بيروت المساحة الصغيرة لها امتداد في العالم. لم تكن بيروت عاصمة لبنان فحسب، بل عاصمة العرب - كل العرب؛ العاصمة بكل الدلالات والمعاني اللغوية والأدبية.
لبنان الوطن الصغير في الجغرافيا، كبير في الحضور والتأثير والمعرفة والأدب عبر تاريخ يمتد إلى ما قبل المسيحية بقرون.
في القديم، وقبل ميلاد المسيح بقرون، نشر لبنان عبادة أدونيس في الغرب الأوروبي، ونشر الطقوس العبادية في غير بلد. نشر الديانة المسيحية في أوروبا، ووصل بعض اللبنانيين إلى كرسي البابوية في روما.
الأساطير الإغريقية - حسب هوميروس- حسبها ونسبها لبنان. فأوروبا ابنة صور-المدينة اللبنانية اختطفها زيوس- ملك الآلهة الأولمبية، وأخوها قدموس مؤسس مدينة طيبة اليونانية.
لبنان ناقل الحروف الأبجدية إلى الإغريق كشهادة هوميروس في ملاحمه الشهيرة. حضور لبنان المعرفي والقانوني والديني في العالم القديم حضور كبير وحيّ وفاعل؛ فالفيلسوف ديودورس- رأس الفلاسفة المشائين ابن صور، وزينون الصيداوي على رأس المدرسة الأبيقورية.
يذكر استرابون أن المدن الفينيقية اللبنانية في العصر الروماني كانت تعد أعظم موطن للمعرفة، ويشير إلى فيلون الجبيلي الذي ألف كتابًا عن الميثولوجيا والديانة الفينيقية. ومن العلماء في القرن الميلادي مارينوس الصوري- مؤسس الجغرافيا الرياضية الذي اعتمد عليه بطليموس في كتابه الشهير «المجسطي».
للبنان حضور كبير في التاريخ والحضارة؛ فقد كانت مركزًا مهمًّا للتشريعات الرومانية، وأسهمت في الحوار حول طبيعة السيد المسيح هل هو ذو طبيعة واحدة أو متعددة؟
لبنان جزء من سوريا، وقد أسهم البلد الصغير بدور فاعل ومائز في النشاط التجاري مع مصر وبيزنطة. وبيروت ملتقى القارات الثلاث: آسيا، وأفريقيا، وأوروبا. وحضور لبنان وأبنائه حيّ ومتواصل؛ فهجرات أبنائه إلى أوروبا وأمريكا كان لها أثر بالغ في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإبداعية؛ فهو ملتقى حضارات وثقافات متنوعة ومتعددة، ومصالح قارية.
أصبح اللبنانيون قادة في أحزاب هذه البلدان، ووصل بعضهم إلى الرئاسة في غير بلد، وشاركوا بفاعلية في الحياة العامة في أوروبا وأمريكا اللاتينية والشمالية.
أدب المهجر والشعراء المهجريون أثروا أيّما تأثير في الشعر العربي الحديث، وأسس رواده مدرسة لها سماتها وخصائصها الأكثر حداثة وتطوّرًا، كميخائيل نعيمة، وجبران خليل جبران، وإيليا أبو ماضي، وأمين الريحاني وغيرهم، ولعبت مجلة «شعر»، دورًا رياديًّا في التأسيس لقصيدة الشعر الحديث.
لعب اللبنانيون الدور الكبير في إحياء وتجديد اللغة العربية من خلال معاجم اللغة العربية، وكان لهم الباع الأطول في التأسيس للسرد العربي الحديث روايةً وقصة. كما أن حضورهم في الصحافة المصرية لافت، كدار الهلال لجورجي زيدان، و«روز اليوسف»، ومجلة «المجلة» لفرح أنطون، ولهم دور في نشر الفنون والآداب بصورة عامة، وهناك العشرات وربما المئات من الصحف والمجلات أصدرها اللبنانيون في الولايات المتحدة الأمريكية وأمريكا اللاتينية وكندا والمكسيك، فما من بلد لاتيني فيه مهاجرون لبنانيون إلا وشهد ميلاد صحف عربية، وأحيانًا بلغة البلد نفسه؛ وهو ما مكن اللبنانيين من الانخراط في الحياة، والانخراط في التيارات السياسية، وبالأخص اليسار، ووصوله في العديد من هذه البلدان إلى زعامة أحزاب ورؤساء دول.
