في حياة الأمم والشعوب تجارب لا تقاس قيمتها بعمرها الزمني، بل بما أحدثته من تغيير في حياة المجتمع، وتغيير في ثقافته.
من تلك التجارب تجربة حركة 13 يونيو/ حزيران 1974، التي تعايش معها المجتمع كحلم، ذلك لأنها لم تكن أنضج التجارب الإنسانية التي عرفها اليمنيون في تاريخهم الحديث والمعاصر فقط، ولا لعظم ما أنجزته في عمرها القصير (الموؤود)، ولا بقياسها على ما عايشه المجتمع من خيبات سابقة ولاحقة، ولا لما نالها من استهداف غير إنساني ووأد، ولكن لأنها أيضاً بقيت رغم تقادم العقود، حلماً ما زال يعتمل بين ظهرانينا حتى اليوم. خاصة أنها جاءت وسط ظروف قاهرة بالغة التعقيد، لم يكن أفضل المتفائلين يراهن على تحقق ما حققته الحركة في ضوء التحديات التي ولدت في خضمها، كونها جاءت لتأسيس ملامح مجتمع المستقبل.
وبمقدار ما كانت تلك الملامح تمثل أملاً وحلماً وردياً تاق إليه المجتمع وتماهى مع فعالياته، مثلت كابوساً يؤرق قوى الظلام والتخلف، وراحت تحثّ الخطى لوأده، وإهالة تراب النسيان عليه، خاصة وقد رأت قائد المسيرة الشهيد إبراهيم الحمدي (كونها هيأت له فرصة الحكم.. يقلب لها ظهر المجن)، وراح يستحث الهمم ليوقظ المارد المجتمعي، سعياً لتحويل الحلم إلى حقيقة واقعة، فأيقنت أنها تخسر امتيازات بسطت عليها، ومكانة احتلتها بالحيلة، وبحق القوة لا بقوة الحق، وأن المجتمع عرف مع التجربة معنى التحولات الاجتماعية والثقافية التي كانت تعد بتحوله إلى مجتمع المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، تحت سقف الدستور والقانون، اللذين يجعلان من المشاركة في الإنتاج المدخل الحقيقي لاكتساب المواطنة، وتحقيق الاندماج، واعتلاء المكانة الاجتماعية المستحقة، وذلك ما مثل العمق الحضاري للتجربة، الذي كانت تعد به، ولم تتقبله قوى التآمر والتخلف.
إن كل من عاش تلك الفترة وتعايش مع التجربة، يدرك تماماً بأن الحركة ولدت ولادة قيصرية في مجتمع أقل ما يمكن أن يقال عنه بأنه (مجتمع ما دون المواطنة)، تتحكم به ثقافات متعددة سادت في أغلب مناطقه ونطاقاته الجغرافية، فرضت عليه العزلة حتى بين مناطقه، ولا يُكن ودّاً للسلطة المركزية، ولا يثق بمن يتولى مؤسساتها.
مجتمع واحد توزع بين دولتين محكومتين بنظامين سياسيين متناقضين، لا تجمع بينهما ثقة، بل توجّس وعداء وتباغض وحروب. كما أنها جاءت حركة سلمية بيضاء على أنقاض نظام مهترئ ومتخلف، وجيش موزّع الولاءات تدين وحداته وقطاعاته لولاءات قبلية ومشائخية، وحتى مجلس القيادة ذاته كان غير مؤتلف، يجمع بين أطرافه تقاطع مصالح مؤقتة، مع رغبات جامحة بتحيّن الفرص للاستفراد، ونظام سياسي اعتمد في بقائه على دعم قبلي اختلت توازناته، ويعتمد على جباية الواجبات، ودعم خارجي لتغطية أجور موظفيه وجيشه، ولا يجيز العمل السياسي بل يجرّمه، ويصِمه بالعمالة، وغير مهتم بتلبية احتياجات المواطنين، وغير متبنٍ لأي تنمية حقيقية.
