إلى الذين إذا جاءهم ما عرفوا لم يكفروا به
وإذا جاءهم ما جهلوا لم يعرضوا عنه. خالد محمد خالد
غير خاف على أحد أن السلطة السياسية لما آل أمرها إلى المتغلب، كان من الضروري لهذه السلطة أن تبحث عن شرعية تستقوي بها، وتستند إليها، فلم تعدم السلطة آنذاك أن تجد من طالبي الرياسة، ومحبي الجاه من بعض الفقهاء، من يشرّع لوجود هذه السلطة، ويجرّم كل من يحاول الخروج عليها. لقد قام فقهاء السلطة بحصر الحق في الحكم – السلطة السياسية-، للمتغلب، في الوقت الذي حصرت فيه السلطة الثقافية في الفقهاء وأهل الحديث، وهذا ما عناه الكواكبي بقوله: :«إن ﻛﻞ المدققين اﻟﺴﻴﺎﺳﻴين ﻳﺮون أن اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ واﻟﺪﻳﻦ ﻳﻤﺸﻴﺎن ﻣﺘﻜﺎﺗﻔين»([1]) .
وليس من الغريب بعد ذلك أن ترى كيف تظافرت واتحدت آراء المستبد وصاحبه على كراهية العلم والنفور منه؛ لأن للعلم سلطان يصغر معه سلطانهم؛ فالعلم عند بعض الفقهاء هو:
ما قال فيه الناس حدثنا... وما سواه فوسواس الشياطين
أما المستبد فبينه وبين العلم حرب دائمة وطرد مستمر. يقول الكواكبي: «ﺗﺮﺗﻌﺪ ﻓﺮائص المستبد ﻣﻦ ﻋﻠﻮم اﻟﺤﻴﺎة ﻣﺜﻞ: اﻟﺤﻜﻤﺔ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ، واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ، وﺣﻘﻮق اﻷﻣﻢ، وﻃﺒﺎﺋﻊ اﻻﺟﺘﻤﺎع، واﻟﺴﻴﺎﺳﺔ المدنية، واﻟﺘﺎرﻳﺦ المفصل، واﻟﺨﻄﺎﺑﺔ اﻷدﺑﻴﺔ، وﻧﺤﻮ ذﻟﻚ ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﺘﻲ تكبر اﻟﻨﻔﻮس، وﺗﻮﺳﻊ اﻟﻌﻘﻮل، وﺗﻌﺮف اﻹﻧﺴﺎن ﻣﺎ ﻫﻲ ﺣﻘﻮﻗﻪ؟ وﻛﻢ ﻫﻮ ﻣﻐﺒﻮن ﻓﻴﻬﺎ، وﻛﻴﻒ اﻟﻄﻠﺐ؟ وﻛﻴﻒ اﻟﻨﻮال؟ وﻛﻴﻒ اﻟﺤﻔﻆ؟ وأﺧﻮف ﻣﺎ ﻳﺨﺎف المستبد ﻣﻦ أﺻﺤﺎب ﻫﺬه اﻟﻌﻠﻮم المندفعين ﻣﻨﻬﻢ ﻟﺘﻌﻠﻴﻢ اﻟﻨﺎس ﺑﺎﻟﺨﻄﺎﺑﺔ أو اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ... واﻟﺨﻼﺻﺔ أن المستبد ﻳﺨﺎف ﻣﻦ ﻫﺆﻻء اﻟﻌﻠﻤﺎء اﻟﻌﺎﻣﻠين اﻟﺮاﺷﺪﻳﻦ المرﺷﺪﻳﻦ، ﻻ ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻤﺎء المنافقين أو اﻟﺬﻳﻦ ﺣﻔﺮ رءوﺳﻬﻢ ﻣﺤﻔﻮﻇﺎت ﻛﺜيرة ﻛﺄﻧﻬﺎ ﻣﻜﺘﺒﺎت ﻣﻘﻔﻠﺔ!» ([2]).