كانت لبنان في ستينات القرن الماضي ملجأً وملاذًا لاستقبال واحتضان اللاجئين الفارّين من دكتاتورية أنظمتهم العربية رجعية وتقدمية. كان المتحاربون في اليمن أو العراق أو سوريا يلتقون في بيروت يتصافحون ويتحاورون. استقبلت لبنان المفكرين السعوديين الخبيرين في النفط: عبد الله الطريقي الذي رفع شعار تأميم النقط قائلًا: نفط العرب للعرب، وزميله السارد الكبير عبدالرحمن منيف، كما استقبلت الأديب عالم الدين المتمرد عبدالله القصيمي بعد الإفتاء بكفره في بلده وبقطع رأسه وإحراق كتبه، وكتب هناك أروع يومياته في «النهار» اللبنانية.
اللبنانيون شعب مبدع وعبقري. أسس الفارّون من أبنائه من النير العثماني إلى مصر الصحف والمجلات الأدبية والمؤسسات الثقافية والمنتديات، وكان لهم الريادة في إنشاء المسرح والسينما والدعوة للعلمانية. فـ«الأهرام»، و«الأخبار»، و«الهلال»، و«المقتطف»، و«روز اليوسف»، وعشرات الصحف والمجلات الأخرى - أسسها الهاربون من قمع دار الخلافة العثمانية، وبرزت نجوم لبنانية في مختلف مناحي الفكر والفن؛ لم يكن آخرهم يوسف شاهين، وبديعة مصابني، وميْ زيادة.
في مطلع السبعينات كانت لبنان واحة للمعارضين السياسيين العرب ودعاة الحرية والديمقراطية، وقد استضافت بيروت الفلسطيني المقاوم للاحتلال الإسرائيلي، كما استضافت البحراني والمصري والسوداني والجزائري والتونسي والسعودي والصومالي واليمني، وكانت -رغم الحرب الأهلية والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة- حضنًا دافئًا للجميع.
انسحبنا من بيروت قبيل الاجتياح الإسرائيلي للبنان ببضعة أيام، وكنت وقادري أحمد حيدر على تواصل مع المنظمات الفلسطينية كلها، ومع اتحاد الأدباء والكتاب الفلسطيني والصحافة اللبنانية، وبالأخص «السفير»، و«النداء»، و«النهار»، وكانت القناعة عند الجميع أو الغالبية، عدم توقع الاجتياح.
اجتاح الجيش الإسرائيلي بصورة راعبة دراماتيكية جنوب لبنان، وهرب القادة الفلسطينيون: أبو الهول، وأبو هاجم، وأبو الزعيم، وتركوا الفدائيين الفلسطينيين، وشباب الحركة الوطنية اللبنانية، وعشرات المتطوعين اليمنيين.
صمد الشباب لأسابيع في الجنوب، وبالأخص في قلعة الشقيف، وسجلوا ملاحم بطولية، وجاءت قوات المارينز والانتشار السريع إلى قلب بيروت، ولم تمضِ إلا بضعة أشهر حتى استطاع أبطال لبنان من أفراد الحركة الوطنية اللبنانية طرد إسرائيل من الجنوب؛ ليموت آخر الأنبياء -الكذبة الإسرائيلية- مناحيم بيجن مصابًا بالاكتئاب؛ بفضل استبسال الفدائي اللبناني والفدائيات اللبنانيات، وبضربة لازب تمكن العمل الفدائي في قلب بيروت من إرغام المارينز على الفرار ظهرًا بعملية فدائية واحدة.
استطاع اللبنانيون بمفردهم مواجهة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، لكن الأوضاع بدأت في التأزم والتوتر بتحول السلاح إلى الداخل اللبناني، ولعب النظامان السوري والإيراني، دورًا مقيتًا في تقوية وحماية الصيغة الطائفية في لبنان، وقمع الحريات العامة والديمقرطية وحرية الرأي والتعبير، وانتهاك حقوق الإنسان، وفرض اللون الواحد غير المقبول في لبنان، والإقدام على الاغتيالات.
لا خلاص للبنان إلا برحيل الحكم الطائفي، والأحزاب، والزعامات الطائفية. أما الانتفاضة الشعبية، فهي الخلاص ليس من الطائفية وحدها، وإنما من إسرائيل أيضًا، ومن التسيد السوري والإيراني والنفوذ السعودي والأمريكي
منذ العام 1980، بدأ النظام السوري في اغتيال رموز الصحافة الديمقراطية: النقيب اللبناني سليم اللوزي رئيس تحرير مجلة «الحوادث»، وإحراق يده بالأسيت، وبعده وفي نفس العام اغتيل النقيب الجديد للصحفيين رياض طه، وتواصل مسلسل اغتيال الصحفيين: سمير قصير الصحفي الديمقراطي بطل انتفاضة الاستقلال، وسهيل طويلة -رئيس تحرير صحيفة «النداء»، والمفكر التقدمي مهدي عامل، والعلامة الجليل حسين مروة، وجبران غسان تويني - رئيس تحرير صحيفة «النهار»، وعضو مجلس النواب.
