بناء البيوت من سعف النخيل ليس حكرًا على بلد دون آخر، خاصة تلك البلدان ذات الوفرة من أشجار النخيل، كاليمن، والعراق، والمغرب، ودول الخليج العربي.
في اليمن، تنتشر البيوت المبنيّة من سعف النخيل في مناطق ساحل تهامة، كالحديدة، والمخا، وغيرهما. الأجزاء المستخدمة من أشجار النخيل في بناء البيوت والأسوار في تلك المناطق، تشمل الجذع والجريد، والأوراق. غير أن انتشار بيوت السعف في اليمن، ليس من قبيل الترف أو فائض الرفاهية، بل فرضته كثير من المعطيات وظروف الحياة لأغلب سكان المناطق الساحلية، حيث تنتشر الكثير من أشجار النخيل، ويسود المناخ الحار والرطب.
تنتشر القرى المبنية من سعف النخل على مناطق واسعة على طول الساحل الغربي، وبالتحديد من جنوب محافظة الحديدة إلى السواحل الجنوبية والشرقية من البلاد، في مشاهد ساحرة، تعبّر ببساطة عن مدى العلاقة الوثيقة بين الإنسان اليمني وشجرة النخيل، التي تزوّده بالكثير من متطلبات حياته اليومية.
لا تتوقف استفادة الناس في هذه القرى على بناء وتشييد منازلهم من أشجار النخيل، بل دأبوا، منذ مئات السنين، على استخدام كل مكونات النخلة في إنتاج سلعٍ تقليدية متنوعة، لطالما كانت مصدرًا رئيسيًّا للدخل. فالكثير من المنتجات والأغراض النافعة لا تزال تُصنع من سعف النخل حتى الزمن الحاضر، وتشكّل عنصرًا هامًّا في حياة الكثيرين من السكان. هناك الأسرّة، القبّعات، القُفَف (السِّلال)، وهناك ما يسميها الصيادون بـ"الكرابيس"؛ وهي فُرُش مصنوعة من السعف، يستخدمونها كأغطية تقيهم برد الشتاء، وتحميهم من مياه الأمواج المتدفقة على أسطح القوارب أثناء هبوب الرياح. كما أن هناك أغراضًا منزلية متعددة مصنوعة من مكونات أشجار النخل، لا تخلو منها منازل تلك القرى.
جماليات ومخاطر
الأشكال الجمالية التي تميز البناء بسعف وجذوع النخل في اليمن، دفعت بالكثير من المستثمرين في المنتجعات والمتنزهات السياحية المطِلّة على البحر الأحمر، خاصة في المنطقة الممتدة بين مدينتي الخوخة والمخا، وعلى رقعة تمتد لنحو أربعين كيلومترًا، إلى إنشاء منازل واستراحات تحاكي منازل السعف، وهو ما جعلها موضع جذب للسياح والزائرين.
غير أن هذا الجمال لا يحول دون تعرّض هذه المنازل المتواضعة لمخاطر عديدة، أبرزها الأعاصير التي تضرب تلك المناطق بين فترة وأخرى، كالإعصار الذي ضرب قرية "رمان" في أغسطس/ آب 2016، وهي قرية مبنية بالكامل من سعف النخيل، وتقع في وادي النخيل بمحافظة الحديدة الساحلية. وتداولت تقارير إعلامية حينها، وفاة ثمانية أشخاص من سكان القرية، وتضرُّر عشرات البيوت.
وعن ذلك الإعصار، يحكي عبده العليلي، أحد سكان قرية "رمان"، مؤكّدًا أن الإعصار أسفر عن وفاة ثمانية أشخاص وإصابة 10 آخرين، فضلًا عن تدمير قرابة 50 من البيوت المبنية بشكل كامل من سعف النخيل.
ويضيف العليلي، وهو أيضًا حرفي بناء لمنازل "السعف"، في حديثه لـ"خيوط"، أن نحو 30 من هذه المنازل دُمِّرت بشكل كُلّي، و20 منها دُمِّرت بشكل جزئي، وأن الإعصار اقتلع المئات من أشجار النخيل في المنطقة الواقعة على بعد كيلو متر واحد من الساحل.
وأرجع مختصون الخسائر الكبيرة التي مُنيت بها القرية وسكانها جراء هذا الإعصار، إلى البناء الهش لمنازل السعف، بسبب شحة الإمكانيات.