وإليك بعضاً من الفتاوى لفقهاء أجلاء تبين رؤيتهم الدونية لعلوم مثل الرياضيات والفلسفة والهندسة؛ يقول الغزالي -رحمه الله- : «لعلك تقول: إن العلوم وراء هذه كثيرة كعلم الطب، والنجوم، وهيئة العالم، وهيئة بدن الإنسان، وتشريح أعضائه، وعلم السحر والطلسمات، وغير ذلك. فاعلم أنا أشرنا إلى العلوم الدينية التي لابد من وجود أصلها في العالم؛ حتى يتيسر سلوك طريق الله تعالى والسفر إليه، أما هذه العلوم التي أشرت إليها فهي علوم، ولكن لا يتوقف على معرفتها صلاح المعاش والمعاد؛ ولذلك لم نذكرها»([3]).
ويقول: اعلم أن علومهم – أي الفلاسفة- بالنسبة إلى الغرض الذي تطلبه ستة أقسام: رياضية، ومنطقية، وطبيعية، وإلهية، وسياسية، وخلقية.
أما الرياضية: فتتعلق بعلم الحساب والهندسة، وعلم هيئة العالم، وليس يتعلق شيء منها بالأمور الدينية نفياً وإثباتاً، بل هي أمور برهانية لا سبيل إلى مجاحدتها بعد فهمها ومعرفتها. وقد تولدت منها آفتان:
الأولى: من ينظر فيها يتعجب من دقائقها ومن ظهور براهينها؛ فيحسن بسبب ذلك اعتقاده في الفلاسفة، ويحسب أن جميع علومهم في الوضوح، وفي وثاقة البرهان كهذا العلم. ثم يكون قد سمع من كفرهم، وتعطيلهم، وتهاونهم بالشرع ما تداولته الألسنة؛ فيكفر بالتقليد المحض، ويقول: لو كان الدين حقاً لما اختفى على هؤلاء مع تدقيقهم في هذا العلم! فإذا عرف بالتسامع كفرهم، وجحدهم استدل على أن الحق هو الجحد والإنكار للدين، وكم رأيت من يضل عن الحق بهذا العذر، ولا مستند له سواه.
وإذا قيل له: الحاذق في صناعة واحدة ليس يلزم أن يكون حاذقاً في كل صناعة، فلا يلزم أن يكون الحاذق في الفقه والكلام حاذقاً في الطب، ولا أن يكون الجاهل بالعقليات جاهلاً بالنحو، بل لكل صناعة أهل بلغوا فيها رتبة البراعة والسبق، وإن كان الحمق والجهل قد يلزمهم في غيرها. فكلام الأوائل في الرياضيات برهاني، وفي الإلهيات تخميني، لا يعرف ذلك إلا من جربه وخاض فيه. فهذا إذا قرر على هذا الذي ألحد بالتقليد، ولم يقع منه موقع القبول، بل تحمله غلبة الهوى، والشهوة الباطلة، وحب التكايس على أن يصر على تحسين الظن بهم في العلوم كلها. فهذه آفة عظيمة لأجلها يجب زجر كل من يخوض في تلك العلوم، فإنها وإن لم تتعلق بأمر الدين، ولكن لما كانت من مبادئ علومهم سرى إليه شرهم وشؤمهم، فقلَّ من يخوض فيها إلا وينخلع من الدين وينحل عن رأسه لجام التقوى»([4]).
ويقول العلامة ابن أبي الحديد شارحاً قول على بن أبي طالب في نصيحته للحسن رضي الله عنهما :(لا ينتفع بعلم لا يحق تعلمه): «أي لا يجب ولا يندب إليه؛ وذلك لأن النفع إنما هو نفع الآخرة، فما لم يكن من العلوم مرغباً فيه إما بإيجاب أو ندب، فلا انتفاع به في الآخرة، وذلك كعلم الهندسة والأرتماطيقي([5]) ونحوهما»([6]).