الصحافة اللبنانية كانت الهدف الأثير للوجود السوري القامع وأتباعه في لبنان، ويبدو أن قتل الصحفيين اللبنانيين هدف عام ومشترك منذ نشأة الصحافة في القرن الثامن عشر؛ فالصحفيون اللبنانيون في العهد العثماني كانوا يهربون إلى مصر وإلى أوروبا وأمريكا، ولكنهم الآن يغتالون وتقمع حريتهم ولا يجدون الملاذ ولا المأوى.
في العام 1941، أعلن استقلال لبنان عن فرنسا، وقام الحكم على أساس دستور 1926. جرى العرف الدستوري على التقاسم الطائفي، فللموارنة رئاسة الجمهورية، وللسنة رئاسة الوزراء، وللشيعة النواب.
طوال العقود الماضية وحتى اليوم ظل التقاسم الطائفي هو هو. تضعف الطائفة أو تقوى ويتغير ممثلوها، ولكن الطبيعة الطائفية والتقاسم يبقى هو هو.
النظام الطائفي في الداخل يتقاطع مع الجوار الخطر: إسرائيل، وسوريا، والسعودية، وللنفوذ المحيط تحالفاته الدولية، كما للطوائف اللبنانية.
حتى العام 1980، ظل التوازن في الغالب سياسيًّا مع استثناءات محددة مع صعود حزب الله ككيان مسلح موجه ضد الاحتلال الإسرائيلي، وبدعم إيران وسوريا.
أصبح حزب الله القوة الأساس، وإن بقيت الصيغة الطائفية. لم يكن الفساد محصورًا بالعقود الثلاثة الأخيرة، وإنما هو طبيعة النظام الطائفي، ولكنه استشرى في العقود الأخيرة.
تركز نضال الأحزاب القومية والشيوعية حول إلغاء الطائفية، وأصبح مطلبًا شعبيًّا للناشطين ومؤسسات المجتمع المدني والتيار الديمقراطي.
مفكرون لبنانيون مهمون درسوا عميقًا التركيبة والنظام الطائفي، أمثال مهدي عامل ومسعود ظاهر وكريم مروة. ظل النظام عصيًّا على التغيير لا بسبب قوته الداخلية، وإنما أيضًا بسبب التدخلات الخارجية.
النظام الطائفي الفاسد أفقر الشعب اللبناني، وأوصله إلى المجاعة وانعدام المواد الغذائية وانقطاع الكهرباء وانهيار العملة؛ إيذانا بالانهيار الشامل.
حزب الله المدجج بالطائفية والسلاح والمؤزر بالدعم الإيراني السوري حقق انتصارًا ضد إسرائيل، كحركة تحرر وطني، ولكنه تحول إلى جزء من اللعبة الطائفية، بل وأصبح حاميًا لها.
ما اكتسبه حزب الله في المواجهة مع إسرائيل خسره في الشارع اللبناني؛ فهو رأس الحربة الطائفية ضد الانتفاضة الشعبية حاليًّا.
انتفاضة الشعب اللبناني في 17 أكتوبر 2019، أسقطت ورقة التوت عن سوءة الطائفية اللبنانية التي تتعادى حدّ القتال، وتنغمس في مؤامرات القصور، ولكنها تتوافق حد التوحد لحماية الطائفية وفسادها واستبدادها.
المعالجات التي تلجأ إليها الأحزاب والزعامات الطائفية لا تجيب على سؤال: "كلهن يعني كلهن".
كارثة انفجار المرفأ أكدت عجز الطائفية عن الاستمرار في الحكم وأزمتها الشاملة التي تعني أن في بقائها تهديدًا للكيان اللبناني وللحياة نفسها.
الفضيحة والعار أن يزور زعيم الدولة المستعمرة المرفأ، ويعجز الرئيس، ورئيس الوزارء، والوزراء من الظهور على الناس.
لا خلاص للبنان إلا برحيل الحكم الطائفي، والأحزاب، والزعامات الطائفية. أما الانتفاضة الشعبية، فهي الخلاص ليس من الطائفية وحدها، وإنما من إسرائيل أيضًا، ومن التسيد السوري والإيراني والنفوذ السعودي والأمريكي.