "حيس"، فلما تناهى نبأ ذلك إلى أسماع الإمام أحمد، غضب غضبًا شديدًا، وقال: "أبلغوا أهل حيس بأن الصينيّ الواحد بـ10 حياسي". وقد صارت تلك المقولة مَثَلًا متداولًا في المناطق التي كان يحكمها الإمام، ويتضمن إسقاطاتٌ ومعانٍ يستدل بها البعض للتقليل من جودة أواني "الحياسي"، مقارنة بالأواني الصينية المصنوعة من الألمنيوم والنحاس، التي كانت في ذلك الوقت بدأت في الظهور والرواج على حساب الأواني الفخارية ذات المنشأ الحيسي.
لا تزال منتجات الفخار اليمنية، والحيسية منها على وجه الخصوص، تدفع ثمنًا باهضًا من سمعتها وجودته إلى اليوم، بسبب مقولة الإمام تلك ذات المغزى المزدوج؛ التقليل من شأن سكان "حيس" عبر الانتقاص من جودة منتجاتهم الفخارية.
رغم تاريخها العريق، أصبحت الأواني الفخارية اليمنيّة، وتحديدًا "الحياسي"، مثقلة بالمصاعب والتحديات، بل وأمام مخاطر حقيقية تهدد وجودها؛ فقلة الإقبال على هذه الأنواع من الأواني من قبل الجمهور، أصاب الحرفيين باليأس والإحباط، وقلة التعويل على ازدهار صناعتهم في "القادم المجهول". هكذا قال عبده أحمد، وهو صنائعي محترف في مجال الفخار في مدينة حيس.
ويضيف أحمد لـ"خيوط"، وهو منهمك في تشكيل الطين أثناء صناعته لآنية قهوة صغيرة تسمى هناك بـ"حياسي القهوة"، إنه لم يعد هناك أحد يكترث للميزات الجيدة لهذه الأواني، ولا لمواصفاتها الصحية، خاصة من قبل "جيل اليوم".
فهذه الأواني، كما يوضح، صحيّةٌ في استعمالها المتعدد الأغراض، سواء للطعام أو لشرب القهوة أو لحفظ المياه؛ إذ تبقي الماء باردًا طوال الوقت، بفعل مساماتها الراشحة التي تقوم بتصفية الماء من الشوائب، والتي يطلق عليها "فلتر" أو "قَطّارات"، وذلك ما لا يتوافر في الأواني المعدنية التي يطلق عليها بـ"الصينيات".
ويعتقد أحمد أنه نظرًا لانخفاض أسعار "الصينيات"، باتت محل إقبال كبير من قبل الناس الذين تستهويهم السلع ذات الأسعار الزهيدة، ولا يُلقون بالًا لمواصفات ومعايير الجودة إلا القليل من كبار السن، وخاصة من سكان الأرياف والقرى الذين يحرصون على اقتناء هذه الأواني.
مراحل تصنيع أواني الفخار
تمر صناعة الفخار بعدة خطوات للوصول إلى تلك الأشكال المزينة، مع بذل الكثير من الجهد وإنفاق الأموال على المواد اللازمة لصناعتها.
عبده أحمد، الذي ورث معمله عن أبيه وجده، ولا يزال ينتج أشكالًا مختلفة من الأواني بمدينة حيس، يوضح كيف أن كل تربة لا تصلح لصناعة الفخار. يقول إن الأمر يتطلب اختيار التربة بعناية فائقة قبل تجميعها ونقلها إلى المعمل، وهذه خطوات مكلفة، وتتطلب "رأس مال لا بأس به"، قبل أن تتم في المعمل عملية تصفية وغربلة تلك التربة، لتصبح ناعمة ومناسبة للاستخدام. ثم يتم رشّ التربة بالماء وتخمير الطين جيّدًا من خلال عجنه بواسطة عجّانات خاصة، وبالدّوس عليه بالأقدام، وهي الخطوة الأخيرة قبل القيام بعملية تقطيع الطين، وَفقًا للأشكال المطلوبة من أواني الطبخ أو "التناوير" (أفران منزلية صغيرة من الفخّار لإعداد رغيف الخبز). كما يصنع من الطين الجاهز للتصنيع، أواني وأدوات منزلية متعددة الاستخدام، ثم يتم وضعها في أفران تقليدية، توقد بالحطب قبل الوصول إلى المنتج في صورته النهائية.
مستقبل محفوف بالمخاطر
تواجه صناعة الفخار في اليمن صعوبات جمّة، فهذا النوع من الأعمال الحرفية لا يحظى بأي نوع من الدعم والتشجيع الرسمي.
ويرى حرفيون ومهتمون، أن هذه الصناعة لا تحظى بالوعي المجتمعي الكافي حول أهميتها من الناحية الاقتصادية والسياحية، وهو ما ينعكس سلبًا على واقع هذه المهنة وعلى مستقبلها الذي بات محفوفًا بمخاطر الاندثار، شأنها في ذلك شأن الكثير من الحرف التقليدية.
في هذا الشأن، يتحدث لـ"خيوط" الباحث والمؤرخ عبدالجبار باجل، وهو من أهالي مدينة حيس، عن التحديات التي تهدد مستقبل هذه الصناعة؛ وبحسب عبدالجبار، فهي ليست في وضع أفضل مقارنة بمثيلاتها من الصناعات التقليدية القديمة، التي باتت في وضع لا يُحسد عليه، بسبب طغيان المنتجات المستوردة المشابهة والمقلّدة ذات الأسعار الزهيدة. ولذلك، فهو يعتقد بأن المجتمع اليمني، وبسبب قلة الوعي بأهمية هذه المنتجات في الحفاظ على خصوصية وتراث البلد، يفرّط دون أن يشعر بهذه الكنوز الثمينة من الموروث الحضاري للبلد وتاريخه".