ويقول أَيضاً شارحاً قوله رضي الله عنه: (كفاك مِن عقلك مَا أوضح لك سبل غيك من رشدك): «يقول - عليه السلام- كفى الإنسان من عقله ما يفرق به بين الغي والرشاد، وبين الحق من العقائد والباطل، فإنه بذلك يتم تكليفه، ولا حاجة في التكليف والفرق بين الغي والرشد إلى زيادة على ذلك، نحو التجارب التي تفيده الحزم التام، ومعرفة أحوال الدنيا وأهلها، وأيضاً لا حاجة له إلى أن يكون عنده من الفطنة الثاقبة، والذكاء التام ما يستنبط به دقائق الكلام في الحكمة والهندسة والعلوم الغامضة؛ فإن ذلك كله فضل مستغنى عنه، فإن حصل للإنسان فقد كمل، وإن لم يحصل للإنسان فقد كفاه في تكليفه ونجاته من معاطب العصيان ما يفرق به بين الغي والرشاد، وهو حصول العلوم البديهية في القلب، وما جرى مجراها من علوم العادات وما يذكره أصحابنا في باب التكليف»([7]).
ويقول ابن تيمية: «فى الصحيح عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- عن النبى- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب، الشهر هكذا، وهكذا). فلم يقل: إنا لا نقرأ كتاباً ولا نحفظ بل قال: لا نكتب ولا نحسب؛ فديننا لا يحتاج أن يكتب ويحسب كما عليه أهل الكتاب!!»([8]).
ويقول أيضاً: «قوله:(إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب). هو خبر تضمن نهياً؛ فإنه أخبر أن الأمة التي اتبعته هي الأمة الوسط، أمية لا تكتب ولا تحسب، فمن كتب أو حسب لم يكن من هذه الأمة في هذا الحكم، بل يكون قد اتبع غير سبيل المؤمنين الذين هم هذه الأمة!؛ فيكون قد فعل ما ليس من دينها!، والخروج عنها محرم منهي عنه، فيكون الكتاب والحساب المذكوران محرمين منهياً عنهما!، وهذا كقوله: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده. أي هذه صفة المسلم، فمن خرج عنها خرج عن الإسلام، ومن خرج عن بعضها خرج عن الإسلام في ذلك البعض. وكذلك قوله: المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم»([9]).
ويقول: «وأما الأمور المميزة التي هي وسائل وأسباب إلى الفضائل مع إمكان الاستغناء عنها بغيرها، فهذه مثل الكتاب الذى هو الخط والحساب، فهذا إذا فقدها مع أن فضيلته في نفسه، لا تتم بدونها، وفقدها نقص إذا حصلها واستعان بها على كماله وفضله، كالذى يتعلم الخط فيقرأ به القرآن، وكتب العلم النافعة، أو يكتب للناس ما ينتفعون به، كان هذا فضلاً في حقه وكمالاً، وإن استعان به على تحصيل ما يضره أو يضر الناس كالذي يقرأ بها كتب الضلالة، ويكتب بها ما يضر الناس، كالذي يزور خطوط الأمراء والقضاة والشهود كان هذا ضرراً في حقه وسيئة ومنقصة؛ ولهذا نهى عمر أن تعلم النساء الخط. وإن أمكن أن يستغنى عنها بالكلية بحيث ينال كمال العلوم من غيرها، وينال كمال التعليم بدونها كان هذا أفضل له وأكمل، وهذه حال نبينا صلى الله عليه وسلم »([10]).
ويصرح ابن تيمية بأن كلام الفلاسفة في الطبيعيات والرياضيات لا يفيد كمال النفس وصلاحها، وإنما يحصل ذلك بالعلم الإلهي.
وعند ذكر العلامة الحنفي المحدث مغلطاي للعلامة الخليل بن أحمد الفراهيدي قال عنه: «ذكره التاريخي محمد بن عبدالملك في كتابه (أخبار النحويين)، وأثنى عليه، إلا أنه كان زيدياً، من زيديته استنباطه العروض؛ ليعارض به الكتاب والسنة!!» ([11]).
وباستعراض ما سبق يتسنى لنا القول بأن الفكر الإسلامي إبان نشوئه وتطوره وازدهاره، وتبلور كثير من العلوم تحت لوائه، عانى من الكثير من الفقهاء الجامدين المتعصبين ممن يضيقون ذرعاً بكل ما لم تألفه نفوسهم، أو تعجز عن فهمه عقولهم من إبداعات أصحاب الفكر، واختراعات أهل النظر.