وفي وقت كانت فيه القوى السياسية بأغلبها تتوجس من الحركة، ولم تكن مستعدّة لدعمها، إن لم تعادِها باستثناء البعض ومنهم الناصريين الذين وضعوا قيادة الحركة على المحكّ بالبيان الذي أصدرته رابطة طلاب اليمن شمالاً وجنوباً بمصر العربية بعد أقل من أربعة أشهر على قيام الحركة في احتفالاتها بعيد الثورة (سبتمبر) فيما عرف حينها بـ”بيان النقاط العشر” (كتاب الرابطة موقف ص 41، 42، 43). كما أن الحركة ولدت وسط محيط إقليمي لم يقبل بولادتها القيصرية إلا على مضض، وعلى أمل ترويضها أو تدجينها، أو تحيّن الفرص لوأدها، ليقين لديه بأنها بحكم تكوين قيادتها ستفشل حتماً. ولما فاجأت الحركة مجتمعها ومحيطها والعالم بأدائها الذي أسقط رهانات الأعداء، سارعت قوى دولية وإقليمية مثلت السعودية رأس الحربة فيها، بالتآمر مستخدمة مرتزقتها الموصوفين في الداخل اليمني، وتمكنوا من اغتيال قائد الحركة وبعض معاونيه، ووأدوا التجربة، بعد أن تأكد لهم بأنهم إزاء قائد وطني كان يردد دائماً “تجريب المجرّب خطأ والتصحيح بالملوثين خطأ مرتين”، “لم يبقَ مجال لمن يتحمل المسؤولية لمكسب شخصي أو يقفز إليها بالوراثة معتمداً على الشللية والحذلقة والتآمر” (كتاب الخطب ص 232). وكان يعتمد على مخزونه من المحبة والتسامح، والمراهنة على ترشيد الاختلاف مع أعداء الحركة، والثقة بالمجتمع بما يمثله من قوى ناعمة وإن كانت تحتاج (في بداية العهد) إلى إعادة ترميم الثقة بينه وبين قيادة السلطة ليمنحها من طاقاته، وإمكاناته ما تحتاجه من إسناد وحماية.
اختارت قيادة 13 يونيو، الخيار الأصعب، والأكثر كلفة على حساب حقها في الحياة والأمن والسلامة، كما وعت بأن عليها أن تستعد للمواجهة، وهي تدرك بأنها ستخوضها دونما وحدة صف، أو هدف من مجلس القيادة فما دون ذلك
تلك بعض ملامح الظروف التي ولدت فيها الحركة، ثم كان على قوى الخير في القيادة أن تحدد خيارها بين أن تجنح للسلامة، ورغد العيش، والمساكنة مع قوى الشر والتخلف، وبين أن تنحاز إلى معاناة مجتمع طالت عذاباته وآن أوان الانتصار له، وتمكينه من استعادة إرادته.
وقد اختارت الخيار الأصعب، والأكثر كلفة على حساب حقها في الحياة والأمن والسلامة، كما وعت بأن عليها أن تستعد للمواجهة، وعلى مختلف المستويات، وهي تدرك بأنها ستخوضها دونما وحدة صف، أو هدف من مجلس القيادة فما دون ذلك.
فالفيصل في ذلك كله مقتضيات تمكين المجتمع من إعادة تشكيل حياته كما يحب، وبما تمكّنه من مواجهة استحقاقات حاضره ومستقبله، وفي مقدمة ذلك تحديث واستكمال متطلبات بناء دولة حديثة تمتلك سلطات تلبي احتياجاته، وتستجيب لطموحاته وآماله، تؤدي مهامها بتناغم وتكامل، دونما تغوّل أو مصادرة تضرّ بحق المجتمع في امتلاك تلك السلطات، وتوجيهها وفق ما تقتضيه مصالحه، وبما يجعل من يتولى مسؤولية في أي منها (يوقن) بأنه خادم للمجتمع وليس متحكماً فيه: “نحن خدام لكم ولسنا حكاماً عليكم”.
وما إن فاجأت قيادة الحركة المجتمع بقرارات تخفيض الرتب العسكرية وغيرها من الإجراءات على صعيد محاربة الفساد، حتى اكتشف المجتمع بأنه إزاء قيادة مختلفة (وإن كان العديد من أعضائها محسوباً على النظام السابق) وهو الأمر الذي استدعى إعادة النظر، والترقب، والمتابعة.
وما إن هلّت الذكرى الثانية عشرة لثورة سبتمبر/ أيلول 1962، (بعد قيام الحركة بأقل من أربعة أشهر) حتى كانت الجماهير قد أيقنت أن روح الخير تتحكم بقيادة الحركة، حيث وجدت قائد الحركة يكاشفها بقوله: “لقد كانت الأوضاع الداخلية قبل الحركة متردية، وكان تصحيحها فضلاً عن استلامها يحتاج إلى عزم الرسل”، وعرض في الخطاب ذاته ملامح برنامج للحركة، وطلب من الجميع إبداء الرأي فيه. وقال: “أيها اليمنيون الأحرار في كل مكان.. إننا نطمح ومصممون على أن يشمل العدل والرخاء والاطمئنان كل مواطن من مواطنينا، وأن تتاح الفرصة لكل أبناء اليمن أن يتعلموا، وأن يشربوا ماء نقياً، وأن يوفروا المأكل والمسكن والملبس لكل فرد، وأن يكون العلاج في متناول كل مريض، وأن تدخل الكهرباء كل قرية وبيت، وأن نبني جيشاً قوياً يحمي ولا يهدد، وننشد الحفاظ على الوحدة الوطنية قوية ومتينة بين صفوفنا، والأكثر من هذا والأهم أن يكون كل مواطن آمناً على ماله وعرضه، مطمئناً إلى يومه وغده، وأن نكون جميعاً متساوين في الحقوق والواجبات في ظل الشريعة السماوية السمحة، وأن يكون ولاؤنا أولاً وأخيراً لتربة اليمن. إن هذه الطموحات والتطلعات لا بد لتحقيقها من بذل جهود جبارة، ولا بد لها من تعاون صادق ومخلص بين فئات الشعب بروح من المحبة والأثرة، بعيداً عن الأنانيات والمحسوبيات والسلبيات. وأحب أن يكون واضحاً لنا جميعاً أننا في سياستنا سنظل حريصين على أن نمضي في طريق الحوار الأخوي للوصول إلى تحقيق إعادة الوحدة بين شطري الوطن بما يخدم الشعب اليمني ومصلحته العليا”.(ص62،63- سابق).