بالرغم من الجدوى الاقتصادية الكبيرة من أشجار النخيل على امتداد سواحل وسهول اليمن، إلا أن الصناعات "السعفية" ظلت على حالها البدائي، ولم تحظَ بالدعم والتشجيع لمحترفيها
تاريخ عريق
منازل السعف في السواحل اليمنية تعود إلى أزمنة موغِلة في القدم، وارتبط ظهورها، كما يقول جمال معجم، وهو مختص في الحفاظ على التراث اليمني، بوجود الإنسان التهامي في المنطقة الساحلية.
ويضيف معجم، وهو من أهالي محافظة الحديدة، لـ"خيوط"، أن اليمنيين في السهل التهامي عرفوا منذ القدم، أشجار النخل وأشجار "الدوم"، التي تشبه أشجار النخل غير أنها تنتج ثمرة مختلفة يسميها السكان المحليون "البهش". وقد استفادوا من الشجرتين، ومن بيئتهم النباتية المتنوعة حتى اليوم، في بناء المنازل وتسويرها، ناهيك عن إنتاج العديد من السلع ذات الاستخدام العملي في حياتهم.
ويعمل معظم سكان هذه القرى المبنية من سعف النخيل، في صناعة أنواع مختلفة من السعف، خاصة حبال "الشبط"، التي تستخدم بكثرة في صناعة الأسرّة والأرائك الصغيرة التي يسميها المحليون "القعائد". ويكاد لا يخلو منزل تهامي من هذه الأسرّة والأرائك، بينما يعد إنتاج هذه الحبال أحد مصادر الدخل الرئيسية للكثير من سكان تهامة.
يقول محمد زياد، وهو تاجر حبال شهير في منطقة الوعرة بمدينة الخوخة، إن الحبال المصنوعة من أشجار "الدَّوْم" أكثر جودة وأغلى سعرًا من مثيلاتها المصنوعة من سعف النخيل. ويوضح زياد في حديثه لـ"خيوط"، أن حبال "الدَّوْم" تستخدم في صناعة السلال و"المهاجن" (جمع "مِهجان")، وهو عبارة عن سفرة سعفية دائرية الشكل، تستخدم لتقديم أطباق الطعام عليها في كل وجبة، كما تُستخدم في جمع السنابل خلال مواسم الحصاد في كثير من الأرياف اليمنية.
ومن السلع المصنَّعة من حبال أشجار "الدَّوْم" والنخيل، أنواع مختلفة من الحُصُر متعددة الاستخدام، وهي صناعات يدويّة تساعد كل عائلة في تنويع مصادر دخلها، خاصة النساء، اللائي يعمدن إلى تعليم أطفالهن، منذ وقت مبكر، على إجادة وإتقان هذه الصنعة.
البعد الاقتصادي
تُعدّ الصناعات السعفية من أقدم الصناعات الحرفية المستمدة من شجرة النخيل وعطاءاتها التي لا تنضب، واعتمد الإنسان اليمني عليها في مناطق زراعتها اعتمادًا كبيرًا، وله فيها استخدامات كثيرة؛ لذلك مثّلت هذه الأشجار بالنسبة له شريكًا أساسيًّا في الحياة، لا يمكن الاستغناء عنه.
وبالرغم من الجدوى الاقتصادية الكبيرة التي يجنيها الناس من أشجار النخيل على امتداد سواحل وسهول اليمن، إلا أن تلك الصناعات "السعفية" ظلت على حالها البدائي، ولم تحظَ بالدعم والتشجيع لمحترفيها، بالشكل الذي يجعلهم قادرين على تطوير منتجاتهم، لتتلاءم مع احتياجات السوق المحلية والعالمية.
ويفيد مختصون بوكالة تنمية المنشآت الصغيرة والأصغر التابعة للصندوق الاجتماعي للتنمية بصنعاء، في أحاديث متطابقة لـ"خيوط"، بأن تشجيع الصناعات السعفية، يظل مطلبًا اقتصاديًّا مُلِحًّا للنهوض بواقع هذه الصناعات التقليدية، وجَعْلِها رافدًا مهمًّا للاقتصاد الوطني. ولأجل تحقيق هذا الهدف، هناك ضرورة لإقامة برامج تدريبية مكثّفة للكوادر والحرفيين، بما يُسهم في تطوير منتجات سعف النخيل، مع المحافظة على الهُوية والطابع اليمني.