وإذا كان مستنبط علم العروض- وهو فن يستعان به في وزن الشعر- يُنظر إلى عمله الإبداعي كجريمة، يمليها عليه، ويسولها له مذهبه، ويرمي من خلالها إلى معارضة القرآن والسنة؛ فيتم على ضوئها تضليله وإخراجه عن دائرة الدين، فكيف الشأن بسائر العلوم التي تم ترجمتها أو إبداعها كالهندسة والرياضيات والفلسفة والفيزياء وغيرها من العلوم التي انتفعت بها البشرية في مسيرتها الحضارية، وبخسها حقها. هؤلاء الذين شقي بهم الدين، وعانى منهم علماء المسلمين وفلاسفتهم أمثال الكندي وابن سينا والفارابي والغزالي وابن رشد وابن الهيثم، المنعوتين على لسان هؤلاء بالضلال والابتداع والمروق عن الدين؟.
وما أشبه ما ذكره التاريخي عن الفراهيدي بما ذكره ابن الجوزي في كتابه (الحمقى والمغفلين): أن رجلاً أعرابياً جاء إلى المدينة، فجالس أهل الفقه، ثم تركهم، ثم جالس أهل النحو، فسمعهم يقولون: نكرة ومعرفة، فأخذ يصرخ ويقول: يا أعداء الله يا زنادقة! ([12]) .
لقد كان التعصب ضد العلوم الأخرى هو العقبة الحقيقية، والمشكلة الجوهرية التي ضربت الفكر الإسلامي في الصميم، وأعاقت حركته، وشلت قدرته على التفكير والإبداع والإصلاح. وما هذا الانحطاط العام والجمود الشامل الذي يعيشه المسلمون اليوم، إلا حصاداً نكداً لأفكار هؤلاء القوم. وبمثل هذه التهمة التي واجهها الفراهيدي، نجد عصريه الأديب البليغ ابن المقفع يرمى بها؛ فقد وقف بعض الأغبياء على كتابيه "اليتيمة" و"الدرة"، فلما لم يفهموا أغراضها، أو عجزوا أن يأتوا بمثلها، فادعوا أنه يعارض القرآن الكريم.
في عام 1579، تلقت إسطنبول مرصداً فلكياً، ليتم هدمه في عام1580؛ لأن العلماء قضوا بهدمه. ولقد اضطر إبراهيم متفرقة، وهو صاحب أول مطبعة في أسطنبول والعالم الإسلامي عام1728، لإغلاق مطبعته؛ بسبب فتوى الملالي بمنع المطبعة
قال القاضي أبو بكر الباقلاني- رحمه الله-: «ادعى قوم أن ابن المقفع عارض القرآن، وإنما فزعوا إلى الدرة واليتيمة. وهما كتابان يتضمن أحدهما حكماً منقولة توجد عند كل حكماء كل أمة مذكورة بالفضل، فليست فيها شيء بديع من لفظ ولا معنى، والآخر في شيء من الديانات»([13]).
ويذكر خير الدين الزركلي في كتابه "الأعلام": أن العلامة الفيلسوف الفلكي عباس بن فرناس، وهو أول من يعزى إليه محاولة الطيران، كان متهماً في عقيدته([14]). ونحن لا نستبعد أن تكون محاولته للطيران، واشتغاله بالعلوم، سبباً في اتهامه بسوء المعتقد؛ لأنه -في نظر هؤلاء- حاول أن يخرق الإرادة الإلهية، ويتكلف شيئاً لم يخلقه الله عليه.
ومن مآسي هؤلاء المتعصبين – وما أكثر المآسي التي خلفوها!- ما ذكره الأستاذ أحمد بن عبدالوهاب الوريث -رحمه الله-: أن أحد تجار بخارى زار روسيا ورأى ما عندهم من جيوش منظمة ومدافع ضخمة، فلما عاد إلى بلده، نصح أمير بخارى بالاستعداد بمثل هذه المعدات دفعاً للطوارئ، فاستصوب رأيه وشرع في تنفيذه؛ فثار عليه العلماء قائلين: هذه المعدات بدعة لا نعرفها، وإدخالها إلى البلاد تشبه بالنصارى، ومن تشبه بقوم كان منهم. وألجأوا الأمير إلى ترك ما كان شرع فيه، فلم تمض آونة حتى زحفت روسيا على بخارى وأخذتها غنيمة باردة([15]).