وبمقدار تفاؤل قائد الحركة وثقته بالجماهير كانت استجابة الجماهير، فبادرت بقيادة المسيرة بتفعيل التعاونيات، وفرض رقابتها الشعبية على أداء المسؤولين في مختلف الأجهزة والسلطات، بل وراحت تلقّن قيادة الحركة أسرار آمالها وطموحاتها، وتسهم بتفاعل عزّ مثيله في إعادة تشكيل حياتها كما تحب. وبادلتها القيادة الوفاء بالوفاء والتضحية بالتضحية، وتمكنا معاً من تحطيم أسوار العزلة (عبر جهود التعاونيات) بشق الطرق، وبناء المدارس، والمستوصفات، وإدخال مشاريع المياه والكهرباء، حتى بات المجتمع خلية نحل لا تكفّ عن النشاط والحركة، ونتج عن ذلك تراكم مصالح متشابكة بين الأفراد والمناطق، وهو الأمر الذي قضى على كثير من أسباب التجافي والتنابذ، وأدرك المواطن والفلاح أين تكمن مصالحه، وكيف له أن يحققها من خلال علاقات إنتاج جديدة، فرضت إعادة تقييم علاقاته وثقافته مع مجتمعه المحلي ومجتمعه الوطني، وبدأت تتشكل ثقافة مواطنة جديدة كانت تعِد بتحقيق تحول المجتمع إلى مجتمع المواطنة المتساوية المرتجى.
تلك المفاعلة بين القائد والجماهير أربكت الأحزاب والقوى المختلفة، وأجبرتها على أن تعيد حساباتها، وتسعى لإعادة تقييم علاقاتها بالحركة، وتقييم أدائها
وما إن هلّت الذكرى الثانية لقيام الحركة حتى كانت الإنجازات تتزاحم سواء على صعيد استحداث المؤسسات المطلوبة لاستكمال متطلبات بناء الدولة، وخاصة في القضاء بما فيها المحاكم والنيابات، ووصولاً إلى إنشاء الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة، وتم القضاء تقريباً على الفساد والرشوة منذ أن تحولت الجماهير إلى سلطة رقابة شعبية أخذت ترصد وتحاسب الفاسدين وتضيق الخناق على المرتشين. أو بإصدار التشريعات والقوانين التحديثية (الكثيرة) ومنها حتى ما تعلق بمنع استخدام سيارات الدولة مدنية وعسكرية خارج ساعات الدوام إلا في حالات خاصة لإنجاز مهام محددة، ومنها أيضاً منع الموظفين في قطاعات الأمن والجيش من التقاضي بالزي الرسمي داخل المحاكم، ومنها منع حمل السلاح، وغيرها كثير مما لا يتسع المجال لذكره. وبمحاربة التبذير، وصيانة الممتلكات العامة، والبدء في استخراج الثروات، وتوسيع وتقوية البنى التحتية، والالتفات لحقوق الفئات والشرائح والطبقات والاحتفاء بالمناسبات الخاصة، ومنها يوم المرأة والطالب والمعلم والطبيب والعامل، وحتى الشجرة أضحت رمزاً وطنياً ذا علاقة بالتنمية والإنسان.