وبسبب هؤلاء تم إسقاط الملك الأفغاني أمان الله عن عرشه عام 1929، كونه فتح بلاده أمام الإنجازات العلمية الحديثة بعد رحلة قام بها إلى الهند وأوروبا والاتحاد السوفيتي وتركيا، فهاله ما عليه القوم من التمدن والحضارة؛ فثارت عليه القبائل الأفغانية بضغط من بعض الفقهاء.
ولقد عانى ابن سعود كثيراً من جماعة «الإخوان» الذين كانوا يتهمونه بخرق المثُل الوهابية، بالسماح بإدخال التكنولوجيا الحديثة إلى المملكة السعودية([16]).
وفي عام 1579، تلقت إسطنبول مرصداً فلكياً، ليتم هدمه في عام1580؛ لأن العلماء قضوا بهدمه. ولقد اضطر إبراهيم متفرقة، وهو صاحب أول مطبعة في أسطنبول والعالم الإسلامي عام1728، لإغلاق مطبعته؛ بسبب فتوى الملالي بمنع المطبعة([17]).
وفي رسالة العلامة محمد بن إسماعيل الأمير إلى العلامة أحمد قاطن- رحمهما الله- يحدثه عن يوسف العجمي القادم من بلاد فارس، فقال أثناء حديثه عنه: «وادعى أن له في علم الهيئة معرفة، وهو علم لا نعرفه، ولا نصدقه ولا نكذبه، وهو من العلم الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: علم لا ينفع وجهل لا يضر»([18]).
وذكر علامة زبيد ومفتيها عبدالرحمن بن سليمان الأهدل، في ترجمة شيخه العلامة الكبير عبدالله بن عمر الخليل الزبيدي، أنه: «كان متبحراً في العلوم النقلية، سيما الأدبية، وفي العقلية كالحساب، والخطائين([19])، والمساحة، والجبر، والمقابلة، والهندسة، والهيئة، والحكمة، وغير ذلك من العلوم الغامضة. قال لي -رحمه الله-: يا ولدي اشتغلت بهذه العلوم الغريبة مدة مديدة، وأتقنتها، ثم أفقت، فلم أجد عنها سائلاً، ولا لها حاملاً؛ فقرعت سن الندم»([20]).
ولما بادر السلطان العثماني سليم الثالث بمحاولات إصلاحية في التعليم، واهتم بتطوير مدارس جديدة تدرس الهندسة والرياضيات، أيد بعض العلماء المستنيرين مثل تاتار جيق زاردة هذه المحاولات الإصلاحية، في الوقت الذي وقفت فيه المؤسسة الدينية التقليدية بمعظم أجهزتها ورجالها، ضد هذه التدابير واعتبرتها "نوعاً من البدعة والكفر"
وشهد العلامة المفسر المصلح جمال الدين القاسمي، بحوثاً طويلة في الجامع الأموي كانت تقام حول: هل الجغرافيا حلال أم حرام؟ وهل تعلم اللغات الأجنبية، والعلوم العصرية (الكيمياء والفيزياء) حلال أم حرام؟ وشهد إنشاء مدارس خاصة لمن يصفهم بالحشويين والجامدين من رجال الدين حذفت من برامجها هذه العلوم([21]).
كان حال المسلمون في الهند أفضل من بقية فئات المجتمع، وبعد أن احتل الإنجليز البلاد، انفتحت تلك الفئات في العلوم العصرية، بينما رفض المسلمون ذلك وقاموا بتكفير من يفعل ذلك، ولم يفيقوا إلا بعد أن رأوا كيف تحسنت أحوال غيرهم من مواطنيهم.
وفي سنة 1927، اجتمع علماء الوهابية، وحرموا الرسم واللغات الأجنبية والجغرافيا التي تقول بدوران الأرض وكرويتها، مع أن الأرض مسطحة وساكنة، واللغة ذريعة للوقوف على عقائد الكفار، والرسم تصوير، وهو محرم، أنكره علماء السلف، وتصدى لهم عالم قدير وطلبهم إلى النقاش فرفضوا قائلين: لقد نهى الشرع عن الجدال([22]).
ويقول الأستاذ خالد محمد خالد: دخلت يوماً على الذين أدرس لهم، وكانوا حديثي عهد بدرس جغرافيا، فسألتهم عرضاً: ماذا كان موضوع درسكم اليوم؟ فأجابوا : كروية الأرض ودورانها. وانتفض من بينهم تلميذ، وقال بالحرف الواحد: ده كلام فارغ يابيه! نصدقهم وإلا نصدق ربنا؟
وسألته: من أين لك أن الله يرفض هذا؟
فأجاب بأن القرآن، وكلام النبي لم يقولاه..
- وهل قرأت القرآن، وأحاديث النبي وفهمتهما؟
- لا، ولكني أصلي الجمعة، وأسمع من الخطيب ذلك.
ثم قص علي أنه من قريب ذهب ليصلي الجمعة، ووقف الخطيب يقول: لعلكم تقرؤون في الصحف «الكافرة» أن العلماء سيتصلون بالقمر، وأن المريخ كوكب عامر بالناس.. هذا كفر. والقمر ليس إلا مصباح منير، والشمس كذلك، والأرضون سبع ثابتة لا تدور، والسموات سبع: الأولى من نحاس، والثانية من رصاص، والثالثة.. والرابعة..، وانطلق الكاهن يهدم في عشر دقائق كل ما تبني المدرسة في سنوات، وقلت للتلميذ : يا بني ذلك رجل جاهل أمي، لا يعرف عن الدين ولا عن الدنيا شيئاً.. فخذ العلم من هنا- من المدرسة التي تتعلم فيها. قلت هذا، وأنا متردد، فكم من أخطاء تقدمها المدرسة لبنيها، ولكني اخترت أخف الضررين وأيسرهما([23]).
وينقل خالد محمد خالد عن كتاب « جزيرة العرب تتهم حكامها»، نشر بالقاهرة عام 1947، يتحدث فيه صاحبه عن حكومة في الجزيرة العربية تحكم باسم الدين، فيتحدث عن القسوة والإرهاب التي تفرضها هذه الحكومة على البشرية المعذبة هناك، ويتحدث فيه عن المستوى الفكري لتلك الحكومات وشعوبها، وعن السياسة المرسومة هناك لحرمان الناس من كل علم وثقافة، فيقول في الصفحة (32): «وذات يوم كنت جالساً عند رئيس شعبة سياسية – في إحدى هذه الحكومات– فطلب الرئيس مدير المدرسة، فلما حضر دار هذا الحوار:
- مدير المدرسة : ماذا تأمرون يا مولاي الرئيس؟
- رئيس الشعبة السياسية: أين جدول الدروس؟
- ثم يتناوله ويطالعه بإمعان، ويقول: ما هذا؟
- جغرافيا يا مولاي.
- جغرافيا! أما تعلمون أنها حرام؟
- نحن يا مولاي الرئيس لا نعلم الجغرافيا المحرمة، بل نعلم فقط القسم الحلال منها، وهو الذي يعين على معرفة القبلة وأوقات الصلاة!
- لماذا لا تعلّمون علم التوحيد عوضاً عن هذا؟
- نحن نعلم القرآن، وفيه توحيد وأخلاق وتربية.
- لكن كتاب كشف الشبهات (كتاب لمحمد بن عبدالوهاب) كتاب جميل في علم التوحيد .
- ثم التفت إلى مدير المدرسة غاضباً، وتناول القلم الأحمر، وشطب كلمة جغرافيا من الجدول، ووضع مكانها توحيد.. كتاب كشف الشبهات!» ([24]).