كما أن تلك المفاعلة بين القائد والجماهير أربكت الأحزاب والقوى المختلفة، وأجبرتها على أن تعيد حساباتها، وتسعى لإعادة تقييم علاقاتها بالحركة، وتقييم أدائها، وألجأتها إلى تصحيح العلاقة، أو على الأقل للتعامل بثقافة التقية، خاصة بعد أن بادرها قائد الحركة في عشية 25 سبتمبر/ أيلول 1975، بخطابه بقوله: “نحتاج في اليمن إلى خلق شكل مرن يستوعب الجميع، مبني على برنامج واضح محدد ومتفق عليه، وانطلاقاً من هذه المسلمات حول تعدد وجهات النظر والتصورات والأفكار ومترتبات وجودها داخل الشعوب إيجاباً وسلباً، نعتقد مخلصين أن أمثل وأفضل طريق يجب أن نسلكه من أجل خدمة بلادنا وشعبنا هو الاستفادة من كل الطاقات، ومن كل القوى، وذلك من خلال برنامج واضح ومحدد، يضم الأوليات والضروريات من مطالبنا ومطامحنا التي نحن في الأساس متفقون عليها وليست محل خلاف، ولا مجال مزايدة أو تعجيز تحت سقف إقامة الدولة اليمنية الحديثة، ومفهومها لدينا حكم وطني مستقل”، وقال: “إن تجربتنا لا بد أن تتيح الفرصة للعناصر الوطنية لتأخذ دورها وتتحمل مسئوليتها” (الخطب ص 82).
وللأسف هاهي الأيام بعد كل هذه العقود تؤكد صحة ما ذهب إليه.
كما تحدث عن ضرورة الاهتمام بالقطاعين العام والمختلط وضرورة تنميتهما وحمايتهما، وعن العمال وحقهم بالتأمين والأجور العادلة والرعاية الصحية والخدمات التعليمية والاجتماعية، وعن توجيه نفس الاهتمام للمغتربين. بل أنه في مؤتمرهم الأول قال لهم: “إن المؤتمر سيبحث قضاياكم كاملة، غير أن أمراً واحداً أحب أن يتركز البحث حوله، هو كيف يجب أن ننظم الهجرة؟ وكيف ينبغي أن يكون مستوى المهاجر” (خطابه في المؤتمر). وتحدث عن ضرورة الاهتمام بالقطاع الزراعي ودعمه ورعايته، وعن الوحدة التي أكد بأن التقارير تؤكد على إمكانية تحقيقها في وقت قريب.
إن الحديث لا ينتهي والمجال لا يتسع، ولم يعد أمامي من خيار إلا وضع خاتمة (قصرية) مستشهداً بقوله في 29 مارس/ آذار 1977، بمناسبة “يوم الأم”: “للأسف الشديد أشعر أن هناك أناس قلقون..لا أدري لماذا يقلقون؟ هل الإنجازات التي تبنى لخدمة الإنسان اليمني هي التي تقلقهم؟ هل قرابة نصف مليون من الطالبات والطلبة على مختلف أنحاء الجمهورية ينعمون اليوم بالعلم والتعليم، ستنعم بهم اليمن مستقبلاً في مجالات الحياة المختلفة هو الذي يقلقهم؟ لا أدري هل شق آلاف الكيلو مترات من الطرق المعبدة لكي تربط اليمن ببعضه، ولكي نكتشف أنفسنا وقدراتنا وإمكانياتنا ولكي نوطد المحبة والعلاقات بيننا هو الذي يقلقهم؟ لا أدري هل أن يحل الحب والتعاون بدل البغضاء هو الذي يقلقهم؟ لا أدري هل غرس الشجرة وبذرة الأمل الطيب في النفوس بدلاً من الألغام وأشلاء المشوهين ودماء الشهداء هو الذي يقلقهم؟ لا أدري هل بناء الدولة المركزية التي ينعم كل مواطن في ظلها، بما له من حقوق وعليه من واجبات هو الذي يقلقهم؟ بدلاً من الفوضى والتسيب ومراكز القوى والدويلات. لا أدري.. إنما حين أقول هذا أقوله لكي أكون صريحاً مع شعبنا الكريم الذي أعرف، وأنا متأكد جداً بأنه اليوم يعرف طريقه، وأنه يعرف اليوم أعداءه وأصدقاءه. وأنه يعرف من يقلقون على مصالحهم الشخصية، فهل أقلقهم أن تتحول الصورة نحو البناء وطريق السلام. ونحن نترك للأعمال بأن تتكلم، وندعو كل أبناء الشعب إلى أن يلتفوا في وحدة صادقة لبناء أجيالهم، وها نحن اليوم نكرم الأم التي لها علينا جميعاً الفضل الأوفر والكبير. وإننا حينما نكرم الأم إنما نكرم أنفسنا”. ولقد كانت الحركة بما تقدم، شاهدة على نفسها إذا ما ربطنا ذلك باغتيال القائد بعد هذا الحديث بأشهر.
تلك كانت بعض ملامح العلاقة بين الحركة والجماهير، وفيها عرض مقتضب وغير مكتمل لشذرات من إنجازات الفترة، فهل مثلت الحركة انحيازاً لخيار الجماهير؟ إنني موقن بذلك. كما أن ذكراها (وفيها أجيال لم تعش التجربة ولم تلمس آثارها) وقائدها النبيل، تشي بذلك.