ويتحدث محمد رشيد رضا عن مسلمي الهند، فقد كانت حالهم أفضل من إخوانهم، حتى دخل الإنجليز الهند، وطفق بقية الهنود من غير المسلمين يأخذون بأسباب العلم، والمسلمون في منأى عن التعليم الحديث، ينظرون له بعين الريبة، يعادون اللغة الإنجليزية، ويكفّرون متعلم العلوم الأوروبية. ولما قام فيهم السيد أحمد خان وأسس مدرسته الشهيرة "دار العلوم الشرقية الكبرى" في مدينة (عليكره)، ودعا إلى التربية الصحيحة، والتعليم العصري؛ لم يستجب له إلا القليل، أما الكثير فقد كافؤوه بالتفسيق والتكفير، ولولا حماية الحكومة الإنكليزية له ومساعدتها إياه، لأخرجوه أو قتلوه. لقد ظل الأمر على ما هو عليه، حتى أفاق المسلمون على اتساع ثروة إخوانهم، ونفوذ كلمتهم، وحيازتهم للوظائف المهمة، فكان ذلك درسا قاسياً لهم لو وعوه([25]).
------------------------
([1]) طبائع الاستبداد،ص24.
([2]) نفس المصدر،ص36.
([3]) جواهر القرآن، ص25،عن بنية العقل العربي، للجابري، ص 289.
([4]) المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال، للغزالي، تحقيق جميل صليبا وكامل عياد، دار الأندلس، ص100-102.
([5]) علم الأرتماطيقي: هو: معرفة خواص العدد وما يطابقها من معاني الموجودات التي ذكرها فيثاغورس ونيقوماخس، وتحته : علم الوفق، وعلم الحساب الهندي، وعلم الحساب القبطي والزنجي، وعلم عقد الأصابع. انظر كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، لحاجي خليفة: 2/1289.
([6]) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد، دار إحياء التراث العربي:4/23.
([7]) المصدر السابق: 4/470.
([8]) مجموع الفتاوى:17/436.
([9]) مجموع الفتاوى 25/92 عن نقد الخطاب السلفي لرائد السنهوري،ص144-145.
([10]) مجموع الفتاوى : 25/95 عن نقد الخطاب السلفي،ص150.
([11]) إكمال تهذيب الكمال في أسماء الرجال: 4/220.
([12]) ص115.
([13]) إعجاز القرآن، للقاضي أبي بكر الباقلاني- طبع بهامش الاتقان في علوم القرآن، للسيوطي، ص49-50.
([14]) 3/264.
([15]) مجلة الحكمة اليمانية وحركة الإصلاح في اليمن، ص183.
([16]) قصة انشقاق عبد الله القصيمي، يورغن فارلا، ص50-75.
([17]) مسلمون وأحرار، إرشاد فتحي، ص207.
([18]) هجر العلم ومعاقله في اليمن، إسماعيل بن علي الأكوع:4/1846. كيف رتب ابن الأمير النتيجة، وهو أنه «علم لا ينفع، وجهل لا يضر» على المقدمة، وهو « عدم معرفته بهذا العلم». كان الأولى به، وهو لا يعرف هذا الفن أن يتوقف عن الحكم عنه، أو فليسأل العلامة عبد الله بن عمر خليل الزبيدي- وهو معاصر له- حتى يخبره عن هذا العلم. هذه العلوم التي قال عنها ابن الأمير: إن علمها لا ينفع، وجهلها لا يضر كان لإهمالها من قبل المسلمين أعظم الضرر في حياتهم، وكبير الأثر في رسم الصورة البائسة لمستقبلهم.
([19]) علم الخطائين: من فروع علم الحساب. انظر كشف الظنون، لحاجي خليفة:2/706.
([20]) النفس اليماني في إجازة القضاة بني الشوكاني، تحقيق عبد الله الحبشي،ص40.
([21]) الفقيه والسلطان، لوجيه كوثراني، ص83، و ص 86 .
([22]) لمجرد الترفيه والتسلية، نشر في مقالات لمحمد جواد مغنية، ص61.
([23]) من هنا نبدأ، خالد محمد خالد، ص90- 91.
([24]) المصدر السابق، ص198-199.
([25]) المنار، لمحمد رشيد رضا، مجلد4، جزء18،ص681.